كتب

نِزالُ الماضي

إن العودة إلى الماضي ومحاولة إعادة استكشاف جذور الإنسان ليست رحلةً سهلةً ميسورة. لا تتوقع أن يقابلك الماضي الذي انعزلت عنه بالترحاب والمصافحة، ولن تحوطك جذورك القديمة، التي لم يكن لها موضع في ذاتك، بالدفء والاحتواء؛ عليك أن تدخل معها في نزالٍ ومجابهة، ستترك آثارها على جسدك وروحك، حتى تُعاد ولادتك مجددا، وقد صقلك الماضي، وغرست الجذور نفسها في ذاتك؛ وعليك حينها أن تتحمل آلام إعادة الولادة، ومآسي إحياء الماضي، وعذابات تشقق الذات لتحفر الجذور موضعها داخل ذاتك. من هنا جعلت الكاتبة الأميركية ذات الأصول العربية ديانا أبوجابر المبارزة عنوان ومحور روايتها “مبارزة ملكية” التي تَسبر فيها أبعادَ رحلةٍ إلى الجذور، ونبشٍ في الماضي والإرث العائلي، يُفضي إلى نزالٍ قاسٍ له تداعياته.

تتزاوج في هذه الرواية الكتابة السير الذاتية مع الكتابة التخييلية في مزيج لا أقول يصعب على القارئ الفصل بينهما، بل لن يأبه بذلك مع تعمق السرد وتشابك الأحداث والشخصيات. فكما تنوه الكاتبة في المقدمة أن روايتها عمل تخييلي محض، ومع هذا – تؤكد الكاتبة – أن القارئ سيجد صدى سيرة ومسيرة أهلها ذوي الأصول الأردنية – الفلسطينية في ثنايا الرواية. وتقدم الكاتبة في مقدمتها سيرة مختصرة لعائلتها تُشَكل للقارئ نقاطاً مرجعية مهمة لبعض الشخصيات والعناصر الحكائية التي سيجدها في طيات السرد. ومع أنها لم تشر إلى سيرتها الشخصية في المقدمة، إلا أن القارئ لن يمنع نفسه من رسم خطوط التقاءٍ عدة بينها وبين الشخصية الرئيسية في الرواية، خاصة لمن اطلع على بعض تفاصيل حياة الكاتبة في كتابها “لغة البقلاوة”، أو المقابلات التي أجريت معها. وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على طرح الكاتبة للماضي ولجذورها، لتترك تداعيات صراعه مع حاضر بطلة الرواية يتكشف مع الأحداث، ويشي بتلك الروابط. فهي شخصيات قائمة بذاتها، ولا تمثل غيرها، كما تؤكد الكاتبة، تعيش أحداثا مصطنعة كأنها انعكاسُ ضوءٍ على هشيم مرايا، أشعل جذوتها التاريخ، وشتّتتها الأحلام في علاقة ملتبسة بالزمن، موزعة بين ماضٍ وحاضرٍ؛ وعلاقة ملتبسة بالمكان موزعة بين وطن الأصل، ووطن المقام.

وتعد إشكاليات الهوية والحنين إلى البلد الأصلي من الموضوعات المميزة في روايات الكُتاب الأميركان من أصول عربية، والذين نجحت كتاباتهم في طرح تلك الإشكاليات بمختلف أبعادها، خاصة الاجتماعية والسياسية. وقد تميزت تلك الروايات بالتركيز على طرق إعادة بناء وتشكل الهوية خارج وداخل الوطن ([1]) .

ومحاولة البحث تلك وما يتبعها من إعادة تشكل للهوية لا تأتي إلا بعد أزمة؛ فالهوية لا تصبح معضلة تواجه الإنسان إلا إذا صارت في أزمة، فهي في وضعها الطبيعي أمر مستقر وثابت ومتكامل، إذا ما تزعزع ذلك الاستقرار، واهتزت تلك الثوابت المبنية عليها، حل مكانها الشك وعدم اليقين([2]) . وهو ما يدفع إلى البحث عن مسارات أخرى تعيد الاستقرار إلى الهوية بإعادة تكوينها على ثوابت جديدة، وفي حالة هؤلاء الكتاب يكون أقرب مكان للبحث عن تلك الثوابت هو الوطن الأصلي بأصوله وثقافته التي تقدم حلولاً افتقدوها في مجتمعهم الآخر، لتشكل ما يمكن تسميته “الهوية الهجين” ([3]) التي تتأثر في حالة الأميركان من أصول عربية بعوامل مميزة نابعة من التمايز الحضاري واللغوي والديني، حتى عند العرب من أصول مسيحية، بين الثقافة العربية، بجذورها الإسلامية، والثقافة الغربية، بجذورها المسيحية.

تتجلى أزمة الهوية هذه وإعادة تشكلها في كتابات ديانا أبوجابر على نحو ظاهر؛ ليس فقط في الرواية قيد النقاش، بل في روايات سابقة لها تتناول دائماً قضايا الهوية عند الجيل الثاني من الأميركان العرب. فبطريقة ما، يجد الجيل الأول من المهاجرين وسيلة للتصالح بين ثقافتهم التي تربوا عليها وثقافة الوافدين إليها، وتظل إشكالياتهم في مسائل الحنين للماضي والتنازلات التي تدخل ضمن متطلبات التكيف. أما الجيل الثاني، فيواجه معضلة محاولة المزج بين ثقافة تربوا عليها في المجتمع الأميركي، وموروث ثقافي حمله معهم آباؤهم. عندما يواجه هذا الجيل أزمة الهوية المعتادة، لا يجد ملجأً إلا في ذلك الموروث الذي يقدم له حلولاً لإشكالياته.

في روايتها “موسيقى الجاز العربي” ([4])، على سبيل المثال، والتي يتجلى من عنوانها مفهوم الهوية الهجين بإضفاء صفة “العربي” إلى “موسيقى الجاز” التي تمثل ملمحاً فريداً من الثقافة الأميركية، تصارع شخصيات الجيل الثاني لمهاجرين عرب، ملفينا وجيمورا، لتحديد هويتهما التي ليست عربية بالكامل ولا أميركية بالكامل. والأمر نفسه في “لغة البقلاوة” ([5])، التي تمثل مذكرات شخصية للكاتبة، تبرز فيها الكاتبة كشخصية تتصرف كعربية داخل البيت، وأميركية خارجه في محاولة منها لإعادة خلق الذات التي تعبر عنها في مفتتح حكايتها بالقول “أن تسنح لك الفرصة لتعيد خلق نفسك لهو ضرب من الخيال، لكنه كابوس أيضاً، لأنك تفقد الكثير” ([6]). وهو ما أسمته الكاتبة في لقاء لها “محاولة الوصول إلى التوازن الثقافي بين تراثي وأميركا”، وعبرت عن تجرتها الخاصة عندما عاشت فترة من حياتها في الأردن بقولها “حاولت أن أوازن بين الحياتين، وأن أقنع نفسي بحل وسط” ([7]).

تأتي الرواية، التي صدرت مطلع هذا العام، محملة بالكثير من الرموز والدلالات لتقدم لنا ذلك اللقاء بين ماضي الإنسان وما يحمله من إرث ومشكلات، وحاضره وما يحمله من هموم وإشكاليات؛ لكن الماضي والحاضر هذه المرة لا تفصلهما هوة زمنية فقط، بل أيضاً مكانية؛ فالحاضر يعبّر عن واقع في بلد وثقافة، والماضي ينهض لمصارعته من بلد آخر وثقافة أخرى. وفي تلافيف تلك الصراعات الموزعة بين زمانين ومكانين، حاضرين وغائبين في ذات الوقت، تعرج الرواية على عدة قضايا لا يغيب عنها دور الماضي في تعقيد الحاضر: مآسي الشعب الفلسطيني ليس فقط مع الاحتلال الإسرائيلي، بل منذ الصراع مع الأتراك إبان الثورة العربية الكبرى؛ وقضايا السلام في الشرق الأوسط ودهاليز دوائر الحكم والمفاوضات؛ وحرية الصحافة؛ وقضايا المرأة وذوي الاحتياجات الخاصة؛ وصراع الكتابة والإبداع؛ كما لم تغفل عن الموضوعات المميزة لكتابات الكتّاب الأميركان من أصول عربية مثل مشاعر العداء العرقية ضد المهاجرين عامة والعرب خاصة، ومشكلات الهوية الدينية لأبناء المهاجرين.

تعود الكاتبة في هذه الرواية لاستثمار براعتها المعتادة في عزف لحن الموروث ودوره في تشكيل الحاضر وصياغة المستقبل، والتأكيد على استحالة خلع الحاضر والمستقبل من ربقة الماضي. لكنها تبز نفسها هذه المرة بنقل الصراع إلى جبهة أخرى تُنوّع فيه آلياتها لتخرج لنا لحناً جديداً تتنوع فيه المقامات من الشخصي البحت إلى السياسي والكوني. فموروث الماضي بنعمه ونقمه هو محور المعاناة ليس في صياغة حياة الإنسان البسيط، بل وفي صياغة مستقبل منطقة الشرق الأوسط بأسرها ومحاولات إيجاد حل سلمي لصراع يضرب بجذوره في التاريخ. فالعبور إلى المستقبل دون استحضار الماضي ضربٌ من العبث والدخول في دائرة مفرغة تعيدك قصراً في كل مرة إلى الماضي. تؤكد بطلة الرواية، وهي تبدي رأيها في الصراع العربي الإسرائيلي “لن ينسى أحدٌ ما حدث في الماضي… لن تتجاوز الماضي، دون أن تتذكره، وإلا سيعيق طريقك. فتتحول المحرقة إلى عنف من نوع آخر؛ سواءً كُنت الضحية أو الجاني، سنظل جميعاً أسرى في هذه الدائرة”. فالصراع مع الماضي على المستوى الشخصي يجد له صداه في الصراع على مستوى الشعوب الذي تُجرى عنه مناقشات عدة في الرواية يسهل تأطيرها للقارئ العربي والقارئ المطلع على الصراع العربي الإسرائيلي، ويشكل بعض التحديات للقارئ الغربي غير المطلع على أسس هذا الصراع.

أماني الشابة الأميركية، من أب ذي أصول عربية أردنية – فلسطينية وأمّ من أصول أوروبية، تدفعها عدة إشكاليات تتعلق بهويتها وتكيفها الشخصي والإبداعي في مجتمعها الأميركي لتخوض غمار مغامرة وجدت فيها ذاتها، وأعادت تشكيل هويتها ليس فقط الشخصية، بل أيضاً هويتها الإبداعية. ولا تتأتى لها إعادة التشكل تلك إلا بعد صراع تطلب خيارات صعبة كادت أن تفقد فيها حياتها. ففي منتصف تسعينات القرن الماضي، تذهب أماني مع أبيها في رحلة قصيرة إلى بلده الأصلي، الأردن، بدعوة من ملكها للمشاركة في فعالية الاحتفاء بيوم ميلاد الملك الستين ليستعيد فيها الملك ذكريات مباريات المبارزة التي شاركه فيها والد أماني أيام الشباب والصِبَا.

تتكشف مع الأحداث أن الدعوة كانت مخططة من عمها حافظ الذي يعمل في منصب مرموق بالديوان الملكي لكي يغري أخاه جبرائيل، جابي، للعودة وإحضار شِبرِيّةً (سكيناً) كان قد منحها له أباه قبل موته يسمونها “السيف” ولها أصول تاريخية عريقة من أقدم الحضارات، حتى دخلت ضمن أسلحة النبي (صلى الله عليه وسلم). يعتقد حافظ أنه الأحق بحيازة “السيف”، وأن منزلته بين رجالات القبائل اهتزت لعدم انتقال وراثة تلك الشِبرِيّة إليه من أبيه. وهكذا تتجلى مظاهر التقاء الماضي بالحاضر ليس فقط في إحياء تلك المبارزة الرمزية مع الملك، خاصة إذا اعتبرنا أن الملك يرمز إلى الوطن، ولكن في ذلك الصراع أيضاً على إرث رمزي آخر من الماضي يحمل الكثير من تجليات الموروث الثقافي البدوي، العربي عامة والأردني خاصة، وما تحتله الأسلحة المعدنية من سيوف وخناجر ومُديات من مكانة خاصة في تلك الثقافة بأبعادها وأحوالها المختلفة. وهكذا تفرض الشِبرِيّة نفسها في خلفية الرواية بما يمثله ذلك السلاح الحاد من قيمة عملية ومكانة مجتمعية في حياة المجتمع البدوي، لتتضافر مع روح ممارسة لعبة “المبارزة” التي برعت الكاتبة في وصف دقيق ليس فقط لحركاتها وألبستها وأسلحتها، ولكن أيضاً لروح ومغزى تلك الرياضة.

يدرك جابي أن الماضي، الذي يُطلق عليه “الوحش الجميل”، لا يمكن الفكاك منه؛ “كلما بعدت عن الماضي”، كما يؤكد جابي، “زاد في سطوته ومراوغته”. لم يدرك عندما ترك بلده، وهاجر إلى الولايات المتحدة “أن الماضي سيتسرب إلى الجيل التالي. ولكن هذا ما تبين له عندما ولدت ابنته (أماني) وفي عينيها الكحيلة سواد الليل مثل والدته”. وهكذا يعود إلى وطن المنشأ مثقلاً بتجارب الماضي ومتخوفاً من أسئلة الماضي التي هرب منها، وأسراره التي سعى الجميع لدفنها على مدار عقود. أما أماني، فبعد أسبوعٍ واحدٍ من مقامها في الأردن، تدرك أنها “تتعامل مع بلدين مختلفين: أحدهما ظاهر والآخر باطن. أحدهما يظهر في الكتيبات الإرشادية والفنادق والمطاعم، ليغطي أسفله عالماً من الذاكرة العميقة: موطن الانتماء والحرمان. لتدرك أنها هنا مجرد أميركية تقف خارج التاريخ دون أيّ فكرة عن كيفية الدخول إليه”. يتبدى لها التاريخ في أول مقدمها عندما يهجم عليها الصقر في عرض الصقارة، بما يحمل من رمزية ثقافية في حياة العرب، تاركاً آثار ندبات في كتفها، في رمزية لتلك الآثار التي ستتركها زيارتها في شخصيتها وهويتها.

وعلى بُعد آخر، يعيد الماضي إنتاج نفسه لينتقم من أخطاء الماضي من خلال قصة موسى ذلك الرجل البسيط من ذوي الاحتياجات الخاصة الذي تكتشف أماني قصته في رحلة بحثها عن تفسير أبيات وجدتها مكتوبة على أقصوصة ورق زرقاء بين متعلقات أبيها التي حملها من بلاده عند سفره، ويُرجَّح أن والدته هي من كتبتها لتعبر عن فجيعتها فيمن فقدته في مكان ما. يعود موسى إلى واقعهم كأنه قد تجمد كل تلك السنوات في تلك المنطقة النائية على حاله وبراءته في حياة لم تمسها تطورات الزمن ليكشف بعداً آخر لإعادة تموضع الماضي في الحاضر ليس فقط كإضافة، ولكنه يزيد الأمور تعقيداً، ويعيد ترتيب الأوراق.

وتزيد الكاتبة من تعقيد إشكاليات الهوية والاغتراب وارتباطها بالزمان والمكان من خلال عدة شخوص أخرى تصارع إما ماضٍ يعوق حاضرها، أو حاضر ٍتنفر منه نفسياتها، وتتعلق بمستقبل متوهم خارج الوطن؛ يمثل الصنف الأول “إدواردو” الذي يحيا غربة في وطنه يدفع بها ثمن تجرّؤ والديه على بعض الثوابت، ويمثل الصنف الثاني “عمر” الذي يتقمص هوية بديلة، ولا يرى في وطنه إلا كل ما يعوق، ويتوهم أن الغربة ستقدم له كل الحلول الممكنة. لتتضافر مع هذا سرديات أخرى تلقي بظلالها على المشهد من زوايا مختلفة، مثل كارول وبقية مجتمع زوجات الأردنيين من أصول أجنبية وما كسبنه أو خسرنه في تلك التجربة التي لا تفارق أي واحدة منهن، حتى لو كانت الملكة.

وهكذا تتماوج شخوص من أجيال مختلفة وجنسيات متعددة لرسم صورة موحدة برعت الكاتبة في رسمها بتقنيات تصوير سردي ينتقل بسلاسة بين سبر أغوار مكنون الشخصيات إلى كشف كنه المكان والطبيعة الجبلية الصحراوية. مكنت تلك التقنيات الكاتبة من حشد شخصيات وأماكن تعد كثيرة بالنظر إلى حجم الرواية، فقد نسجت هذا العدد الكبير من الشخصيات المختلفة، والأماكن المتنوعة التي تتنقل بينها الرواية في تنقل يصل إلى حد اللهاث، في سرد يجمع بين سلاسة الانتقال ودعوة القارئ للتوقف لإعادة ربط الشخصيات والأماكن، في أسلوب سردي يحاكي حركات نزال المبارزة من تقدمٍ وتقهقرٍ، وانحناءٍ والتواءٍ، وهجومٍ وتفادٍ. تقمصت الرواية تقنيات المبارزة ليس فقط في تطور الحبكة والسرد، ولكن أيضاً في تعاملها مع مآلات الشخصيات؛ فقد حملت الروح النبيلة لرياضة المبارزة، فخلت من صور الانتقام الحاد أو الجزاء القاسي لشخصياتها مع فداحة بعض أفعالهم.

هوامش:

[1] Noman, A. Abbas. 2020. “Arab American Novel: Development and Issues”. Studies in Literature and Language. Vol. 20, No. 2, 2020, pp. 68-73. P. 69.

 

[2] Mercer, Kobena. 1994. Welcome to the Jungle: New Positions in Black Cultural Studies. New York: Routledge. P. 259.

 

[3] Mercer. P. 4.

 

[4] Abu-Jaber, Diana. 1993. Arabian Jazz. London: W. W. Norton & Company.

[5] Abu-Jaber, Diana. 2006. The Language of Baklava. Illinois: Anchor Books. صدر منها الترجمة العربية: أبوجابر، ديانا. ت. بثينة الإبراهيمي. 2020. لغة القلاوة. الرياض: دار تشكيل.

[6] أبوجابر. ت. الإبراهيمي. لغة القلاوة. ص.11.

[7]  جريدة الشرق الأوسط، ديسمبر 2015م.

مجلة الجديد اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى