كتب

هشام الخشن… عن البراءة المشكوك في أمرها

غنوة فضة

 «ناعومي وأخواتها» (الدار المصرية اللبنانية) للكاتب المصري هشام الخشن (1963) روايةٌ عن البراءة المشكوك في أمرها. ذلك أنّها تجعل من إرادة الفرد العالق ضمن سيطرة الآخرين عنواناً، وتأخذ مادتها من المصائر كأدواتٍ لتنفيذ الرغبة. أمر يفرغ وجود الفرد من معناه، ويضعه في صراعٍ بين أن يقبل أو يرفض سيطرة المحيط وسطوةَ أحكام الأسرة، لتفرغ الحكاية إلى شخصياتٍ منهكة. «لم أكن أعرف كم «سيداً» من الممكن إلحاقه باسمي..».

من هنا يبدأ الكاتب بعرض قصة بطلته «نعمت» من فضاء تختلط فيه الحقائق، ذلك أنّ عيشها ضمن أسرة ثرية لكن مفككة، يجعلها عرضة لأهواء الجميع. فالطفلةُ تنمّي، مع مرور الوقت، أربع شخصياتٍ، يصوغها التشتت، وتشبّ على التبعثر النفسي، إذ تعيش واقع شخصياتها وتصنعها أصواتها التي تتردد عبر الرواية.

تقع «نعمت» ضحية التهافت على ميراث عائلي، وتدخلُ المصحّة النفسية على إثر مؤامرةٍ، لتقابل فيها الدكتور عمر وزوجته الأميركية لورا. من هنا ينطلق الكاتب في طرح تساؤلاته عما إذا كان من المسموح كره أولئك الذين يشيرون لنا بحتمية حبهم. فهل من المعقول أن نغضب ونستاء من أفعالهم؟ وما هي الاستجابات الملائمة للأزمات التي تجعل المرء عالقاً؟ وبين نعيمة ونعمت وناعومي حتى غوص الطبيبين للوصول إلى شخصية الطفلة نوني، نكتشف إصابة الفتاة بما يسمى «اضطراب الهوية التفارقي»، ومنه يكشف الكاتب الأسباب التي أصابتها بالتهتك الداخلي، فسلطة الآباء وسعيهم لغرس شخصياتهم داخل أبنائهم مسألة تجري بصورة تلقائية في المجتمعات الشرقية، ومن دون مراعاة لشخصية المتلقّي في النمو العفوي الطبيعي.

هكذا تتلاعب الظروف بمصير نعمت، ومعها تبرز مشكلة انمحاء الذات واضمحلال الفرد جراء انصهاره القسري في عرف الجماعة، ليأتي تساؤل الروائي في ما إذا كان الاندماج قد حصل بالفعل أم كان مجرد تماشٍ لتحسين الواقع من جهة المسطو عليهم. ثمة نظرة غير راضية منهم، نسمعها من الصوت الداخلي الخفي، ومن استنكار نعمت الخافت حيال حياتها وردود أفعالها. نلمسُ ذلك من خلال حاجتها لتثبت أنها موجودة، وأنها صاحبة حق، وهو ما يُكشفُ في المشهد الذي تبلغ فيه ذروة صراعها حين تصدّ اعتداءات أخيها وتبادله الضرب؛ في إشارةٍ إلى صحوة امرأةٍ غاضبة لم تقبل الحياة التي عاشتها.

هذا الصراع الناجم عن هشاشة الذات وصلابة الجماعة، له بذوره التي تجلّت في طفلة تخلّت عنها أمها في عمر الثالثة، وهُجِرَت لتعيش بين يدي جدة وعمّة ريفيّتين. ذلك الشرخ بين عالم الأم الأرستقراطي والبيئة الفلاحية لعائلة الأب، دفعها لتنمي شخصية ناعومي الأرستقراطية إرضاءً لأمّ صعبة المراس، وتستمر في انتقاد ما نشأت عليه ابنتها من عادات قروية.

وعبر جلسات التداعي أمام عمر ولورا، نطلّ على شخصية نوني، الطفلة التي تنكص للحديث عن صدمتها حين أُجبرَت على إجراء عملية الختان؛ ذلك الانصياع المرّ، والذعر المجهول الذي رافقها أمام المشرط، يدفع بشخصية نعمت إلى التشظي، ليكلَلَ المرض بزوجٍ يبحث عن إرثها، وأخٍ سمح له العرف بالتعدي عليها. ما يجعلنا أمام وثيقة صاغها الكاتب لجهة نقدِ العرف، ورفض استمراره. هذا ما نجده في اندفاع المقربين للتلاعب بنعمت تحت غطاء الحب، وبدافع الحرص على ما تمليه مصالحهم.

إلا أن السؤال الأهم يأتي في نهاية الحكاية، حين تكتشف لورا أن شخصية نعمت التي طوّرتها المريضة، هي شخصية ناضجة لخريجة علم نفس عبقرية، ونتاجٌ للشخصيات الثلاث الباقية، وهي كموظفة سابقة في شركات الأب، تفهم كل ما يحدث، وتحلّل الوقائع، وتصنع عالمها الخاص وفقاً لتصوّراتها الخاصة. ذلك السرّ هو ما ينتصر للرواية ويمنحها الفرادة، إذ تبدأ لورا بالاعتقاد بأن المرض لم يكن سوى تمثيلية لفتاة أرادت الانتقام من أسرتها.

وقد صنعت انتقامها وفق معرفتها بحيثيات المرض وندرته، وما تعرّضها الصريح للاغتصاب على يد أصدقاء أخيها، سوى دافع لتفعيل الانتقام، هو ما يحدث حين يقع الأخ في أزمة تدفعه إلى الهرب خارج البلاد، ويُزَجّ زوجها في السجن، بينما تُترك الأم في حالة من العوز المادي.

تلك الازدواجية بين الذات وأشكالها، وصعوبة تفكيكها للأحداث من حولها، تصيب لورا وعمر بالحيرة، فعلم النفس لم يجزم بعد بوجود المرض أو عدمه، الأمر الذي يضعهما في حالة من الحرج أمام نفسيهما قبل الجميع. هل كانت نعمت مريضة حقاً؟ أم أنها مثلت أدوارها الأربعة ببراعة؟ هل كانت تلك مسرحية صنعها عقل عبقري؟ أم أنها ضحية تلاعبٍ والصدمات التي كشفتها الجلسات لم تكن سوى سجل وثائقي لمرضٍ نادر الحدوث؟ هذا ما يطرحه الكاتب في نهاية الرواية، ليعبّر عن ظلمة النفس البشرية، وتعقيد تكوينها جراء الشعور بالفقد، إلى درجة يصعب بعدها الفصل بين الخيال والواقع: «منذ تشخيص الدكتور عمر لحالتي وأنا في حالة من الممكن وصفها بالحالمة.

ليست حالمة بالتعريف الرومانسي، لكن حالمة بمعنى أن الواقع والخيال في حياتي أصبحا غير قابلين للفصل. ربما الوصف الأدق أني ساهمة، تائهة، لا قدرة لي على التركيز. أسرح في الشخصيات التي يحتويها جسدي، وأستعيد مواقف من الماضي».

صحيفة الأخبار اللبنانبة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى