كتب

نيكولاس سباركس: نَدبةٌ على وجه الإمبراطوريَّة؟

في روايته «العودة» (2020) التي صدرت أخيراً بنسختها العربية (الدار العربيَّة للعلوم ناشرون ـ ترجمة ماجد حامد)، يبدو الكاتب الأميركي نيكولاس سباركس (1965) أميناً لأسلوبه الرومانسي وحبكته الشائقة القابلة دوماً للتحوّل إلى دراما عائليَّة أو أفلام سينمائيَّة من طراز رفيع.

الحكاية تبدأ مع عودة جرَّاح العظام تريفور بينسون من خدمته مع مشاة البحريَّة الأميركيَّة في أفغانستان على إثر انفجار قذيفة في وجهه أمام مدخل المستشفى الذي كان يعمل فيه في قندهار، لتتركه مع جسد محطم وإصابة في العَمود الفقري، وإصبعَين مبتورَتين، وصوان أذن مقطوع، وندبة في الوجه، وصداع في الرأس، وآلام شديدة في الروح ضاعفتها وفاة جدّه كارل الذي لم يبقَ له سواه بعد وفاة والدَيه في حادث سير قبل سنوات، واستلزمت علاجاً نفسيّاً طويلاً من أعراض «اضطراب ما بعد الصدمة».

تبدو الحكاية استهلالاً مثاليّاً ومثيراً لتعاطف القارئ لولا سؤال بديهي عمَّا كان يفعله تريفور وزملاؤه في قوَّات البحريَّة في أفغانستان. لكنّ الكاتب يجيب على هذا السؤال سريعاً على لسان تريفور نفسه حين يخبرنا عن ذلك الطفل الأفغاني الذي أصيبَ بكسر في ركبته إثر سقوطه عن سطح منزله وفقد القدرة على المشي بعد فشل الأطباء المحليّين في معالجته، قبل أن ينجح تريفور في إعادة ترميم ركبته. أتى الطفل لزيارته بعد ستة أشهر مهرولاً، فغمره نبل مهمته بالسعادة والرضا، ولكن مكافأة أهل هذا «المكان الخطر» (كما العراق) له كانت بإحالته إلى تقاعد مبكر وحرمان المزيد من الأطفال من خدماته الإنسانية!

على أنَّ حادثة قندهار وإن تكرَّرت كثيراً على امتداد صفحات الرواية على لسان تريفور نفسه، فهي ليست سوى مدخل للحكاية الحقيقيَّة التي تبدأ بعد عودة تريفور إلى نيوبيرن في نورث كارولينا بعد وفاة جدّه، ليرث منزله وقفران النحل العائدة له ويبدأ بالبحث في ملابسات وفاته في مكان بعيد نسبيّاً هو إيزلي في ساوث كارولينا، وسبب ذهابه إلى هناك مع تقدّمه في السنّ وضعف بصره وشاحنته المتهالكة التي لا تصلح للطرقات السريعة وتهتزّ بشدة إن تجاوزت سرعتها الأربعين ميلاً في السَّاعة.

وفي انتظار الوصول إلى الحقيقة عبر تتبّع طريق جدّه وزيارة إيزلي والبحث عن النزل الذي أقام فيه والشاحنة التي خلَّفها وما يمكن أن يكون داخلها من مقتنيات قد تقود إليه، يقرّر تريفور تأجيل تصفية تركة جدّه والانتقال من نيوبيرن إلى بالتيمور لبدء دراسته واختصاصه الجديد في الطبّ النفسي لمساعدة الجنود الذين يقعون في مواقف مماثلة. وفي أثناء ذلك، تدخل حياته امرأتان تحتفظ كل منهما بالكثير من الأسرار، هما الشرطيّة ناتالي ماستيرسون التي يقع في حبّها وتبادله هذا الحبّ إلى أن يطرأ عليها أمر يصعب عليه معرفته يقلب سلوكها تجاهه، والمراهِقة غريبة الأطوار كالي التي تقيم بمفردها وتعمل في متجر محلي يكتشف أنَّ صداقة خاصَّة ربطت بينها وبين جدّه العجوز قبل وفاته. ومع اقتراب تريفور من اكتشاف ملابسات وفاة جدّه، يقع على سرّ كالي ويساعد في إنقاذها من خطر محتَّم. وبالتزامن، تقرّر ناتالي أن تبوح له بسرّها وسبب تحوّلها المفاجئ ليتصاعد الحدث نحو نهاية غير متوقَّعة.

وإذا كانت الحبكة الشائقة حاضرة في الرواية، إلا أنَّها تبدو أقل مما عُرِفَ عن سباركس في رواياته السَّابقة، إذ تتطوَّر الحكاية ببطء في مواضع محدّدة، خصوصاً حين يفرد قرابة فصل كامل للحديث عن مجتمع النحل بشكل أقرب إلى البحث العلمي، فيكاد يُخرج القارئ من جوّ الرواية.

أمَّا وصفه لتلك المدن الصَّغيرة السَّاحرة في نورث كارولينا وساوث كارولينا وجورجيا، كنيوبيرن وإيزلي وجيمس وهيلين وديكاتور، والتي تدور فيها الحياة ببطء ووداعة قياساً إلى واشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس وسواها، فقد جاء موفقاً وممتعاً، ونقل القارئ إليها بسهولة ويُسر، وقدَّم من خلالها وجهاً آخر أكثر جمالاً للولايات المتحدة. أمر يُسجَّل له أكثر إذا ما عرفنا أنَّه لا يقيم في هذه الأماكن وقد زارها لغرض كتابة الرواية فقط.

الرواية التي انطلقت من رغبة سباركس في استكشاف ما يمكن أن يحدث لشخصٍ ما بعد إصابة مؤلمة، واستندت بشكل أساسي إلى قصة الحبّ بين تريفور وناتالي، وإلى التشويق الناتج عن ملاحقة ملابسات موت الجدّ وتصرفات كالي الغريبة، لم تقتصر مواضيعها على ذلك. من خلال رحلة تريفور، سيكتشف المعنى الحقيقي للحبّ والتسامح وسيكتشف القارئ معه أهميَّة المثابرة والإخلاص ومدى تعقيد المشاعر الإنسانيَّة من جوانبها المختلفة، وكيف يمكن أن يساعد البشر أنفسهم من خلال مساعدتهم لبعضهم، كما يحصل حين ينهمك تريفور في محاولة إنقاذ كالي، فيكتشف أنَّ يديه توقفتا عن الارتجاف وأنَّ وضعه النفسي الذي تراجع حين تركته ناتالي، صار أفضل. كما يقول الكاتب للقارئ من خلال حكاية تريفور أنَّه للمضيّ قدماً في الحياة، يجب أن نعود إلى المكان الذي بدأ فيه كل شيء.

يبدو تزامن صدور النسخة العربيَّة مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان مفارقة لافتة، خصوصاً مع عودة تريفور بندبة في الوجه وجراح في الروح تشبه كثيراً تلك التي أصابت وجه إمبراطوريَّته وروحها. وإن كانت الترجمة أفسدت شيئاً من متعة الرواية على القارئ العربي، إذ كان المترجم أميناً على المفردات أكثر من أمانته على الفكرة، ما يُعيد إلى النقاش ضرورة أن يكون مترجم الأعمال الأدبيَّة أديباً في المقام الأوَّل، يمتلك شغفاً بالأدب وخبرة في التعامل مع نصوصه والتقاط روحها بدلاً من الاكتفاء بالترجمة الحرفيَّة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى