هذه نفاياتكم.. رُدّت إليكم

هذه النفايات، من برميل «الديموقراطية اللبنانية». فيا «سادتي القضاة. الشعب أساء الانتخاب، فيجب حلّ الشعب». قول مأثور لبرتولد بريخت، يمكن أن ينسحب على خيارات اللبنانيين. بين السيئ والأسوأ، بؤس اللبنانيين يقع على اختيار الأسوأ والدفاع عنه. والشنيع في كل هذا، تبرؤ اللبنانيين من الذنب… لبنان هذا، في حالته الراهنة، هو من صنع اللبنانيين وحدهم. إلقاء التهمة على «السوري» وعلى «الفلسطيني» وعلى «إسرائيل» وعلى «الغرب» وعلى «الفتنة الكبرى» المندلعة حوله، كذب وتلفيق.

فيا «سادتي القضاة، هذا الشعب أساء الانتخاب، فيجب حلّ الشعب». وعليه، لا يحقّ له لعن «طبقة السياسيين». هذه منهم ولهم. لم تُفرض عليهم. اختاروها بملء حريتهم، بلا وصاية ولا حماية ولا تدخل. انتخاب اللبنانيين «لطبقتهم السياسية»، بعد الانفضاض السوري عن لبنان، نموذج لممارسة الحرية. اتهام قانون الانتخاب بصحّة التمثيل، لا يغيّر في طبيعة «الطبقة السياسية»، بل في تعديل الموازين، عددياً، في ما بينها. تبقى «الطبقة» هي هي. الطعن بالسطو الطائفي والاستقواء المناطقي، وتفضيل الصفاء الانتخابي (كالقانون الارثوذكسي) لا يغيّر في المعادلة كثيراً، بمقدار ما يُشعر «الطوائف المحرومة» بالانتفاخ التمثيلي.

أياً يكن القانون الانتخابي، الأسوأ هو النتيجة الحتمية. لقد زحفت جموع السنة، باستثناءات يتيمة، لملء المقاعد السنية. ذهبت بكامل «الحرية». لم يدفعها أحد. لم يقمعها أحد. «عنجر» أقفلت أبوابها، وبات أهل الكيان، في حل من القيد الخارجي المباشر. كما زحفت جموع الشيعة، باستثناءات نادرة، لملء المقاعد الشيعية، ومَن يحالفها، من «طفّار» السنة والمسيحيين والدروز. ذهبت بحماس منقطع النظير، في «الحلف الرباعي»، وبعد «ورقة التفاهم». ولم يتغير في التمثيل الشيعي إلا القليل الذي لا يُرى ولا يُحسّ به.

المسيحيون المنقسمون على أنفسهم. انتقموا من تغييبهم وخسائرهم، فزحفوا في ما يشبه «التسونامي»، لتأهيل قادة رأي عام طائفي، في زمن الحروب اللبنانية، لينضمّوا إلى «الطبقة السياسية» المنتقاة بصناديق الانتخاب وأوراق الاقتراع، المبصوم عليها بالولاء الطائفي والمذهبي.

لا مشكلة في التمثيل الدرزي. «القائد» الجنبلاطي يكتسح بـ «محازبيه» اللوائح، ويترك لـ «الأمير»، «مكاناً ومكانة».

تتألف «الطبقة السياسية» من هؤلاء فقط. لا أحد مجهولاً. إنهم ستّة بالعدد وبالفعل وبالنفوذ وبالقرار و… بالضياع والفراغ والفشل والفساد وانعدام المسؤولية الوطنية… بيد المارونية السياسية والسنية السياسية والشيعية السياسية والدرزية السياسية، مقاليد السلطات كلها، السياسية والأمنية والإدارية والمالية والبيئية و… كل شيء تقريباً. (الخلاف في ما بينها حول نصاب المحاصصة وتوازنه وليس حول نصاب الوطن ومستقبله).

هذه «الطبقة السياسية» بالتحديد وبالأسماء وبالانتماءات التي تتحصّن بها، هي التي أوصلت البلد إلى «سوق للقمامة». القمامة، هي آخر إفرازات، أو، إبداعات، «الطبقة السياسية»، المطوّبة من قبل «محازبيها» وبيئاتهم الحاضنة، منذ عقد ونصف ونيّف، والمأمول لها، بتضرّعات قواعدها الباسلة، أن تستمرّ في مقاماتها، مع زيادة الدعم والشحن ورجم الخصوم.

لذا، «هذه نفاياتكم، رُدّت إليكم». لا تجوز لعنة «الطبقة»… العنوا أنفسكم. أنتم المسؤولون، كلبنانيين، عن تحويل لبنان إلى «مزبلة سياسية»، قبل أن تنال منكم كمزبلة بيئية، تحتل أبواب منازلكم، وتحارون في أي مكبٍّ تدفنونها…

آخر العفن السياسي المزمن، هذه القمامة المعمّمة. قبلها، لم يسأل أحد من مئات آلاف اللبنانيين الناخبين، أي مسؤول بادروا إلى انتخابه طوعاً وبحماسة مشهودة، عن مآلات الديون المتراكمة التي بلغت المئة مليار دولار. لم يسأل أحد إن كانت «عدوى اليونان» ستصيبنا، ونتحوّل إلى متسوّلين، يأكلون خبزهم كفاف يومهم. لم يتنطّح أحد للسؤال عن «مافيا الكهرباء» ولماذا ندفع الجزية مرّتين؟ لم يلوّح أحد بموقف من الهدر المائي والتسيّب المالي. لم ينتفض أحد ضد فساد يحظى بالدعم «الأخلاقي» من أتباع منتفعين: الفساد دِين اللبنانيين ويصلّون خلفه ويصفقون له في كل موسم انتخابي، أو عند كل منعطف… إلى آخره من «مثالب» السياسة التي يعدّها الأتباع فضائل وحالة من حالات الذكاء أو الدهاء الضروري.

لم تسقط الدولة بعد. لم يسقط النظام بعد. لقد سقط المجتمع بمن فيه وبما فيه، ولا سبيل له إلا إعادة إنتاج نفسه مذهبياً. ما تزال الدولة تتمتع بفضيلة «ثبات الليرة» (وقد يكون ذلك موقتاً) وبقيمة مثالية، هي الحفاظ على الأمن، وسط حرائق المنطقة. خارج هاتين، لا قيمة ولا فضيلة لأحد.

تساءل كثيرون عن أسباب تبلّد الإحساس لدى اللبنانيين. قيل يأس. قيل «انعدام أفق». قيل «فالج لا تعالج». قيل: «ما لجرح بميّت إيلام». أقوال تؤكد أن المرض اللبناني لا شفاء منه. فالطائفية تداوي نفسها بالمزيد منها، واللاطائفيون، أحزاباً وتيارات ونخباً ومواقع وأندية، مصابون بـ «أنيميا» ذاتية، وشلل كلي. يقال: «مطلوب أن نرى النصف الملآن من الكأس». ويقال كذلك: لا وجود لكأس في الأساس. البلد محكوم بنهايات تنبثق عنها بدايات أسوأ.

لا إفراط في التشاؤم الراهن. سبق أن غامر الرئيس فؤاد شهاب بالتغيير. كان رئيساً قوياً، ومن خارج الطبقة السياسية. اقترح أن يبدأ ببناء الوطن من فوق. فتمنّعت «الطبقة السياسية» آنذاك (تلك الطبقة التي تبدو من منظار اليوم، رحومة وغير متوحّشة). المؤسسات التي أنشأها لربط المواطن بمؤسسات الوطن، باءت بالفشل. «أكلة الجبنة» أكلت الإصلاح من فوق… لجأ إلى الإصلاح من تحت، عبر إعطاء الحق للمواطن باختيار نوابه ومسؤوليه. فاختار اللبناني «طبقته السياسية» نفسها… ولما دُعي إلى تجديد ولايته، رفضها، لأنه على علم بأن العلة في خيارات الناس وثقافتهم الإتباعية. فلا إصلاح من فوق ولا إصلاح بالديموقراطية الانتخابية.

فيا «سادتي القضاة، الشعب أساء الانتخاب، فيجب حلّ الشعب». وعليه، فهذه «نفاياتكم رُدّت إليكم».

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى