نينوى… مرثية متجددة

ـ أحد ملاجئ النازجين… الموسيقى ـ

في متحف بغداد تنتابك أفكار تقليدية حول الآثار وعظمة الحضارات التي تطورت في منطقة الأنهار والبحيرات السورية والعراقية.

لكن الذي لا نفكر به عادة، هو “الخفة الثقافية” التي نلمسها عند الجمهور تجاه هذه الآثار، ويتجلى ذلك في فقر المعلومات المغري تداولها، وفي قلة عدد زوار المتاحف ، وفي النظر إلى الآثار بوصفها مادة للنهب والسرقة، في أول فرصة متاحة، سواء بالتنقيب العشوائي أو اقتحام المتاحف. أضيف إلى ذلك أن جماليات الحياة اليومية تصرف الاهتمام عن الأوابد الجمالية.

ونحن نتجول في متحف بغداد، تنتابك أفكار “عدمية”.( نعم عدمية.) وهي ما قيمة أي شيء ما دامت المحافظة عليه مستحيلة؟ وما هي قيمة أي أثر يصور ألماً أو أملاً، في طيات مئات الآف السنين، في حين أنك، بعد خطوتين، قد تتقاطع على رقبتك السكاكين؟

ما التطور الحاصل، رغم العصور، في بنية الهمجية، سواء كانت السلطات “الغاشمة” أو معارضوها “الغشيمون”.

تلك البيئة التي تريد تغيير الواقع بإعادته إلى عصور ما قبل التاريخ لكي… لكي يبدأ التاريخ!؟

هل هذه مسرحية لحظة الظمأ ام أبدية السراب ؟

ونحن نتجول في متحف بغداد… كنت استمع ، في ذاكرتي السمعية ، إلى موسيقى “نينوى”، وهي القطعة الموسيقية المتنوعة المقامات والسلالم والأنغام والآلات… الآتية من مناحة شعوب، وآلام عصور، واندثارات. موسيقى اكتشفها الآثاريون الأجانب، مدونة كسلالم على ألواح في نينوى، وقد حاولوا قراءتها، وتنويطها، وعزفوها اوركسترالياً، فكانت هذه المقطوعات المدهشة، التي مثلما جاءت من بدايات العصور وعلى ألواحها، فإنها، كذلك، تحفر في منطقة الأسف من جدران أرواحنا. أسف، ربما كان مصدره جفاف الماء الزلال، وانقراض جواميس الحليب الساخن .

من المؤكد… هو أسف مصدره الحروب ، والاحتراب، والنزاعات على ماء، وعشبه، وشجيرة نخيل!

الحروب؟

نعم الحروب.

واليوم، بعيداً عن متحف بغداد، وأنا في عاصمة (لا أحد)، لا أمويين ولا فيحائيين ولا أسديين… استمع إلى نفس الموسيقى. فنينوى ، المدينة تحت أقدام داعش، واللحم الحضاري البشري النابض، هو ما سيغدو، ذات يوم، موغلاً في المستقبل، وعلى شكل جدارية أو تمثال لأمهات في نزوح جماعي (نزوح تحت الكاميرات وفوقها ) حدث في القرن الواحد والعشرين.

وأيضا ستكون ثمة “نينوى” عصرنا الحاضر… نينوى المتعددة الأعراق والأديان. نينوى عنقاً تحت سيف، وكلمات تحت صمت، ورعب في أعين بشر لا ينقذهم أحد.

ونحن في دمشق… نسمع دوي الانفجارات في أرقى الأحياء، وفي أتعس الأحياء. من هنا وهناك وفي الوسط…ونعرف تحت تلك الأعمدة من الدخان … نعرف أي لحم كان في وليمة هذا الصباح!

وبعد نينوى المدينة، تأتي نينوى الأخرى في الذاكرة الانفعالية لهؤلاء الذين أحبوا متابعة بقاءهم منذ آلاف السنين، ولم يتح لهم هذا البقاء!

نينوى … مرة أخرى، أنشودة عذاب حقير في التاريخ القديم.

وصوت استغاثة تطلب الرحمة الفقيرة في التاريخ الراهن.

نينوى … كمخيم صبرا في قصيدة محمود درويش (تمر هذه الأيام ذكرى وفاته الخامسة).

نينوى تقاطع عالمين على جسد.
نينوى هوية عصرنا حتى الأبد !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى