بدأ الشاعر اللبناني عباس بيضون الكتابة في أوائل السبعينيات ونشر أولى أعماله “الوقت بجرعات كبيرة” عام 1982 وكان عمره وقتئذ ثمانية وثلاثين عاما أي أنه عاش الثورة الشعرية اللبنانية إذا جاز التعبير في أواخر الستينيات وخلال السبعينيات. وهذا يحفز على الاعتقاد بأنّ هذه الثورة مثّلت أحد أسباب تأخره في دفع أولى أعماله للنشر خاصة وأن ديوانه “صور” يسبق في الكتابة هذا الديوان.
وفي هذا الشأن، يجيب عباس بيضون قائلا: “مجموعة صور عبارة عن قصيدة طويلة كتبت بعد انقطاع سبع أو ثماني سنوات عن الكتابة، كتبت على أعتاب الحرب الأهلية (كتبت سنة 1974)، والحرب جعلتها بالنسبة إلي ولفترة طويلة ماضية ومتجاوزة لأسباب لا أريد الآن أن أخوض فيها، هذه قصيدة ملحمية ذات فضاء تاريخي ومكاني، وكل ذلك تفتت بفعل الحرب وضاق وتجزأ وتحول إلى ذرات صغيرة، المكان والزمان تجزآ بفعل الحرب وتحولا إلى زنزانات مغلقة، ولحظات ضيقة، وبات بالنسبة إلي مستحيلا البدء بنشر ـ كتابة ذات حيز فضائي ومكاني وزماني وتاريخي واسع كما هو الأمر في قصيدة صور ـ كتابة إنشادية وملحمية، وتأخرت مرة ثانية لمدة خمس سنوات دون كتابة إلى أن عثرت مجددا وعبر قراءاتي وتفكيري على كلمتي الشعرية.
في الواقع هناك تاريخ من الانقطاعات، لكن لا في “صور” ولا في كتابتي التالية كنت معنيا بما تسميه الثورة الشعرية اللبنانية، أنا من الشعراء الذين كان شعرهم ردا ضمنيا على هذه الثورة، ولا أنتسب شعريا إلى مجلة “شعر” مثلا ولا أنتسب شعريا إلى الشعراء اللبنانيين المعروفين، بالعكس شعري كان ردا على التجريدية والشمولية والتشخيصية والجمالية المفرطة والفصاحة والدراماتيكية المفرطة والبطولية ـ بطولية الشخص بعد الشاعر أن يبدو كبطل لشعره ـ، شعري تماما في المقلب الآخر، وأرد ذلك في الواقع إلى ماركسيتي، كنت آتيا من ثقافة أخرى، كنت آتيا من الجنوب سيرة أخرى وآتيا من الماركسية من ثقافة أخرى، وآتيا من الشعر العالمي من منبع آخر، وحتى عندما كتبت قصيدة “صور” مثلا كانت تملك رؤية تاريخية وثقافية وسياسية ـ إذا جاز التعبير ـ لا تشبه الرؤى المجردة والتشخيصية والطوبوية سواء كانت الطوبة المضادة أو الطوبة الشعرية التي نجدها في الشعر اللبناني، تأخرت لأسباب عديدة بعضها ذكرته عن النشر، كتبت “صور” ورأيت أنها ماضية بسرعة وبفعل الزمن والحرب، واقتضى الأمر وقتا طويلا لأفكر أن “صور” ليست ماضية وأن بوسعي أن أعيد نشرها، وانتظرت خمس سنوات حتى عدت للكتابة عام 1978، ثم هناك كسلي الشخصي عن النشر، لقد نشأت في جو لا يحترم كثيرا بروز الأسماء، كما اقتضى الأمر وقتا طويلا حتى أهتم باسمي”.
• لغة زائفة
يذهب الكثير من القرّاء إلى القول بأنّ صور عباس بيضون الشعرية ما تزال محافظة على حيويتها وتألقها، وهو أمر قال عنه الشاعر: “لا أعرف من أين تأتي صورنا. إننا نملك افتتانا بنوع من الصور، من التكوينات، من التشكيلات. الصورة ليست كناية ولا رمزا، إنها نوع من الحضور”.
وعمّا يربط بين نصوص كتبها عن مدن باريس وبرلين وبيروت، يقول بيضون: “لا شيء، النص الأول (كفار باريس) كتب منذ فترة طويلة، بينما برلين بعد فترة، وبيروت بعد ذلك أي في السنوات الثلاث الأخيرة، عملياً ما أود قوله إننا لا نستطيع أن نجد صلة فردية بين هذه النصوص الثلاثة وهي لا تشكل أجزاء من رواية وأنا شخصياً لا أنصح بقراءتها كذلك وكأنها ثلاثة فصول من رواية ما، كل نص على حدة وكتب على حدة بمتطلبات وآفاق مختلفة، فحتى إذا كان هناك نصان متقاربان في الكتابة ليسا متصلين بأي حال، وحدها القسوة هي التي جمعت بينها ولكن هذا ليس بالجديد، لأنني اعتبر أن كل كتاباتي قاسية”.
يميل البعض إلى اعتبار أنّ في شعر عباس بيضون قتلا للغة التراثية التي هو على دراية بها بسبب قراءاته من جهة وبسبب تربيته الأولى على يد والده الذي كان كاتباً كلاسيكياً وجده لأمه الذي كان رجل دين، وهو قول يؤكّده الشاعر قائلا: “لدي مقاومة لقوة اللغة. هذا تنظير لي وليس للعموم: الشعر يملك أضعف لغة وأبسطها. أبسط بالقياس إلى ما يمكن أن تُكتب فيه الأشياء. يعني إذا كتبت جملة شعرية فلسفياً سيبدو أن لغة الشعر أبسط من لغة الفلسفة”.
وحول الاعتقاد بتأثّر عباس بيضون بوتسوس، يذكر الشاعر أن: “وتسوس هو أحد معلمي الأساسيين وهذا ما قلته أكثر من مرة. سنة 1975 كنت في فرنسا وكنت منقطعا عن الشعر، وبعد “صور” “التي كتبتها سنة 1974 والتي شعرت إنها لم تعد لغتي، إذ مع الحرب أضحت هذه اللغة زائفة، تكاد تكون أكذوبة شخصية حيث لم أعد أملك مخيلة بهذا المدى” كان وتسوس بالنسبة إلي ملهما وحافزا.
إذ مع الحرب تفتتت المدينة والتاريخ وكان علي أن أبحث عن لغة صغيرة وقريبة وتفصيلية ومادية. كأن وتسوس كان اقتراحا شعريا لي بعد أن انقطعت عن الكتابة لمدة أربع سنوات”.
ولعلّ في هذا ما يدعم الاعتقاد بأن الشعر لغة عالمية متواصلة، وعن هذا يقول بيضون: “ليس عندي حساسية تجاه شعراء أجانب، شعراء لا يكتبون بلغتي وأجد سهولة فائقة في التواصل معهم لا أجدها مع شعراء عرب، فالشعر العربي فيه شيء من الاختراع، من الاجتراح، وليس دائما عضويا وفيه الكثير من الادعاء، ليس الشعر العربي دائما حقيقيا وحميميا وداخليا”.
• وطنيات كبرى
عن علاقة قصيدة النثر بالشعر وهل للنثر أن يكون شعراً، يقول بيضون: “لنبدأ بالبسيط بل الأبسط، بالسؤال الذي بدأ نكاية وغدت العودة إليه نكوصاً إلى طفولة النقاش. سؤال هل قصيدة النثر شعر وهل للنثر أن يكون شعراً. إنه كما ترون سؤال لعوب وضرورة منطقية، لم يكن خطراً لأن واضعيه كانوا يفترضون أنهم يعرفون ما هو الشعر وما هو النثر. وعليه فإن الشعر ليس نثراً والنثر ليس شعراً. لم يدر في بالهم أن يبدأوا بسؤال أول ما هو الشعر. لو بدأوا به لعلموا أن ليس في مقدور أحد أن يتأكد من أن قصيدة النثر شعر أو أن قصيدة الوزن شعر. ولا أن المتنبي شاعر أكثر من سقراط ولا هيغو أكثر من ستاندال ولا هوميروس أكثر من إقليدس أو لوكوربيزيه.
لعلموا أن هذه حيرة لا نهاية لها، لعلموا أن السؤال الأول لا يزال عالقاً ولسنا نعلم استطراداً ما هو التصوير ولا ما هي الموسيقى ولا ما هو المسرح أو الرقص، رغم أن هذا السؤال هو المحرك الخفي لتقلبات الفن ومسيرته”.
لا يذهب عبّاس بيضون مع الرأي القائل بوجود علاقة بين الشعر والحقيقة، بل هو ينكر أن تكون الصلة بينهما سهلة في قوله: “فالشعر والحقيقة مفهومان بلا تعريف، كأننا تقريبا بلا لغة. في المنطقة الرمادية الوسطى حالة من الكمون شبيهة بالتخمر شبهَها بالاستنقاع أو الاحتضار الطويل، وربما كانت هذا أو ذاك أو ذلك. قد تطول الساعة الرمادية أو تقصر لكن اللغة المعارة لن تغدو حقيقة. ومهما طال ذلك الدوي فلن يصبح زمنا فعليا.
ربما هو انتظار شاق. انتظار الوقت لناسه. من الصعب الخروج من نفق الوطنيات الكبرى إلى شيء أبسط من عدم الأمان، ومن الصعب موازاتها بأحلام من الحجم ذاته. لا شيء يعادل البرانويات الضخمة والاحتقانات الضخمة والكراهيات الضخمة.
وإذا شئنا أن نصل إلى بر فسنجد أنفسنا مطرودين خارج كوابيسنا العملاقة وأحلامنا. ستكون الخيبة حاضرة في كل وقت، فالسلم دائما بارد وليس مثيرا بالطبع.
هذا التدرج البطيء في التعايش كما يقال والتدرج البطيء في الحرية الشخصية والحياة الخاصة والقيام بلغة أم مع تعدد لغوي ولا بأس من سنوبية عالمية، فهذه تغدو مع الزمن تقليدا. سيكون هذا باردا وبطيئا ولا يشكل جماع حلم أو كابوس، لكن تعريفات العالم والإنسان تصبح اليوم أكثر فأكثر متفرقة متعارضة”.
• الحياة الباقية
كثر الحديث عن إشعاع شعري لبناني بالنسبة إلى البلدان العربية الأخرى، لكن ماذا عن تأثيرات العرب في الشعراء اللبنانيين. هذه مسألة تكاد تكون غائبة عن المشهد النقدي، ويرى بيضون أنه: “يجب التمييز بين أمرين، بين مدرسة بيروت و بين المدرسة اللبنانية. مدرسة بيروت صنعها كل الشعراء وبينهم شعراء عرب من عراقيين وسوريين وفلسطينيين.
أعتقد أن مناخ بيروت يسمح للآخرين بالعيش بتخفف من ضوابط الموروث وضوابط أخلاقية ونفسية وثقافية. هذه بلد خفة وسنوبية وكوزموبوليتين (الكونية) يسمح للآخرين بالخروج بسهولة من جلودهم. مدرسة بيروت ليست لبنانية بل عربية و عدد الأسماء فيها كثير.
المهم أن المرور في بيروت سمح للناس بألا يظلوا أسيري رؤية ضيقة للشعر والسياسة وعلاقة الشعر بالثقافة والسياسة. على الأقل سمحت لهم بيروت بالتوسع في هذه المسائل. أما الشعر اللبناني فكان أقل تأثيراً”.
تحدّث عباس بيضون عن الشاعر محمد الماغوط، فقال: “المدينة الانتقالية الموقوفة، على حد تعبير وضاح شرارة، هي التي صنعت المفاجأة الماغوطية، كانت للماغوط عينان جديدتان، لأنهما رأتا في هذه اللحظة ما لم يره الشعراء.
فتنة الشارع وارتجالات الشارع وقوة الفعل والمادة والمفارقة في الصورة الشارعية. ثم الإيقاع المونولوجي الحواري لحياة التجوال والإغراء المونتاجي الكولاجي والفيلمي للتسكع المديني.
فالشخصية الصعلوكية التي هي نتاج المجانية المدنية وأخيراً هناك لغة المفارقة، لغة الاندهاش والاكتشاف والصدمة. فالسحر المدني وإدمان المدن هما المرض المقابل لخيانة أصلية، بل هنا الخيانة والانشقاق الإدمانيان اللذان يؤسسان للتجربة المدينية”.
• درويش لم يساوم الموت بل ألقى عليه خياره
أمّا عن محمود درويش، فيقول: “رحيل محمود درويش هو رحيل شبه طوعي أراده محمود درويش بقدرة شاعر على أن يقرر في لحظة حاسمة كل شيء أو لا شيء، لم يساوم محمود الموت بل ألقى عليه خياره القاطع كل شيء أو لا شيء.
كان محمود أنيساً ولماحاً وفكهاً ودبلوماسياً وفاتنا وجميلاً. لكنه كان أولاً وثانياً وثالثاً شاعراً. أراد ذلك وهو في غماره. أراده وهو في ذروته هذا ما أرّق درويش الذي خشي أن يغدو “الشاعر” من قديمه وأن يكون أكبر من شعره.
أفكر أن محمود درويش في تلك اللحظة اختار الشعر أو أن خياره كان شعرياً. جازف بموت شبه محقق لأنه لحظة النجاة بالشاعر على حساب الرجل، وها هي ثلاث سنوات ولا زلنا عند خيار درويش الرجل أم الشاعر، يبقى علينا أن نخرج نحن أيضاً من الحداد، أن نعلن مع درويش انتصار الشاعر. لن نقول بالطبع إنه أمير الشعراء، لقد رفض درويش الملك والإمارة في سبيل أن يكون شاعراً، ولن نراعي درويش إذا قلنا إنه الشاعر وإن شعره هو بمعنى ما، حياته الباقية والثانية”. ويقول عباس بيضون عن أدونيس: ” أعتقد أن أدونيس شاعر لبناني بغض النظر عن أين ولد. أدونيس قد يكون الأكثر لبنانية بين الشعراء اللبنانيين، وهذا كتبته من قبل”.
• سؤال الحياة
كيف يفكّر جسد عباس بيضون؟ هذا سؤال وجد فيه الشاعر سؤالا غير عفوي، بل هو سؤال بريء، ومشكلته أنه سؤال حياة، ويقول: “لا أستطيع أن أتكلم عن جسدي وكأنه موضوع من موضوعاتي. أظن أن جزءاً كبيراً من كتاباتي يدور في هذا الكلام سواء سميته أم لم أسمّه، وجزء كبير من كتاباتي وتفكيري هو هذه العلاقة بهذا الجسد، هو علاقتي بجسدي هو علاقة جسدي بي، هو لغة جسدي ولغة رأسي، هو لغتي أنا.. إلخ، لا أريد أن أجيب عن سؤال بهذا العرض.
باستمرار كانت لي علاقة ملتبسة وإشكالية بجسدي، أنا رجل أسمي نفسي أعثر maladroit أي شخص لا يملك جسداً، شخصاً أخرق يخطئ كل مرة في استعمال جسده. إذا أمسك كأساً تسقط منه، وإذا مشى اصطدم بكل شيء، جسده يبدو بصورة أو بأخرى كأنه فالت منه. أو جسده يبدو بشكل أو بآخر كأنه فوضى خاصة.
كانت هذه باستمرار مسألتي، مسألة رجل يحمل جسداً أخرقاً، جسداً أعثر، رجل يملك هذه الصلة، وهذه اللحظة الناقصة دائماً مع جسده، هذه اللحظة الأخيرة الناقصة دائماً في العلاقة مع جسدي. هذا يستدعي تاريخاً كاملاً قد يكون بصورة أو بأخرى تاريخ حياتي وسيرتي الشخصية”.
وختمنا حوارنا مع عباس بيضون بسؤال ماذا سيكون لو لم يكن شاعرا، فأجابنا: “أنا أحب الرسم، هناك رسام يعيش بداخلي، هذا الشيء لم أفكر به لكنه طي داخلي، الرسم يعطيني فرحاً لم تعطني أياه الكتابة، فالرسم يتميز ويحتفظ بقدر من الطفولة، “بيكاسو” قال “الرسم هو عودة إلى الطفولة”، أنا اليوم “أخربش” بعضها يبقى معي و بعضها يرمى في سلة المهملات، واليوم أستعيظ عن الرسم بالنقد التشكيلي، أصدرت كتابا وهو عبارة عن مقدمة للتشكيلي اللبناني “حسن ماضي”.
لا تزال فكرة تحدّي نبرته وتجاوز تجربته، ممارسةً مفضلةً في كتابته. لكن كسل عباس في تدقيق البروفات الشعرية ــ كما يعترف بنفسه ــ وعدم جلده في تبييض مسودات أعماله يؤجل صدورها. ليس لدينا سوى الانتظار”.
ميدل ايست أونلاين