نوافذ للحوار| محمود الورداني: «الإخوان» كانوا سيقضون على المستقبل العربي (أحمد مجدي همام)
أحمد مجدي همام
يؤمن الروائي المصري محمود الورداني بأنه ليس هناك أدب بلا خلفية أيديولوجية، فالكاتب الذي نشر عمله الأول في ثمانينات القرن المنصرم، والذي انتمى طيلة عمره إلى اليسار المصري، لا يرى أي موضوعية في مقولة «الأيديولوجيا في الأدب مثل الشوائب في الذهب». وعليه، فإنه لا يجد غضاضة في صياغة هذا الانحياز المشرف – على حد تعبيره – في شكل أعمال أدبية. في رصيد الورداني سبع روايات منها: «نوبة رجوع» و «رائحة البرتقال» و «الروض العاطر» و «بيت النار»، والأخيرة هي بيوغرافيا منذ الطفولة المبكرة، مروراً بالمهن المختلفة التي عمل بها، وحتى انضمامه إلى تنظيمات سرية واعتقاله. وللورداني عدد من المجموعات القصصية، منها «السير في الحديقة ليلاً» و «الحفل الصباحي». وهنا حوار معه:
> متى يجد الروائي نفسه في حاجة إلى كتابة نص يندرج في خانة السيرة الروائية؟
– لم يكن دافعي الأساس أن أكتب سيرتي روائياً، فكرة الشغل، أو العمل كانت المحرك الرئيس، والحقيقة وجدت صعوبة في ذلك، مردها إلى أن الكاتب لا يستطيع أن يؤرخ لنفسه، أو يكتب أي سيرة مكتفياً بالوقائع الفعلية في الحياة، فمنطق الرواية يختلف كلياً عن منطق الواقع، والرواية تفرض شروطها بإيجاد منطق داخلي لتلك السيرة. لذلك، واجهت بعض الصعوبة في الدخول إلى هذا المنطق الداخلي، وكانت تيمة (العمل) هي المنفذ الذي عبرت منه لأشكل هذه السيرة الروائية.
> لم تقدم وجهة النظر اليسارية في شكل جاف، بل غزلتها في الأحداث وعملت على أنسنة الأيديولوجي، أيضاً جاءت العتبة الأولى في النص (الإهداء) كهامش مكمل للتوجه العام حيث وجهته إلى بعض أعلام اليسار في مصر. ألم تخشَ من أن يعيق ذلك الراوي؟
– الأدب أصلاً أيديولوجيا، كلنا تعجبنا نصوص كتاب كلاسيكيين قدماء قدموا أعمالاً تحمل انحيازاتها، ألا تحب تي إس إليوت؟ وماذا عن لورنس داريل، صاحب «رباعية الإسكندرية»، وهو بالمناسبة رجل استخبارات! هناك فورستر وهناك نجيب محفوظ الذي كان رجعياً في أعماله المبكرة. الأمثلة كثيرة. وعموماً الكاتب قد يخون أيديولوجيته السياسية خضوعاً لرؤية فنية ما يشترطها النص.
> كتبت الفصل الذي يتحدث عن فترة الاعتقال بخط مغاير لباقي الرواية، بدا كدفقة مكثفة، لماذا اخترت اللعب بتقنية التشكيل الكتابي؟
– لم أشأ أن أكتب هذا الفصل على نحو زمني تصاعدي نظراً إلى تشعبه، فهو يتناول السجن، وتأملاتي أثناء تلك الفترة، وتعقبي أخبار أسرتي في ظل غيابي، وهذه النقطة الأخيرة كانت عقبة، فالرواية مكتوبة بضمير الأنا، والروائي هنا ملزم بكتابة ما كان الراوي طرفاً مشاركاً فيه، على عكس روايات الراوي العليم، أو روايات الأصوات. من هنا نشأ الاختلاف بين هذا الفصل وباقي الفصول، ارتأيت أنه يحتاج إلى تلك السيولة وبخط مغاير نظراً إلى اختلافه.
> عنونت الفصل الأخير «على سبيل الخاتمة»، وحملته بلغة شعرية تصبو إلى المستقبل، ولخوض تجارب جديدة، كيف قادتك الكتابة إلى تلك النهاية التجريبية؟
– كنت أثناء كتابتي الرواية أجهز فصلاً عن فترة عملي بالصحافة، إلا أن ثورة يناير عطلتني عن الكتابة، وقررت أن أستبعد ذلك الفصل، وأعدت كتابة الرواية من دونه حتى وصلت إلى الخاتمة، وقررت أن تكون «غِنوة»، أكتب فيها عن المهن التي تمنيت أن أعمل بها، أن أكون مريداً لشيخ أو عازف كمان أو راقص باليه، فخرج الفصل الأخير في هذا الشكل، وكأنه قصيدة.
> في روايتك «أوان القطاف» كان الموضوع الرئيس هو فكرة الذبح أو القتل، وقد عبرت عن ذلك بخطوط عدة متوازية تحكي حكايات الرأس الذي ينفصل عن الجسد، ما الدافع وراء تلك الفكرة الرئيسة؟
– بدأت هذه الرواية بقصة شخص فقير ممن يعتلون أسطح القطارات كي لا يدفع ثمن التذكرة، فجأة ارتطم هذا الشخص بالجسر الذي يعلو محطة القطار، وفقد رأسه. قادني هذا المشهد العبثي لتتبع السيرة الذاتية لرأس يتكرر ذبحه عبر العصور، بدءاً بالحسين وليس انتهاءً بشهدي عطية الشافعي.
> زخرت رواية «رائحة البرتقال» بمستويات عدة للتأويل، مثل الفتاة التي ترافق البطل والتي تبدو كما لو كانت خلاصه أو دليله، ألا تظن أن تعدد مستويات التأويل والرمزية قد يحدان من قراء العمل ويحصرانه في دائرة الأعمال النخبوية؟
– معك حق، وأنا أتمنى كتابة عمل سهل لكل القراء، في «رائحة البرتقال» انطلقت من مستوى أولي للكتابة، قصة رجل يصحو ليجد بجواره طفلة فيقرر أنها بنته ثم يبدأ رحلة هروبه من الأخطار التي تحيق به، أما إذا أفرزت الرواية تأويلاتها ومستوياتها المتعددة، فهذا أمر غير مقصود، وهو أيضاً أمر لا ينتقص من العمل، وعموماً أنا من جيل من الكتاب لم تكن المقروئية تعني له الكثير.
> بعضهم يرى أن حجم المبيعات مرجع لجودة العمل، وآخرون يقيسون الأمر بالجوائز، أو بإشادة النقاد، أو بترجمة العمل، وغيرهم يكتفي بمؤشر داخلي وشعور بالرضا عن العمل، كيف ترى الأمر؟
– في جيلي لم تكن المقروئية تشير إلى أي شيء، وبالقطع الجوائز ليست مقياساً، فهي في الأساس تستمد قيمتها ممن يفوزون بها، أما المؤشر الداخلي فهو فعّال للكاتب أثناء الكتابة، وهو رؤيته وإحساسه بعمله، يدفعه لحذف فقرة أو إضافة كلمة، لكنه في النهاية ليس مرجعاً حقيقياً، وبالنسبة لي، أقيس الأمر عبر مجموعة من الأصدقاء من الدائرة الثقافية، أثق في آرائهم وأعتبرها مرجعاً.
> انقطعت 13 عاماً عن كتابة القصة القصيرة قبل أن تعود بمجموعة «الحفل الصباحي» الحاصلة على جائزة ساويرس 2010. لماذا كان الانقطاع؟
– ليس لدي تفسير لذلك، كل ما أستطيع قوله هو أن الروايات التي كتبتها بين مجموعتي «في الظل والشمس» و «الحفل الصباحي»، كانت تتناول عالماً مركباً وواسعاً، يحتاج إلى متنفس ومنفذ، المواضيع التي تقوم عليها تلك الروايات كانت تحتاج إلى القالب الروائي، مع العلم أن بعض مشاهدها في الأساس وحدات فنية مستقلة يصح أن نعتبرها قصصاً قصيرة، بل إن بعضها نُشر ضمن مجاميع قصصية، ثم أعدت توظيفها في شكل فني في الروايات.
> حدثني عن كتاب «حدتّو، سيرة ذاتية لمنظمة شيوعية»، واختيارك أن تؤرخ لحركة اليسار في مصر؟
– أنا أحب التاريخ، وتناولي إياه عادة هو تناول فني أكثر من كونه توثيقاً، ومنذ تفتح وعيي كنت منخرطاً في اليسار المصري وأتشرف بذلك. أردت أن أتحدث عن الحلقة الثانية في أجيال اليسار المصري، وكان ذلك بناءً على اقتراح بعض الأصدقاء، لمناسبة مرور نصف قرن على نشأة «حدتو»، أهم تنظيم شيوعي مصري. تحمست للفكرة، وشرعت أؤرخ بحس سردي أدبي لتلك المنظمة لأترك للأجيال اللاحقة من اليسار كتاباً عنها.
> أين أنت من إعادة طبع أعمالك التي نفدت من المكتبات وكيف تنظر إلى دور وزارة الثقافة في هذه الأمر؟
– لست «شاطراً» في هذه الأمور المتعلقة بالعلاقات والشللية، وإن لم تهتم الجهة المعنية بإعادة نشر أعمالي، فلن أسعى إلى ذلك.
> خضت تجربة التحكيم في بعض الجوائز الأدبية، كيف تقوّم هذه التجربة وما رأيك في الجوائز الأدبية على الساحتين المصرية والعربية؟
– عملية التحكيم صعبة، في جائزة ساويرس مثلاً توزع الأعمال المشاركة على أعضاء اللجنة نظراً إلى كثرة المشاركات، وقد تقع رواية حداثية جيدة في يد محكم ذي ميول كلاسيكية، فيقصيها، أو العكس. لكن جائزة ساويرس هي إحدى أكثر الجوائز نزاهة. أما جوائز الدولة فهي بالقطع تعاني من خلل في لوائحها، أدى إلى فوز بعض عملاء نظام مبارك وأبواقه.
> كتب هيمنغواي في «وداعاً للسلاح» أن الأديب يجب ألا يعمل في الصحافة لأكثر من سبع سنوات، وإلا التهمته. كيف كان تأثير العمل بالصحافة فيك؟
– لم تكن الصحافة مفيدة لي، فهي تمتص الكاتب، وتأكل جهده وأعصابه ووقته، وهي تشكل صعوبة أمام الكاتب، إذ عليه أن يكون مهنياً ولا ينتصر لذائقة أدبية معينة دون غيرها. إلا أن لها تأثيراً إيجابياً يتمثل في كسر هيبة القلم وتمكين الكاتب، كما أنها تنقّي أسلوب الكاتب من الزوائد والزخرف والكليشيهات.
> في ظنك متى يحصل اليسار على فرصته ويحكم؟
– أظن أن اليسار بمعناه الماركسي الراديكالي لن يحكم، العالم تغير. أما اليسار بمعناه العصري المتطور المؤمن بالديموقراطية ومدنية الدولة ففرصته واردة وممكنة بشرط أن يكون فاعلاً.
> هل يحتاج اليسار إلى مراجعات فكرية شبيهة بتلك التي خاضتها الجماعات الإسلامية في التسعينات؟
– بالطبع يحتاج إلى ذلك، وصحيح أن بعض أطياف اليسار تجاوز راديكاليته، لكن ذلك حدث على الورق فقط، أما على الأرض فالأمر سيحتاج إلى المزيد من الجهد.
> ما تقويمك للمشهد السياسي في مصر بعد 30 حزيران (يونيو)؟
– بالقطع الوضع أفضل من فترة حكم «الإخوان»، لأنهم كانوا سيقضون على المستقبل العربي كله. حكمهم كان نفقاً مسدود، لكن الوضع لا يزال غير مطمئن. أخشى أن يعود العسكر إلى الحكم، خصوصاً في ظل وجود حملات لدعم ترشيح الفريق السيسي للرئاسة، وهذا نذير شر. بالتالي، فالمخرج الوحيد هو الالتزام بـ «خريطة الطريق»، وحظر إقامة أحزاب على أساس ديني، وحل جماعة «الإخوان»، إلا إذا التزمت قوانين وزارة التضامن الاجتماعي التي تنظم عمل الجمعيات الأهلية.
> هل تتفاءل بوجود ستة أسماء محسوبة على الجماعة الثقافية، ضمن «لجنة الخمسين» المسؤولة عن تعديل دستور 2012؟
– أنا مستبشر بمستقبل يليق بمصر، ووجود أسماء مثل سيد حجاب ومحمد عبلة وحجاج أدول ومسعد أبو فجر، ضمانة على جودة ونزاهة عمل اللجنة. يبدو أننا أخيراً سنحصل على دستور محترم.