نوافذ للحوار| شريف حتاتة: «أخونة» الثقافة أو السيطرة عليها لن تكون سهلة (حوار: سلوى عبدالحليم)
حوار: سلوى عبدالحليم
بعد عشرة أعوام على صدور سيرته الذاتية «النوافذ المفتوحة»، صدرت أخيراً للروائي المصري شريف حتاتة (1923) رواية عنوانها «رقصة أخيرة قبل الموت»، عن دار «المحروسة» في القاهرة، اعتبرها بعضهم حلقة في تلك السيرة. ويقول حتاتة إنه شعر وهو يكتب تلك الرواية بأنه كالسائر فوق رمال متحركة، وبأنها بمثابة ابن له يولد في نهاية المشوار.
يرى حتاتة أن الحريات في مصر مهددة، وأن على المثقفين المصريين خوض معارك طويلة في مواجهة من يسعون إلى «أخونة الثقافة»، متوقعاً استمرار الأوضاع السيئة التي تعيشها مصر لفترة طويلة، «فالظواهر تقول إن حكم الإخوان مستمر على رغم عدم استقراره، والبديل غير موجود».
هنا حوار معه:
> «رقصة أخيرة قبل الموت» رواية سيرة، «النوافذ المفتوحة» أيضاً كانت سيرة، ما الباعث على الكتابة هذه المرة؟
– استغرقتُ في كتابة «النوافذ المفتوحة» سبع سنوات وانتهيت منها في 2003. قدمتُ خلالها تجربة حياة طويلة مليئة بالجهد والعمل، عانيت فيها كثيراً من الظلم والقهر، لكنني قاومت ولم أهزم. أعيش الآن مرحلة حياتية جديدة لرجل تسعيني يواجه مشاكل الشيخوخة، رجل مسكون بحب الحياة والرغبة في الاستمتاع بكل لحظة فيها. حين نشعر باقتراب الموت ندرك قيمة الحياة ونرغب بأن نعيشها في شكل أعمق. في السنوات الأخيرة عشت تجربة حب مع امرأة تصغرني بخمسة عقود، انتهت بزواج البعض ينظر إليه باستغراب شديد، إلى جانب تجربة الثورة، وتجارب كتابة جديدة اكتشفت بعدها أن عندي ما أريد قوله.
وعندما انتهيت من كتابة الرواية، احترت ماذا أسميها، وكنت قد دعيت إلى حفلة زفاف حفيدة أختي في باخرة فرعونية على النيل، كانت هناك فرقة موسيقية تعزف والشباب يرقصون. أثناء تجوالي بين المدعوين فجأة وجدت نفسي أشارك الشباب الرقص. ظللت أرقص حتى نهاية الحفلة. لا أدري كيف فعلت ذلك، على رغم أنني أعاني مشاكل صحية في القلب. نحن مقيدون طوال الوقت. في الرقص يحرك الإنسان كل جزء في جسده، وقتها يشعر بأن هذا الجسد يتحرر. الرقص له تأثير ذهني وعاطفي في الإنسان، فمن خلاله يمكن التعبير عن مشاعر إنسانية مثل: الفرح، الخوف، الحزن، الغضب، الحب، وغيرها.
> عندما قررت كتابة هذه التجربة الخاصة، ألم تخشَ رد الفعل؟
– الكتابة بين أهم المجالات التي تعطي الحياة معنى وقيمة، عندما أتوقف عن الكتابة تبدو لي الحياة كئيبة. أحاول كسر القيود كافة. طبعاً، لن أفلح في تكسيرها كلها، لكني أحاول دائماً. عمري الآن تسعون عاماً. في هذه السن أمر طبيعي أن أفكر في الموت لأنه قريب، لكن كيف يفكر إنسان في الموت ويعيش حياته في الوقت ذاته؟ هذا الإنسان لا بد أن يقاوم الموت، وحتى يستطيع مقاومته عليه أن يصبح مثل الممثل الذي يقف على خشبة المسرح ليؤدي آخر أدواره قبل أن يعتزل، لذلك يكون حريصاً على أن يمثل دوراً لم يمثله من قبل. كتبت «رقصة أخيرة قبل الموت» لأني كنت مسكوناً بالرغبة في تناول التجربة، لكنني بعد أن انتهيت من كتابتها سألت نفسي: تُرى كيف سيكون رد الفعل؟
> تقول: أنا من المهتمين بالجنس والعلاقة بين الرجل والمرأة… لماذا؟
– النظام الرأسمالي الحالي متحكم في العالم من خلال الأسرة، خلية المجتمع. هذا النظام الأبوي يلعب دوراً في استمرار النظام العام الموجود. عندما يكون هناك اهتمام بالجنس مبالغ فيه، وعندما تكون هناك محاولات لنشر أنماط شاذة للجنس، فهذه سياسة. ولماذا هي سياسة؟ لأنها تحول اهتمامات الإبداع إلى جهات أخرى قد تكون مفيدة في أحيان ومضرة في أحيان أخرى. غير صحيح أن كل إبداع جميل مفيد ويجب تشجيعه. هناك إبداع مضر، فعندما يحصل كاتب بريطاني عنصري ورجعي الأفكار مثل نيبول على جائزة نوبل فإن هذا أمر يستحق التوقف عنده. لا أعتبر ما قدمه نيبول عملاً إبداعياً، فالأدب الذي لا يقف مع الإنسان ويؤدي إلى تقدمه وتعمقه في فهم ما يدور حوله بحيث يستطيع العيش بطريقة أفضل، هو أدب ضد الإنسان. وعموماً أنا لستُ من مؤيدي ما يطلق عليه الأدب الملتزم لكني مع الأدب الملتزم بالإنسان.
> ذكرت في كتابك «تجربتي في الإبداع» أن الفرعون لا يكتب سيرته الذاتية… كيف ترى واقع السيرة الذاتية في العالم العربي؟
– السيرة الذاتية في معناها الحقيقي أن يكتب الإنسان عن حياته وتجاربه، عن مشاعره وأحاسيسه، وإذا كتب عن الآخرين يكتب عنهم من خلال علاقته بهم. عندما كتب لويس عوض الأجزاء التي تحدث فيها عن نفسه وعن أسرته كانت سيرة ذاتية، أما تلك التي تحدث فيها عن ريا وسكينة وحزب الوفد وما إلى ذلك، فإنه كان يبتعد بها عن تلك السيرة. السيرة الذاتية لا تُكتب تمجيداً للذات. إذا أراد إنسان أن يكتب سيرة ذاتية تتسم بالصدق، فإن عليه أن يكتب عن عيوبه وضعفه الإنساني، عن الأشياء التي كذب فيها، وعن تلك التي خان فيها، عن مواقف واجهها برقي ونُبل، وعن أخرى كان عديم الأخلاق في مواجهتها.
أعتقد أن النساء أكثر ميلاً من الرجال لأن تتضمن كتاباتهن جزءاً من ذواتهن، وهذا أمر مهم في رأيي، لأنهن يكتبن شيئاً الرجال لا يعرفونه، وكثير من النساء أيضاً لا يعرفنه، وبخاصة النساء اللائي لم يكتبن ولم يعبرن عن أنفسهن.
> مارست العمل السياسي سنوات طويلة وسُجنت… كيف ترى العلاقة بين السياسة والأدب؟
– نفهم السياسة على أنها أحزاب معارضة وبرلمانات وحكومات، وهذه نظرة قاصرة، فالسياسة تدخل في تفاصيل حياتنا بدءاً من التوازن بين القوى العالمية المختلفة، وصولاً إلى العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة والعلاقة بين الرجل والمرأة. في السنوات الأخيرة، وفي ظل وجود العولمة، وثورة الاتصالات تغلغلت السياسة إلى داخل غرف النوم وأصبح تأثيرها في حياتنا مستمراً.
> الأديب والسياسي، أيهما أفاد من الآخر؟
– «صاحب بالين كداب». لا يستطيع إنسان أن يكون سياسياً يمارس العمل السياسي في شكل يومي ويعطيه وقته، وعلى جانب آخر يكون مبدعاً وأديباً. أقول هذا الكلام لأنني لم أبدأ كتابة الأدب إلا عندما قل نشاطي السياسي. حالياً أنا عضو في حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، وفي الوقت نفسه أنا من اليساريين. عضويتي في الحزب تمنحني فرصة الإطلال على ما يحدث، إلى جانب قيامي ببعض النشاط البسيط الذي يمكن أن يفيد وبخاصة في الثقافة. لا يمكنك كتابة أدب من دون فهم للمجتمع الذي تعيش فيه، والسياسة جزء أساسي من المجتمع، فهي تلعب دوراً مهماً في مضمون الأدب وشكله. بالنسبة إلى مسألة الإفادة، أعتقد أنها متبادلة.
> هل أنت نادم على انهماكك في العمل السياسي في شبابك؟
– ندمت على عدم إدراكي آلام أبي وأمي فترة انهماكي الشديد في العمل السياسي ودخولي السجن وأنني لم أحسن التعامل معهما وقتها، بعد خروجي من السجن شعرت بميل للراحة فترة من العمل السياسي، والبحث عن عمل يؤمن لي سبل مواصلة الحياة، كتبت عن هذه الفترة وأسميتها فترة انتهازية لكنني سرعان ما تداركت نفسي. بعدها، بالنسبة إلى حياتي الشخصية، شعرت بالندم وعدم الندم في آن إزاء زوجتي السابقة نوال السعداوي ويمكن أن أصفه أنه حزن أكثر منه ندماً، لأنني وعلى رغم الهجوم العنيف والاتهامات الشديدة التي نالتني منها بعد انفصالنا، حاولتُ الحفاظ على علاقة طيبة بيننا، وكنتُ حريصاً على زيارتها والسؤال عنها لكنها لم تتحمل ورفضت، فالأمر، على ما يبدو لي، كان صعباً عليها.
> في رواية «الوباء» تناولت حركة فلاحين ذات أبعاد ثورية قامت وانهزمت في النهاية، كيف ترى ما قام به المصريون في 25 يناير؟
– دائماً، كان لدي إحساس داخلي عميق بأننا لا نستطيع أن نقوم بثورة ناجحة، وأنا من الذين كتبوا مبكراً عن ثورة يناير ولي مقال منشور عنوانه «الربيع العربي لم يأتِ بعد»، قلت فيه إن ما قمنا به يوم 25 يناير ليس ثورة. صحيح أننا واجهنا نظام مبارك، لكننا أيضاً كنا نواجه قوى عالمية تساند هذا النظام. هذه القوى ليست هينة، ولا تعمل لمصلتحنا والدليل هو الحاصل الآن. هذه القوى تتحدث عن الديموقراطية وهي تفتقدها وفي أحيان كثيرة تشتريها.
> أنت شاركت في هذا الحراك، صف لنا شعورك وقتها؟
– كنت سعيداً، لكنني في الوقت نفسه، كنت خائفاً. كنتُ أتساءل: ماذا سيحدث؟ لأنني كنتُ أدرك أننا لا نمتلك القوى الشعبية المنظمة التي تستطيع أن تكمل المشوار حتى تتحقق أهداف الثورة، لذلك وصفتُ ما يحدث وقتها بأنه تحرك ثوري أو حركة ثورية عظيمة لكنه ليس ثورة، لأن الثورة هي انقلاب واستيلاء على الحكم بحيث يصبح هناك نظام جديد.
> في روايتك «ابنة القومندان» انتقدت الفكر اليساري، الآن وفي ظل حركة شبابية كانت اللاعب الرئيس في أحداث الثورة كيف ترى اليسار المصري؟
– اليسار حوصر كما تحاصر الحركة الشبابية الآن. الفارق بين اليسار والأحزاب الأخرى هو أن هذه الأحزاب، على اختلافها، تعمل في ظل النظام نفسه، لكن اليسار يريد أن يغير النظام أولاً حتى يمكنه العمل، وهذه مشكلة كبيرة معقدة حتى تحدث يجب أن يكسب اليسار غالبية ساحقة من الناس مجتمعين. اليسار وبعيداً من عيوبه الذاتية، قدم أشياء جيدة كثيرة، لكنها كانت تفشل بسبب السجن والملاحقة والاضطهاد المستمر الذي أوجد نوعاً من اليأس والإحباط وأدى إلى تزايد الصراعات الداخلية، بخاصة بين الأجيال القديمة والجديدة.
> هناك محاولات للتضييق على الحريات و «أخونة» الثقافة المصرية، وفي المقابل هناك مثقفون يحتجون بطرق مختلفة لكن، تظل ممارسة الإبداع الضمانة الحقيقية لمواجهة تلك المحاولات؟
– أتفق معك تماماً. الإبداع تمرد على القديم وبحث عن الجديد والمختلف. بوشكين ودوستيوفسكي، كانا يكتبان في ظل القيصرية التي كانت تقهر الكُتاب. محاولات «أخونة» الثقافة والسيطرة عليها لن تكون سهلة، سنخوض معارك طويلة. الرد الحقيقي على هذه المحاولات يكون من خلال زيادة العمل والكتابة والإبداع في مختلف المجالات. حتى لو صودرت هذه الأعمال أو مُنعت، نستطيع أن نبحث عن وسائل أخرى لنشرها.
> ما رؤيتك للأوضاع التي تعيشها مصر الآن؟
– لدينا ميل لاعتبار كل مشاكلنا مشاكل محلية نظراً إلى ارتباطها بالنظام الاجتماعي والاقتصادي، لكننا لسنا منتبهين لفكرة العولمة والتطور الخطير الذي حدث في العالم منذ أواخر السبعينات. مصر جزء من عملية العولمة وخاضعة لها وللسوق العالمية وللقوى الاقتصادية والعسكرية المسيطرة على العالم. هذه القوى تبدأ عملها في كل أنحاء العالم من طريق القوى المحلية الموجودة في الحكم. هذه القوى لديها استعداد لأن تعزل عن الحياة ثلث البشرية وأن تستغني عنها، لأن الاتصالات والأدوات الحديثة تسمح لها أن تعمل بعدد محدود من الأيدي العاملة بصرف النظر عن حال الفوضى الموجودة. في السابق كانت هذه القوى تعمل من طريق مبارك. الآن هي تراهن على «الإخوان المسلمين»، لأنها لا ترى بديلاً، ولأن الأميركيين ليس لديهم أي مانع في التعامل مع أي قوى طالما حافظت على مصالحهم. الأوضاع السيئة التي تعيشها مصر الآن، للأسف ستطول. الظواهر تقول إن حكم «الإخوان» مستمر، على رغم عدم استقراره وعدم قدرته على الإدارة ومواجهة الكثير من المشكلات، لأن البديل غير موجود. ربما يعتقد البعض في وجود بديل الآن، لكن ما أقصده هو البديل القادر، وهذا للأسف غير موجود، فالأحزاب ضعيفة واليسار أيضاً ضعيف.
> وكيف يكون الخروج من هذا المأزق؟
– الأوضاع في مصر ليست مرتبطة بما يحدث في الداخل فقط ولكن بما يحدث في العالم ككل. نعيش في نظام واحد ونرتبط ارتباطاً كبيراً بما يحصل في العالم الخارجي، فلو أن هناك على النطاق العالمي انتصارات تحققت ضد القوى العالمية والتي تلعب دوراً أساسياً في ما يحدث في بلادنا، فإن أصداء هذه الانتصارات ستؤثر في الأوضاع لدينا وتعدل من مسارها. لا يوجد لدينا مخرج سليم لما نحن عليه الآن. قد يرى البعض في كلامي نظرة تشاؤم، لكن تحسن الأوضاع مرتبط بجهد الناس وجهد القوى الديموقراطية وإرادتها السياسية أن تتحد وتتعاون لتصبح قادرة على التغيير.
صحيفة الحياة اللندنية