نوافذ للحوار| فايز قزق: لم أجد شخصية تحمل وعي المهندس الذي بنى البيت الدمشقي
حوار: سامر محمد اسماعيل-
نال جوائز عديدة في فن التمثيل، كان أبرزها جائزة أفضل ممثل مناصفة مع الفنان الراحل نضال سيجري على دوره في مسرحية «حمام بغدادي ـ 2008» تأليف وإخراج جواد الأسدي؛ لتبدأ بعدها جولته على مسارح العالم في كل من دمشق ولندن ونيويورك وواشنطن وباريس وأمستردام بعرض «ريتشارد الثالث ـ مأساة عربية» التي لعب فيها شخصية الطاغية الشكسبيرية الشهيرة مع المخرج سليمان البسام وفرقته الملكية البريطانية؛ ها هو المخرج والممثل المسرحي فايز قزق يتابع تدريسه لطلاب قسم التمثيل بالمعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق؛ متمماً مسيرة عشرات العروض المسرحية التي كان قد بدأها ممثلاً بعد تخرجه من دمشق عام 1981؛ بمسرحية «رأس المملوك جابرـ 1984» مع جواد الأسدي أيضاً؛ ليكملها بعشرات العروض التي أخرجها للخشبة بعد حصوله على ماجستير في الإخراج المسرحي من جامعة «ليدز» ببريطانيا؛ كان أبرزها «رجل برجل ـ 1990» و«موكب السمك ـ 1999» لبريخت، إضافةً لمسرحية «حلم ليلة صيف ـ 1988» لشكسبير، وعروض أخرى راهن هذا الفنان من خلالها على فصاحة فن الخشبة في مواجهة توحش الميديا؛ متنبئاً بكارثة بلاده الماضية – المستمرة فكان أهمها: «النفق- 2005؛ النو ـ 1989؛ وعكة عابرة – 2004، حكاية السيدة روزالين- 2010».
معه الحوار الآتي:
÷ كنتَ في صدد إخراج عرض للمسرح القومي بدمشق؛ لماذا اعتذرت عن تقديم هذا المشروع في آخر لحظة؟
} ضمن الظروف الحالية من الصعوبة أن يكون هناك وقت لدخول الممثلين في عرض مسرحي جديد أو قديم، فحتى في الظروف العادية كانت دوماً الأمور ليست جيدة للبدء بنشاط مسرحي، بمعنى أن يكون هناك فرق مسرحية على مدى العام؛ وفي كل الأماكن؛ ليس في دمشق وحسب، بل في حلب وحمص واللاذقية ودير الزور والحسكة؛ وكل مكان كان يشهد حراكاً مسرحياً كان من المفترض أن توطّن فيه فرقة مسرحية؛ خصوصاً بعد أن بدأ المعهد العالي للفنون المسرحية بإنتاج ذلك الممثل السوري القادر على الوقوف على خشبة المسرح؛ قبل الوقوف أمام كاميرا تلفزيونية أو سينمائية؛ فالمسألة لها علاقة بسياسة وزارة الثقافة السورية، كما هي الحال في وزارات الثقافة في البلدان العربية كافة؛ فهم لا يعنون وليس في ذهنهم بناء مسرح بالمعنى الحقيقي؛ وإنما يحرصون كل الحرص أن يكون هناك ما يشبه نزيزاً مسرحياً، أو نزيزاً سينمائياً؛ إما لإرساله لمهرجان أو لترتيب حفلة لقادم أو زائر للبلد؛ إضافةً لما يمكن أن يناله الفساد من وقت وزارة الثقافة وترتيب الفواتير عبر مجاميع إدارية مترهلة تتحكم بالمفاصل هنا وهناك وبصالات العرض وميزانياتها، سواء على مستوى مسارح المراكز الثقافية في المدن والبلدات؛ أو حتى على مستوى الأبنية التابعة لوزارة الثقافة في هذا الحيز «السايكسبيكاوي» أو ذاك، أعني في هذه الدولة أو تلك من العالم العربي، فالمسرح كان مهاناً ومزدرىً في معظم هذه البلاد؛ ليس المسرح حالة خاصة هنا؛ بل أيضاً السينما واللوحة التشكيلية والرواية، المسرح مزدرىً وكذلك الموسيقى المتوازنة والموزونة، كذلك الإنسان مزدرىً بما يكمن فيه من وجدان وحساسيات إنسانية قادرة أن تتفتح على آفاقٍ جديدة وبتفكيرٍ جديد، وبالتالي هذا الإنسان غير قادر على تكوين سياقٍ لغويٍ جديد؛ يستطيع من خلاله أن يُدْخلَ عناصر الطبيعة وأن يعجنها في صيغة محرك وزجاج وما إلى ذلك.
÷ لكن لماذا برأيك كل هذا الخوف من المسرح؟
} كل ما يؤلف بين البشر ويجمعهم في المدن وزارات الثقافة كانت ضده في الوطن العربي؛ وهناك وزراء كانوا لا يأبهون لهذه الفنون خوفاً من أن يتم اجتماع الناس، وبالتالي البدء بتكوين حوار، واليوم العالم العربي يبحث عن حوار، وهذا الحوار مفتقد، في الوقت الذي كان فيه من الممكن أن يتواجد هذا الحوار من خلال فنون الأدب والفن الأصيل؛ حتى تلك التي نشأت من الأديان والمقدسات الإنسانية؛ هذه الاجتماعات الحرة في المسرح والسينما والتي هي ضرورةٌ قصوى لأي مدينةٍ قيد التكون؛ فهذه الاجتماعات هي عقل المدينة الذي يفكر ويتأمل ويفلسف ويشكّل منطقاً لأشكال المنطق التي بين أيدينا من هواتف محمولة وتلفزيونات ووسائل اتصال؛ كل هذا النمط من التفكير لجمع الناس «ألغي»؛ ليس في سوريا وحسب، بل في كل أرجاء الوطن العربي؛ وفي كل بيتٍ وضع فيه السجان المحبوب، أي التلفزيون والواقع أن هذا الجهاز هو أخطر من السجان الكلاسيكي بالمعنى الذي يقول إن إنساناً ما سجن إنساناً آخر، ففي هذه الحالة هناك حوار قد ينشأ بين السجان وسجينه، أما السجان الحديث فهو سجان يطلب منكَ أن تخرس نهائياً، فقط استمع إلى أحد ما أثناء مشاهدته لمباراة كرة قدم أو لمسلسل أو برنامج؛ فإذا ما شوش عليه ابنه أو ابنته أو زوجته ستسمعه يقول العبارة التالية: «إسكت أو انصرف خارجاً» فهو يريد أن يكون «ريسيفر» ـ مستقبلاً مئة في المئة، هو لا يريد أن يكون على الإطلاق ذاك الإنسان الفاعل؛ والواقع أن هذا السجان الحديث، لا يسمح لكَ وهو ليس في وارد أن يناقشكَ في أي موضوع على الإطلاق، مع أنه يطرح موضوعات مهمة جداً؛ كتسميات لكنه لا يطرح الحوار اللازم وليس في وارد أن يكون هناك حوار بينك وبينه، إذ عليك أن تكون منصتاً لتعاليمه ومقدّساً لما يقوله هذا السجان.
المثقف والسلطة
÷ لكن ما زال البعض يقول إن المثقف العربي يستمرئ دور الضحية إزاء علاقته بالسلطة العربية لا سيما وزارات الثقافة؟
} ببساطة لأن التلفزيون في سوريا خصوصاً والبلدان العربية عموماً تم تجنيده كي يكون بديلاً عن كل ما من شأنه أن يكون ثقافياً؛ والتلفزيون كما يعرف الجميع إعلام وإعلان ليس إلا؛ ببساطة لأن التلفزيون حُشرت فيه الشعوب العربية كافةً؛ ولأن هذا الجهاز استخدم لسجن الناس في حي وشارع ومدينة ذات حيزٍ «سايكس بيكاوي» ببساطة فُعّل هذا الجهاز لنشر الكراهية بين الشعوب في لحظةٍ من اللحظات؛ وذلك من أجل تمجيد الدراما الفلانية والتطبيل بالدراما العلتانية، والتقليل من شأن الدراما الفلانية؛ التلفزيون يحتوي على كل شيءٍ على الإطلاق لا يستطيعه فنان السينما؛ ولا يستطيعه فنان المسرح أو الروائي في الظروف العربية الراهنة؛ فالرواية لا يمكن أن تُكتب إلا باللغة العربية الفصحى، فلا يمكن كتابة رواية بلهجة الموصل، ولا بلهجة السويداء أو بلهجة «مرسى مطروح» أو «القيراوان»، الرواية تُكتب باللغة العربية الفصحى؛ وما فعله التلفزيون أنه فعّل اللهجات المستدرجة من لغةِ فقدت قواعدها فأصبحت لغات لا قاعدة لها.
÷ ألا تشعر أنه بمحاكمتك هذه للهجات والمحكيات العامية تشطب من حساباتكَ التراث الشعبي اللامادي الذي بات اليوم ذاكرة لكثير من الإثنيات والأعراق التي تعيش في العالم العربي؟
} التراث الشعبي شيء؛ وما يقدم على التلفزيون تحت هذه اليافطة شيء آخر؛ التواريخ العربية شيء؛ وما يقدم من طرحٍ تاريخي شيءٌ مختلف على الإطلاق بل وممنهج في تقديمه، فلو كان هذا التاريخ تاريخاً أصيلاً؛ يقدم على التلفزيون لاستجرار الصفحات البيضاء من الإرث الحضاري العربي أو السوري؛ لكان أمراً مهماً، أما ما يعرض فهو الصفحات الإشكالية التي توضع أمام أعين الإنسان لتفرقة أبناء الوطن الواحد؛ والإنسان في بلادنا للأسف إما أمي كلاسيكي؛ أي لا يعرف القراءة والكتابة، أو أُمي كومبيوتري؛ بمعنى أن لديه آخر ما توصل إليه العلم من اختراعات إلكترونية واتصالية ويستطيع من خلال العادة أن يدخل إلى الإنترنت ويخرّب الكون من دون أن يعي الأثر الفادح لما يفعل؛ إما نتيجة عدم تعلّمه أو عدم خبرته الحياتية؛ أو عدم تقييمه لما يقول أو ينقر، هؤلاء أميون كومبيوتريون، وهم اليوم بالملايين في عالمنا العربي؛ إذاً نحن اليوم أمام أكثر من مشكلة؛ فعندما نحقق في أثر هذا التلفزيون على حياتنا كبشر؛ نجد أن هناك مسائل خطرة؛ فمثلاً لم أجد في كل ما قُدم عن دمشق – بما فيها تلك الأعمال التي شاركتُ فيها من مسلسلات – لم أجد فيها شخصية واحدة تحمل وعي المهندس المعماري الذي بنى ذلك البيت الدمشقي الذي يتم التصوير فيه، هناك اغتصاب لهذا البيت في الأعمال التلفزيونية من خلال هذا الأمر، لذلك تم إعطاؤك الملايين من قبل الخارج والداخل كي تقوم بما تقوم به كسوري في هذا البيت الدمشقي؛ وذلك عبر العبث بمفرداته وبزخارفه وبالآثار والقلاع والأماكن التاريخية والآثارية ووضعها في سياقات سياحية سخيفة، لقد كان ذلك مبرمجاً وممنهجاً، كان ذلك بالنسبة لي واضحاً كل الوضوح.
إعلام وإعلان ومال
÷ إذاً لماذا شاركت في مثل هذه الأعمال طالما أنك تعرف مقاصدها كل هذه المعرفة؟
} سأقول لك بشكلٍ مباشر ومن دون أدنى ريب أو ممالأة، أنني كشخص عمل لفترة طويلة في المسرح ويحتاج إلى إعلامٍ وإعلان ومال، وهذا كله موجود في التلفزيون سواء كانت هذه الأعمال تراثية أو تاريخية معاصرة، أو فانتازية؛ فكي تحصل على الإعلام والمال ما عليك سوى أن تكون مشجباً إعلانياً وإعلامياً؛ لتقدم مما ازدرتّه من كلماتٍ تتقيأها أمام كاميرا التلفزيون؛ ثم لتُرتب كإفطارٍ للعالم العربي من محيطه إلى خليجه؛ ولهذا يشعر من يتابع هذه المسلسلات بالطنين في آذانهم، وترى الاصفرار واضحاً في أعينهم، والتهالك في الجسد والروح وعدم القدرة على وعي ما يحدث في محيطهم. هذا بالضبط ما أدركتُه؛ فليس هناك من قدرة عند أي شخصية مما قُدم في هذه الأعمال التراثية امتلاك ذلك الوعي الحضاري الذي استطاع أن يبني البيت الدمشقي من أديم الأرض؛ أي الرخام، ومن أمعاء الأرض، أي البازلت. بالنقوش التي وضعت بالحدادة التي كانت هناك، بالنجار الذي فصّل تلك الأبواب، ذلك كان وعياً سورياً خلاقاً بالزخارف والنقوش والزجاج المعشق، بكل هذا الفضاء الذي يوحي لكَ مهما كان البيت ضيقاً بأنه فضاء واسع ومريح، لأن وعي الإنسان الذي بناه سواء كان متطوراً على مستوى شهادته العلمية المعمارية، أم وعياً مهنياً حرفياً، في الحالتين كان وعياً خلاقاً إبداعياً لأبعد الحدود، وهذا ما يمكن أن يربك أية أمة في العالم ليس لديها البيت نفسه، ولذلك تحاول قوى كثيرة حول العالم، سواء كانت هذه القوة أميركا أو أوروبا أو الصحراويين من حولنا تحطيم هذا البيت بالذات، ويبدو أنهم وجدوا بشكلٍ أو بآخر حصانهم الطروادي من خلال التلفزيون.
÷ شهدت الكارثة السورية انقسامات حادة بين النخب، هل تعتقد بدور قادم للمثقف السوري في الفترة القادمة؟
} وهل كان للمثقفين فعلاً مكان في الواجهات الثقافية؟ هل كان بمقدورهم أن يكونوا أصحاب قرار في الأماكن التي كان عليهم أن يكونوا مبدعين خلاقين لمصلحة شعوبهم فيها؟ أقول: لا..أنت تتحدث عن شيء تمت إبادته منذ زمنٍ بعيد؛ هناك مظاهر وظواهر «ثقافية» إذا شئت في سوريا كما كل بلد عربي، هذا صحيح..فتجد قصاصاً هنا، وروائياً هناك؛ مسرحياً هنا؛ وتشكيلياً هناك؛ لا أكثر ولا أقل؛ أما أن تتحدث عن نهضة ثقافية في بلدٍ عربي لو قامت على مستوى واحد من البلدان العربية؛ لتفادينا كل هذا الخراب؛ لا على الإطلاق..أنت تتحدث عن نخب ثقافية قد تكون في ذهنكَ كما في ذهن من يقرأ كلماتي الآن؛ موجودة فقط في الواجهات التلفزيونية؛ لقد تمت إبادة كل ما يمكن أن يكون واجهة ثقافية حقيقية صلبة في كل بلد عربي؛ واستبدالها بنخب تلفزيونية قوية وشرسة في مسألة الدفاع عن مناصبها وأرباحها؛ وتستطيع أن تقول ما تشاء على كل التلفزيونات وفي كل المقابلات والمناسبات وغير المناسبات، فهي تُفتي اليوم في كل شيء لأنها المعروفة والمُضاءة؛ ولأنها الأكثر شهرةً وسطوةً، فلو قلت مثلاً إسماعيل فهد إسماعيل فإن ثمانين في المئة من هذه الواجهة التلفزيونية لن يعرفوا هذا الروائي العريق الذي كتب رائعته «في حضرة العنقاء والخلِّ الوفي» هم لا يعنيهم ذلك؛ بل لا يرغبون بإعادة قراءة «عباس محمود العقاد» والمعركة الإبداعية بينه وبين طه حسين؛ ولا يستدركون معنى أن يُطمر اسم شخص كالسنباطي تحت ركام «الكليب» هم ليس لديهم أية رغبة في أن يستمعوا إليك، كونهم يمنحون أنفسهم المصداقية لقول أي شيء، فقط لأنهم مشهورون جداً على مستوى الوطن العربي؛ ويدركون أن لهذه الشهرة إمكانية النفاذ إلى عقل الإنسان وإبادة ما يمكن أن يكون مهماً وحقيقياً من كلمة وشكل ولون وفعل؛ وهذا ما تبغيه كل الأنظمة العربية؛ بل قل الأنظمة على مستوى الكوكب؛ لقد خلقت الولايات المتحدة الأميركية حوضاً هائلاً من الأميين على مستوى الأرض؛ وكان لا بد لها أن تخلق واجهات تستطيع من خلالها أن تنفذ إلى عقول هؤلاء؛ فالأمية هي الحوض الذي تستثمر فيه الولايات المتحدة على مستوى العالم بأسره؛ وأقول الولايات المتحدة هنا كنظام سياسي وليس كبلد؛ إذاً كان على كل إعلام أمةٍ من الأمم أن تنضوي تحت راية الإعلام الأميركي المستبد؛ وأن تقوم بتشكيل واجهة تلفزيونية لها تستطيع من خلالها النفاذ إلى سياسة وجمهور هذا البلد أو ذاك؛ وطبعاً ساعد على هذا الأمر وجود وزارات ومجالس ثقافية في سوريا وخارجها من البلدان العربية تواطأت مع هذه الفكرة.
صحيفة السفير اللبنانية