شرفات

هجرة المخرج حسن خبيز إلى الموت !

عماد نداف

عندما كنتُ أسافرُ مع صديقي وشريكي الراحل المخرج حسن خبيز في مشروع وثائقي تلفزيوني، كان يحلو لي عند الفجر ، حيث كنا نشغل غرفة واحدة في كل فندق ننزل فيه، أن أنصت إلى صوته وهو يتلو صلاته بخشوع وعمق، فحسن كان يؤدي الصلاة في وقتها ويستلهم منها سلوكه اليومي.

فاجأتني هذه الصلاة أول مرة في حلب، عندما استيقظت على تكبيرات صلاته ، ثم دعائه الجميل، فنهضت من السرير، وجلست أتابع دعاء ه الصادق.

عندما انتهى، وجدني أراقبه بإعجاب، ولكي أتجاوز الأمر، قلت له : صوتك آسر وأنت تصلي، ودعاؤك صادق وأنت تبتهل إلى الله..  أيقظتني على سورة الفاتحة وجعلتني أجلس بحماسة وأنا أسمع الدعاء.

لم يكن (ابو علي)، كما كنا نلقبه قبل أن يتزوج، سوى واحد من العاملين الطموحين في العمل التلفزيوني، فقد بدأ مساعدا للمصور، ثم صار مصورا، ثم تحول إلى الإخراج، وكان يحتاج إلى مشروع يرى نفسه فيه، وعندما تعرفت إليه وجده معي.

في البداية كنت أقوم أنا بالإخراج، ويقوم هو بمساعدتي، وعندما توافقنا على الرؤية ، لم يعد هناك من داع لآخذ الصفة منه، فصار مشروعنا يحمل توقيعين مشتركين ، وكان صفة الإخراج ترافق اسمه في الأعمال التالية.

ومع اندلاع الحرب، وتحطم الأحلام التي بنيناها، قرر أن يترك العمل، وكانت صدمته كبيرة عندما صرفت له محطة محلية مبلغاً هزيلاً لايتجاوز الأربعة آلاف ليرة له عن ثلاثين حلقة من برنامج يومي في شهر رمضان!

لم يفعل شيئا ولم يحتج، نظر باستهزاء إلى المبلغ الذي أعطي له، ثم رمى أحلامه التلفزيونية جانباً، وقرر أن يستقيل ، فاستقال، وذهب إلى الأعمال الحرة، ولأن الأعمال الحرة مثل غيرها لايمكنها حمل أحلام رجل شريف طموح، انكفأ وقرر أن يستقيل منها أيضاً في انتظار مشروع هجرة ما، وعندما هاجرت زوجته إلى أوروبا ، بقي سنوات في دمشق  مع طفليه الجميلين اللذين يتابعان مدرستهما بتفوق ، ينتظر جمع الشمل مع زوجته.

آخر مرة رأيته فيه ، وكان ذلك قبل شهر تقريبا في ساحة عرنوس، أخبرني أنه يُعد الأوراق للهجرة، فكل شيء أصبح جاهزاً، وعندما هاجرمات سريعا لاندري كيف ، أخذه الموت وترك أحلامه محروقة وسط لهيب الحرب، ولهيب الوفاء الضائع!

الموت يشغلنا كثيراً هذه الأيام ، صار بالقنطار كما يقولون بلغة السوق، نفقد كل يوم قريباً أو صديقاً أو كبيراً أو مميزاً . وفي تجربة رحيل المخرج حسن خبيز يأتيني صوت الشاعر الكبير محمد الماغوط عن الموت :

‏إنَّ الموت ليسَ هو الخسارة الكبرى، الخسارة الأكبر هي ما يموت فينا ونحنُ أحياء.

نعم ماتت الأحلام عند حسن وهو حي، وكانت تلك الخسارة الكبرى له، لكن أرشيف التلفزيون يحمل الكثير من أعماله الوثائقية ، والكثير منها يحمل اسمينا معا، وكانت أجمل الأعمال تلك التي أنجزناها معا، وكان صوت صلاته يوقظني عند الفجر ، ثم نشرب قهوة الصباح معا، ونرسم تفاصيل خطوات التصوير التي أعددناها بينما تبدأ حركة الناس في شوارع المدن التي نزورها ..

 

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى