نوال السعداوي على كرسي «الاستجواب» (سلمان زين الدين)

 

سلمان زين الدين

منذ سبعة عقود، تعلن نوال السعداوي عن حضورها في المشهد الثقافي العربي، وتمارس فاعليتها الفكرية في حقول معرفية شتى، ما تمخّض عن حصاد فكري وأدبي وفير، أثار الكثير من الضجيج، وحرّك الركود المزمن في بركة الفكر العربي؛ فمن «مذكّرات امرأة اسمها سعاد» (1944) حتى «إنّه الدم» (2013)، روايتها الأخيرة، أربت مؤلفاتها على أربعين كتابًا، توزّعت على: القصة القصيرة، الدراسة العلمية، المسرحية، السيرة الذاتية، المذكرات، المقالة، والرواية.
على أن مشروعها الفكري الذي شكّلت «مذكرات امرأة اسمها سعاد» (1944) و»تعلمت الحب» (1957) و»مذكرات طبيبة» (1969) إرهاصاته الأولى، راح يتبلور منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، في مجموعة من الدراسات المستفزة، فأصدرت «المرأة والجنس» (1969)، «الأنثى هي الأصل» (1971)، «الرجل والجنس» (1973)، «الوجه العاري للمرأة العربية» (1974)، «المرأة والصراع النفسي» (1975). وأتبعتها بمجموعة من الروايات والمسرحيات والمذكرات…، فاصطدمت بالمجتمع الأبوي وتمظهراته الكثيرة في العائلة والمجتمع والدولة، ودفعت أثمانًا غالية جعلت منها علامة فارقة في تاريخ الفكر العربي النسوي، وشخصية نسائية إشكالية في دنيا العروبة والعالم.
لعلّ أحدث إطلالة للسعداوي هو الحوار الذي أجرته معها الباحثة اللبنانية عايدة الجوهري، وأصدرته بعنوان «نوال السعداوي وعايدة الجوهري في حوار حول الأنوثة والذكورة والدين والإبداع» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر). وهو كتاب يقع في مقدمة طويلة وثلاثة فصول.
لا تأتي الجوهري إلى الحوار من الضفة الأخرى أو «الاتجاه المعاكس»، بل تأتي من حقل اهتمام مشترك هو المسألة النسوية، ومن إعجاب بطروحات السعداوي وشخصيتها، وتوظف فيه ثقافتها وخبرتها ومنهجها واطلاعها المعمق على نتاج الضيفة وتحضيرها الطويل لأسئلتها، ما يجعل العلاقة بين المحاوِرة والمحاوَرة، في الشكل، علاقة تكافؤ في كثير من محطات الحوار، وفي المضمون، علاقة تناغم بين الطرفين تتكامل فيها الأفكار ولا تتساجل، فتشكّلان معًا وجهين لعملة واحدة في الحوار.
في المقدمة التي تشغل ثلث الكتاب، تتناول الجوهري المحاور الأساسية التي يتمحور حولها مشروع السعداوي الفكري. فتتوقف عند: نهجها النسوي المغاير، خوضها في المحظور، نظرتها إلى الرجل، فهمها للشرف، ورؤيتها إلى الدين.
تأخذ الجوهري على الخطاب النسوي السابق للسعداوي عدم تحليل جذور النظرة الدونية إلى المرأة، الأنتروبولوجية والدينية والفلسفية، لتخلص إلى القول بنهج السعداوي المغاير، لكن إشارتها إلى المغايرة اقتصرت على العنوان الفرعي دون المتن المندرج تحته، فتنتقد عدم قيام المفكرين النهضويين النسويين السابقين لها بتحليل النظرة الدونية دون أن تبيّن مغايرة السعداوي لهم في نهجها النسوي. غير أنها لا تلبث أن تتناول خوضها في المحظور «بمشرط الجراح»، هي الآتية من عالم الطب، وبمناهج وأدوات أخرى، تخوض بها في الجنس والجسد ودونية المرأة وذاتيتها مما يُعتبَر مسًّا بالأخلاقيات العامة، وينجلي خوضها عن مؤلفات غنية، تساهم في بناء وعي عقلي وعملي وواقعي، كما تستنج الباحثة، وهو ما يندرج في إطار جهود السعداوي لتفكيك النظام الأبوي المهيمن والتناقضات التي يقوم عليها من خلال تفكيك العقد المختلفة المتحكمة بالمرأة والرجل، على السواء. فترفض حصر النظام الأبوي «مفهوم الشرف» في الإطار البيولوجي البحت، وترى ضرورة توسيعه ليشمل الأفعال السياسية ويرتبط بالكرامة. وترفض توظيف سعي النظام الى إقصاء المرأة وتكريس سلطة الرجل.
في حوارها مع السعداوي، تتناول الجوهري، في ثلاثة فصول، ثلاثة محاور أساسية، هي: صراع الأنوثة والذكورة، الدين، والإبداع. وتطرح واحدًا وخمسين سؤالاً لتتلقى واحدًا وخمسين جوابًا في المحاور الثلاثة مجتمعة. على أن الفارق بين الأسئلة والأجوبة هو أن الأولى محضّرة مسبقًا بعد اطلاع عميق على مؤلفات المحاوَرة ومعرفة مباشرة بها ومتابعة دؤوب لها بينما الثانية بنتُ الحوار المباشر، بنتُ ساعتها، وإن كانت راسخة في عقل وتجربة صاحبتها. والجامع بين الأسئلة والأجوبة هو أن القضايا المطروحة فيها قديمة ومعاصرة، ماضية وراهنة في آن.
الأسئلة التي تطرحها الجوهري ليست تقليدية أو مجّانية، في الشكل والمضمون. فالسؤال، عندها، أداة بحث وحفر. يلعب وظيفة مزدوجة بما يحمل من معرفة بالآخر، وبما يسعى إلى اكتشافه فيه. في الشكل، تتعادل معظم الأسئلة طولاً مع الأجوبة، وبعضها أطول منها فقد يشغل السؤال صفحتين اثنتين ونصف الصفحة بينما يقتصر الجواب على ثلاثة أرباع الصفحة (ص 78- 81)، وبعض الأسئلة يقتصر على نصف سطر أو بضعة أسطر، لا سيما في الصفحات الأخيرة من الفصل الأخير. والسؤال، غالبًا، عبارة عن مقدمة معرفية، تعكس ثقافة السائلة وسعة اطلاعها وإلمامها بموضوعها، تنطلق منها لتطرح سؤالاً مركّبًا تتفرّع منه أسئلة عدة. ولعل طول السؤال وتشعّبه أدّيا إلى عدم إجابة المجيبة عن بعض الأسئلة رغم حضورها الذهني وحدة ذاكرتها.
في المضمون، قد ينطلق السؤال من أحد مؤلفات السعداوي، قد يشتمل على معرفة تاريخية – ثقافية بجهدها أو تحليل لشخصيتها مستند إلى الطفولة أو نقد لرواياتها أو تفنيد لبعض فرضياتها، وقد يشتمل على فرضيات معينة تحاول تقييد الجواب بها غير أن المجيبة لا تلتزم بذلك القيد. وتعكس الأسئلة جدية السائلة وكفاءة أدواتها وسعة اطلاعها وحسن تحضيرها لموضوع الحوار.

المشروع الفكري النضالي

الأجوبة التي تقدمها السعداوي تندرج في إطار مشروعها الفكري – النضالي، المتمثل في مواجهة النظام الأبوي ومتفرعاته وتمظهراته المختلفة، وهي تصدر عن عقل حر منفتح لا يخشى المحظورات والممنوعات، وتعكس شخصية قوية وجرأة واضحة في مقارعة المسلّمات الأبوية التاريخية. لذلك، تذهب غالبًا إلى الحدود القصوى، وقلّما ترضى بالتسويات وأنصاف الحلول. وهي تستخدم شبكة مفاهيمية جديدة أو مجدّدة في مقاربة بعض المحاور، وتنطلق من حقول معرفية مختلفة لإثبات وجهة نظرها في هذه المسألة أو تلك.
في أجوبتها، تعزو السعداوي المشاكل الاجتماعية إلى النظام الأبوي الذي يوظّف الدين لبسط هيمنته على المرأة والعائلة والمجتمع والدولة. تكشف ما مارسه العهد القديم من قلب الحقائق لمصلحة الرجل، فهل يصح استنادها إلى أساطير توراتية أو مصرية قديمة لتكوين حكم علمي أو حقيقة تاريخية؟ تربط المصالحة بين الجنسين بنجاح الثورات العربية في هدم الرأسمالية الأبوية. تقول بتقديم الكفاءة الإنسانية على الجنسية. ترى في ربط «الشرف» بالعذرية إحدى أكاذيب النظام الأبوي. تكره الرجل المزيّف والنقاد الرسميين. تقرن بين جورج بوش وأسامة بن لادن. تحمّل نظم التعليم مسؤولية الإذعان وازدواجية المتعلمين. تقدّم تدليك العقل بالأفكار الجديدة على تدليك الجسد بالكريمات. تعرف نعمة الوحدة. تدرك أهمية سلاح الكتابة في مواجهة الحياة. ترى في تحرير النساء أساس التحرير الاجتماعي والثقافي والفلسفي…،على سبيل المثال لا الحصر.
وعلى جِدّة أجوبتها وجذريّتها، فإن السعداوي، في بعض الأجوبة، تقع في التناقض مع أطروحتها الفكرية العامة، أو الانفعال ومصادرة الرأي الآخر، أو تجنح نحو التسوية القائمة على نفيين اثنين؛ ترفض، في جواب لها، الإغواء الذي أقر بوجوده علماء السلوك والاجتماع، ويأتي جوابها ليعكس موقفًا شخصيًّا لا يكفي لتفكيك الواقعة (ص 99 – 100). تخيّر المرأة، في جواب آخر، بين الحب الغريزي الأمومي غير الواعي، والحب الواعي لحريتها وكرامتها، معلنة انحيازها إلى الخيار الثاني. وهنا، تضع الأمومة في مواجهة الحرية والكرامة، فكيف تقف ضد دور طبيعي للمرأة، هي التي تتمحور معظم أطروحتها الفكرية حول حق المرأة في ممارسة طبيعتها؟ أليس في هذا تناقض؟ (ص175). تقع السعداوي في الانفعال، في جواب آخر، حين ترد على نقادها بنبرة عالية وتكيل لهم الاتهامات، فتصادر حقهم في التعبير عن الرأي، لا لشيء سوى رأيهم أنها تُسقط أفكارها على شخصياتها الروائية. فكيف تحرّم على سواها ما تمارسه هي من حق النقد وإبداء الرأي؟ والمفارقة أن السائلة في سؤالها التالي تجاريها في الهجوم على المثقفين بدلاً من أن تدافع عن حقهم في النقد والتعبير أيًّا يكن هذا التعبير! (ص 148 – 149). في جواب آخر، تجنح السعداوي، خلافًا للعادة، نحو التسوية المستندة إلى نفيين اثنين، فتقول إنها ضد الحجاب وضد التعرية في آن.
في الحوار، ثمة أسئلة تتكرر (السؤالان الأول والثالث في الفصل الثاني)، وثمة أجوبة تتكرر، وثمة أسئلة فرعية لا تتم الإجابة عنها (العلاقات الحرة ص95). وهذا أمر طبيعي في الإجابة عن أسئلة طويلة ومركّبة.
وبعد، الحوار بين نوال السعداوي وعايدة الجوهري لم يكن حلقة تلفزيونية في برنامج «الاتجاه المعاكس». لم يكن سجاليًّا بل تكامليًّا، إيجابيًّا. يهدف إلى إضاءة أفكار الآخر وطروحاته لا تسجيل النقاط عليه وتفنيد آرائه. والعلاقة بين السائلة والمجيبة متنوعة؛ هي علاقة تكافؤ معرفي غالبًا، وعلاقة إعجاب من الأولى بالثانية حينًا، وعلاقة تلميذة بأستاذتها حينًا آخر، مع العلم أن الأستاذة بدورها تطري التلميذة وتشيد بها في بعض المواضع.
قد لا تكون معظم الأفكار الواردة في الكتاب جديدة، فهي مما يتناثر في كتب السعداوي ومقابلاتها الكثيرة، غير أن الجديد هو اجتماع هذه الأفكار في كتاب واحد، والقيام بتحليلها. والفضل في ذلك يعود، بالتأكيد، لعايدة الجوهري.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى