هكذا أشعلت واشنطن الحرب الأهليّة [8]: سلاح لـ«الكتائب» و«الأحرار» من إسرائيل وأميركا وأوروبا
تحوّلت الساحة اللبنانيّة، حتى قبل أن تبدأ الحرب، إلى ساحة للصراع بين الجبّارين في فترة احتدام الحرب الباردة. كانت الحكومة الأميركيّة تسعى إلى استخدام لبنان لتسجيل نقاط ضد الاتحاد السوفياتي ولمحاربة اليسار اللبناني والفلسطيني، ولخدمة العدوّ الإسرائيلي.
وتطوّعت الميليشيات اليمينيّة في لبنان لخدمة الأجندة الأميركيّة والإسرائيليّة. والذي غفل عنه كتاب جيمس ستوكر (المبني أساساً على وثائق الخارجيّة الأميركيّة) أن بيروت كانت تعجّ بأقذر رموز العمليّات الخارجيّة للمخابرات الأميركيّة. والعلاقة بين الشخصيّات الأميركيّة المتورّطة في لبنان توضح طبيعة التدخّل والتأجيج الأميركي وعمقهما. ماذا كان فيلكس رودريغز، مثلاً، يفعل في بيروت حتى قبل اندلاع الحرب؟ ورودريغز (عمل أيضاً تحت اسم «ماكس غومز»)، الذي تورّط في عمليّة «خليج الخنازير» الفاشلة وفي اغتيال المناضل الأممي تشي غيفارا، تعرّف على سركيس سوغانليان (الذي سبق الحديث عنه في عمليّات تسليح الميليشيات اليمينيّة من قبل المخابرات ووزارة الدفاع الأميركيّة) بواسطة عميل المخابرات الأميركيّة الشهير إدوين ولسن (الذي تورّط في ما بعد في عمليّات بيع أسلحة للنظام الليبي).
وقد باع ويلسن أوّل طائرة بوينغ ٧٠٧ لسوغانليان عندما كان الأوّل يعمل لصالح شركة «إير أميركا» (وهي الشركة التي افتضح في ما بعد أمر تملّكها من قبل «وكالة المخابرات الأميركيّة»). ونقلت هذه الطائرة السلاح الأميركي لصالح الميليشيات الانعزاليّة قبل اندلاع الحرب (وبعدها عندما تملّك سوغانليان أسطولاً من الطائرات). ويروي ولسن انه حاول ان يُجَنِّد سوغانليان لصالح المخابرات الأميركيّة، لكن «وكالة استخبارات الدفاع» (الجهاز الاستخباراتي التابع مباشرة لوزارة الدفاع ) أعلمته بأنّها هي التي تحتكر تشغيل سوغانليان. (راجع كتاب جوزيف ترينتو، «مقدمة للإرهاب: إدون ولسون وإرث شبكات الاستخبارات الأميركيّة الخاصّة»، ص. ٥٤). ويعترف ولسن بأنه عرّف رودريغز على سوغانليان (بطلب من توماس كلاينز، مسؤول «العمليّات القذرة» في المخابرات الأميركيّة والذي كان مسؤولاً عن عمليّات الإرهاب ضد النظام الشيوعي في كوبا) لأن سوغانليان كان يفتّش (ليس بالنيابة عن نفسه حكماً) عن عسكريّين محترفين لتدريب ميليشيا اليمين الطائفي. واصطحب سوغانليان رودريغز إلى قاعدة لمرتزقة بلجيكيّين (باعتراف سوغانليان)، وكان المرتزقة من البيض في جنوب أفريقيا إلى الفاشيّين في أوروبا، مزروعين في ميلشيات اليمين الانعزالي آنذاك. (ومن المفارقات التاريخيّة غير المعروفة أن رودريغز هذا كان على صلة بويليام باكلي، مسؤول محطة المخابرات الأميركيّة في بيروت في ما بعد، والذي اختطف عام ١٩٨٤ من بيروت. وكان الإثنان، بالإضافة إلى توماس كلاينز، وغيرهم، ينتمون إلى «الفريق السرّي» للاغتيالات في قسم «النشاطات الخاصّة» في المخابرات الأميركيّة، راجع كتاب ليزلي كوبرن، «خارج السيطرة»).
وفي اجتماع أكتوبر لـ«مجموعة العمليّات الخاصّة» في البيت الأبيض لبحث الوضع في لبنان (والذي سبقت الإشارة إليه في خاتمة الحلقة السابقة)، اقترحت المجموعة عدداً من الخيارات، بينها «تدخّل سياسي بنّاء» من قبل أميركا في لبنان بغرض حثّ إسرائيل على وقف دعم «المسيحيّين»، وتضمّن اقتراح آخر وضع «المسيحيّين مرّة أخرى في مركز الصدارة (السياسيّة)»، أي إعادة فرض نظام الهيمنة الطائفي الماروني في لبنان. (ص. ١٥٨، من كتاب ستوكر). وطرق تحقيق هذا الغرض تطلّبت إيجاد السبل «غير المباشرة» لمدّ الكتائب بالسلاح و«أحجام وفيرة لمنح من المعدّات العسكريّة بسرعة للحكومة اللبنانيّة، مع توقّع استخدامها ضد المسلمين». وتم بحث تحذير سوريا من عدم إمكانيّة واشنطن ردع إسرائيل في حال «بلغت الأمور في لبنان حدّاً أقصى». لكن ستوكر يقول إن كيسنجر لم يدعُ، كما دعا في عام ١٩٦٩، إلى مساعدة مباشرة للمجموعات المسيحيّة. وكلمة «مباشرة» هي الفصل هنا، أي أن المساعدة تمرّ عبر الحكومة الأميركيّة مباشرة، وليس عبر أجهزة المخابرات الأميركيّة (التي كانت تعمل باستقلاليّة أكبر عن الديبلوماسيّة الأميركيّة آنذاك).
ولحظ الاجتماع رؤية العدوّ الإسرائيلي لفرص مفيدة له من استمرار المعارك في لبنان، مثل إشغال الفدائيّين، وأنه يمكن لإسرائيل الموافقة ضمن شروط محدّدة على تدخّل سوري في لبنان. واهتم كيسنجر بالحصول على جواب إسرائيل عن «المستويات المقبولة» لنشاط سوري في لبنان. وكان السفير الأميركي، حسب الوثائق الأميركيّة التي اعتمد عليها غير برغسون هوز في أطروحته في جامعة أوسلو بعنوان «عرض جانبي خطير: أميركا والحرب الأهليّة اللبنانيّة، ١٩٧٥-٧٦»، ص. ٤٣، يخشى من استمرار أوهام الزعماء الموارنة حول إمكانيّة تدخّل عسكري أميركي لصالحهم في لبنان. وكان غودلي يوصي بممارسة ضغط على «المسيحيّين» (حسب وصف الوثائق تلك)، لكن السفارة الأميركيّة في بيروت لم تكن تصنع السياسة، لا بل كانت توصياتها على سكّة متناقضة أحياناً من سكّة مجرى السياسة الخارجيّة الأميركيّة، وخصوصاً عمل أجهزتها الاستخباريّة. وعندما بحثت الحكومة الأميركيّة مع الحكومة الإسرائيليّة في شان تدخّلها في لبنان، سأل وزير خارجيّة العدوّ، يغال ألون، الحكومة الأميركيّة عن إمكانيّة مدّ مساعدة أميركيّة للميليشيات الانعزاليّة.
وبحث الاجتماع المذكور في سيناريوات للتدخّل الخارجي. والسيناريو الأوّل (لم يذكره ستوكر لكنه ورد في أطروحة غير برغسون هوز، ص. ٤٤) مفاده إمكانيّة نشوء «لبنان راديكالي» تحت سيطرة عرفات وجنبلاط. والسيناريو الثاني هو غرق لبنان في الفوضى إلى درجة تستدعي تدخل إسرائيل أو سوريا «لفرض الاستقرار فيه». وبعيداً عن اهتمام كسينجر الذي لم يكترث للوضع الداخلي في لبنان، اقترح ويليام كولبي (مدير وكالة المخابرات الأميركيّة) «منح المسلمين مراكز مرموقة» في المجتمع اللبناني. لكن كيسنجر أوقف البحث في «الإصلاحات» وقال: «لا نريد أن نتدخّل» في هذا المضمار. وكانت رؤية كولبي غريبة بعض الشيء. إذ اقترح تقوية «المعتدلين» في لبنان، أي، برأيه، رشيد كرامي وكميل شمعون، وإضعاف «المتطرّفين»، أي، برأيه، الحركة الوطنيّة اللبنانيّة ومنظمّة التحرير الفلسطينيّة والكتائب. ولم يحضر جيرالد فورد الاجتماع المذكور، لكنه بحث في موضوع لبنان في اجتماع مع كسينجر في ١٦ تشرين الأول، وسأل فورد عن إمكانيّة إرسال قوّات أميركيّة إلى لبنان، كما فعل أيزنهاور في عام ١٩٥٨. وأجابه كيسنجر أن مصر ستعترض، مما يعيق تطبيق اتفاقيّة سيناء ٢ التي كانت ذات أهميّة قصوى للتحالف الأميركي ــــ الإسرائيلي. وكان كيسنجر حذراً من اقتراح لجم الكتائب خشية أن يفقدوا الأمل وأن يمنح ذلك الحركة الوطنيّة ومنظمّة التحرير نصراً سريعاً.
وباشر ريتشارد مورفي في دمشق مفاوضات مع الحكومة السوريّة حول التدخّل في لبنان. وتضمّنت تعليمات مورفي ملحوظة أميركيّة أن «الآراء السوريّة ستكون على الأرجح قريبة من آرائنا (أي الحكومة الأميركيّة) حول العناصر الأساسيّة للحل المنشود في لبنان» (ص. ١٦٠ من كتاب ستوكر). لكن الحكومة الأميركيّة لم تعد الحكومة السوريّة بمنع أو ردع تدخّل إسرائيلي في لبنان، لا بل هي أشارت إلى أن ذلك سيحدث بصرف النظر عن الردّ الأميركي عليه. وعبّرت الحكومة السوريّة عن «سعادتها» للحوار مع أميركا. لكن حافظ الأسد اشتبه، حسب رواية مورفي، بأن «المؤامرة الأميركيّة ــــ الإسرائيليّة في لبنان» تسعى إلى تحويل الأنظار عن إتفاقيّة سيناء ٢.
وكانت الحكومة الأميركيّة تزعم في رسائلها للحكومات العربيّة أنها غير ملتزمة بموقف «الميليشيات المسيحيّة».
واقترح وزير الخارجيّة المصري، إسماعيل فهمي، على الحكومة الأميركيّة فك عرى الجبهة السوريّة ــــ الأردنيّة، وإضعاف قدرات سوريا على مفاقمة الموقف. والغريب أن حكومة جيرالد فورد أبلغت الحكومتيْن المصريّة والسعوديّة ان إسرائيل قد تقبل بقوّة من الجامعة العربيّة في لبنان، في حال قبولها من «العناصر الأساسيّة» في لبنان، بما فيها «المسيحيّون».
ولم تكن الحكومة الأميركيّة وحدها تحاول إقناع إسرائيل بجدوى تدخّل سوري في لبنان (وكان السفير غودلي من المتحمّسين لتدخّل سوري في لبنان)، بل كان الملك حسين يقوم بالدور نفسه في حوار مباشر مع قادة العدوّ الإسرائيلي. وشدّد حسين في لقاء مع رابين أن «سوريا تسعى للعب دور معتدل» في لبنان. وتعزّز مذّاك دور الملك حسين في إقناع واشنطن وتل أبيب بجدوى التدخّل السوري في لبنان.
وتوالت التقارير عن تسليح إسرائيلي للميليشيات الانعزاليّة في لبنان. وذكر تقرير لوزارة الدفاع الأميركيّة في تشرين الأول عام ١٩٧٥ ــــ أي قبل رواية جوزيف أبو خليل عن الرحلة في عرض البحر ــــ أن الميليشيات الانعزاليّة (كانت التقارير الأميركيّة تصفها بـ«المسيحيّة») تلقّت «كميّات كبيرة» من بنادق إم ــــ ١٦ «من الإسرائيلييّن على الأرجح». وحسب تقرير الملحق العسكري الأميركي في بيروت، فإن الميلشيات تلقّت ــــ «على الأقل» ــــ ٧٦٠٠ بندقيّة إم ــــ ١٦، وبعض هذا السلاح أميركي المنشأ، وكان مشحوناً إلى إسرائيل. وقال كيسنجر للسفير الإسرائيلي في واشنطن، سيمحا دينيز، «أنا اعتقد أنكم تسلّحون الموارنة فيما تسلّح ليبيا المسلمين». ونفى دينيز ذلك، لكن إسرائيل فهمت موقف كيسنجر على انه موافقة ضمنيّة على تسليح الميلشيات الانعزاليّة.
اشتدّ العنف في لبنان، واشتعلت حرب الفنادق التي كان الانعزاليّون يريدونها معبراً إلى شارع الحمراء للاستيلاء على المصرف المركزي. لكن تدخّل قوّات المقاومة الفلسطينيّة المحدود (خصوصاً قوّات من الجبهة الشعبيّة والجبهة الديمقراطيّة والجبهة الشعبيّة ــ القيادة العامّة وبعض قوى من حركة «فتح» تحت واجهة «المرابطون»، ومن دون مشاركة قويّة ورسميّة من قيادة منظمّة التحرير، التي كان قائدها ياسر عرفات يتجنّب الانخراط في الحرب الأهليّة بالرغم من مناشدات من الحركة الوطنيّة ومن فصائل «جبهة الرفض») أفشل المخطّط الانعزالي. إلا أن تدخّل الجيش بأمر من كميل شمعون منع وقوع مئات من مقاتلي الانعزاليّين في الأسر. وحاول الخبراء في وزارة الخارجيّة الأميركيّة، مرّة أخرى، نصح كيسنجر بضرورة إجراء إصلاحات داخليّة في النظام اللبناني من أجل وقف الحرب، لكن كيسنجر كعادته تجاهل النصيحة وقال: «ليس هناك ما نستطيع فعله».
واستمرّت التدخّلات الخارجيّة في الحرب في لبنان. حتى ولي العهد الأردني، الأمير حسن، حثّ الحكومة الأميركيّة على مدّ الميليشيات «المارونيّة» بالسلاح. وطلب كيسنجر من مساعديه إعداد ورقة حول العلاقة بين تسليح (أميركي) للانعزاليّين وبين منع الوصول لحلّ سياسي، أي أن كيسنجر كان يريد الأمريْن معاً، لو أمكن. والورقة لم تتحدّث عن طلبات جديدة للتسليح من قبل ميليشيات الكتائب و«الأحرار»، لكنها تحدّثت عن طلبات متعدّدة من «عدد من قادة الجيش اللبناني، عبر وسطاء غير مباشرين، للحصول على أعداد كبيرة من المعدّات، بما فيها معدّات ثقيلة مثل الدبّابات والمدافع ذات الارتداد الذاتي». (ص. ١٦٥ من كتاب ستوكر). وأوضحت المذكّرة بفجاجة أن تسليح الجيش اللبناني يعني تسليح الميليشيات الانعزاليّة التي قد تستعملها في «قضيّتها المسيحيّة». وأضافت المذكّرة أنه في حال قرّرت الحكومة الأميركيّة مد الميليشيات بالسلاح فإن الجيش اللبناني سيكون «قناة مفيدة» من أجل ذلك. وجرى ذلك في الوقت الذي كان فيه الجيش يشارك في المعارك مباشرة وفي حصار المخيّمات الفلسطينيّة في بيروت الشرقيّة، وقصفت طائراته (المستكينة لعقود طويلة في مواجهة العدوان الإسرائيلي) القوّات الفلسطينيّة المشاركة في معركة الدامور التي أشعلتها قوّات الكتائب. ومن المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى ان كرونولوجيا الحرب الأهليّة كما يرد في الوثائق الأميركيّة تدحض بالقاطع الرواية الانعزاليّة الرسميّة (والتي باتت للأسف مُعتَنقة من الكثير من اللبنانيّين واللبنانيّات) عن أن الميليشيات اليمينيّة لم تشعل الحرب بل كانت تدافع عن نفسها ضدّ مخطّط منظمّة التحرير للتوطين في لبنان. طبعاً، لم يرد في أي من تقارير المحادثات بين الانعزاليّين وبين الديبلوماسيّين الأميركيّين أي تعبير عن قلق من مخطط للتوطين (لأنه لم يكن مطروحاً أو وارداً بتاتاً قبل اختراع فزّاعةً هذا التوطين من قبل الكتائبيّين والطائفيّين الشيعة في أواخر السبعينيات). وينقل ستوكر عن التقارير الأميركيّة ان قوّات منظمّة التحرير الفلسطينيّة لم تنخرط جديّاً في القتال إلاّ في أوائل ١٩٧٦، وذلك ردّاً على الحصار الذي فرضته ميليشيات اليمين على المخيّمات الفلسطينيّة في شرق بيروت، أي في الجولة السادسة من القتال.
ولم تكن الحكومة الأميركيّة وحدها متورّطة في شحن السلاح إلى الميليشيات الانعزاليّة. فقد ذكرت تقارير أميركيّة عن شحنات سلاح من «خصوصاً بلجيكا، لكن أيضاً من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا» والتي اعتقدت أميركا انها تشكّل «مصانع إنتاج» سلاح وشحنه نحو لبنان، «للميليشيات المسيحيّة اساساً». وتصنّعت الحكومات الأوروبيّة البراءة تجاه دعوات أميركيّة للتخفيف من شحن السلاح (كما فعلت مع سوريا بالنسبة إلى السلاح المُتجه «للمقاتلين المسلمين»). وزعمت الحكومات الأوروبيّة أنها عاجزة عن منع تصدير السلاح «غير القانوني»، فيما كانت وجهة نظر الحكومتيْن الفرنسيّة والبريطانيّة ان «شحن السلاح» هو ظاهرة وليس سبباً للحرب. لكن ستوكر لاحظ ان المساعي الأميركيّة (غير الجديّة كما أرى بناء على الوثائق) لتخفيض شحن السلاح الغربي إلى الميليشيات الانعزاليّة لم يتضمّن دعوات أميركيّة لوقف التسليح الإسرائيلي لهذه الميليشيات (ص. ١٦٦). وكانت الحكومة الأميركيّة قد جزمت في حينه في شأن التسليح الإسرائيلي للميلشيات اليمينيّة. وفي لقاء في كانون الاول من عام ١٩٧٥، أبلغ لوسيان الدحداح، (صهر الرئيس فرنجيّة وصلته مع السفارة الأميركيّة في بيروت) موظّفاً في السفارة الأميركيّة في بيروت أن «عدداً من منظمّات اليمين المسيحي تلقّت اتصالات من مصادر إسرائيليّة خلال الأسابيع الماضية من أجل تقديم المساعدة». لكن الدحداح قال ان معظم (وليس كلّ) طلبات المساعدة رُفضت. إلا أن اسحق رابين قطع الشك باليقين في أواخر كانون الثاني عندما اعترف لكيسنجر أن إسرائيل أرسلت شحنتيْ سلاح لكميل شمعون من دون أن يحدّد توقيت الشحنة. وكان تقييم العدوّ الإسرائيلي لميليشيات اليمين أنها «ليست منظمّة وتعاني من فقدان الشجاعة». لكن دفق السلاح الإسرائيلي استمرّ (وبعلم الحكومة الأميركيّة)، مما يعني أن الحكومة الأميركيّة لم تكن جادّة في تخفيض شحن السلاح إلى لبنان.
وعندما اشتدّ القتال، وعبرت قوّات من «جيش التحرير الفلسطيني» من سوريا إلى لبنان، عبّرت الحكومة الاسرائيليّة عن قلقها من اجتياح المناطق المسيحيّة. لكن الحكومة الأميركيّة استبعدت ذلك ووعدت ببحث الأمر مع الحكومة السوريّة. وزاد قلق واشنطن من ورود تقارير استخباريّة أميركيّة وبريطانيّة تفيد بأن الحكومة المصريّة وضعت «خططَ تَحسّب» لنشر قوّات مصريّة في لبنان في حال استمر الوضع في التدهور، ما يمكن أن يؤدّي إلى اشتباك بين جيشيْ النظام السوري والمصري على الأرض اللبنانيّة.
وتزامن التدخّل السوري لإنقاذ سليمان فرنجيّة عبر «الوثيقة الدستوريّة» مع إحداث الشقاق بين النظام السوري وبين الحركة الوطنيّة وحلفائها في المقاومة الفلسطينيّة. وكالعادة في تلك الفترة، نشط النظام الأردني في دعم التدخّل السوري في المحادثات مع الأميركيّين. وأبلغ قادة أردنيّون المسؤولين الأميركيّين (بعد إعلان «الوثيقة الدستوريّة») عن نيّة سوريّة تطبيق اتفاق القاهرة بالقوّة ونزع «معظم السلاح الثقيل» من مناطق نفوذ حركة «فتح» في جنوب لبنان، في رسالة تطمين غير مستترة إلى العدوّ الإسرائيلي. وساهمت العلاقات الشخصيّة بين لبنانيّين وسوريّين في تعميق الخلاف بين النظام السوري والحركة الوطنيّة، إذ ذكرت تقارير للمخابرات الأميركيّة في شباط من عام ١٩٧٦، أن رفعت الأسد أمرَ بقطع إمداد السلاح إلى اليسار اللبناني، كبادرة ودّ نحو شريكه في الـ«بيزنس»، طوني فرنجيّة.
لكن الخلاف المستحكم بين النظام المصري والنظام السوري لم يؤدِّ إلى نفور بين النظام الساداتي والميليشيات اليمينيّة الحليفة الجديدة للنظام السوري. على العكس من ذلك، اقترح وزير الخارجيّة المصري، إسماعيل فهمي، بعد أيّام فقط من نشر قوّات سوريّة في لبنان، على السفير الأميركي في القاهرة، هيرمن أيلتس، أن تقوم الحكومة الأميركيّة بدعم الميليشيات «المسيحيّة» بالسلاح والذخائر، مضيفاً انه يمكن فعل ذلك عبر بروكسيل أو باريس. ولاحظ السفير أيلتس في مذكّرته أن النقمة المصريّة ضد النظام السوري بلغت الحدّ الذي يسمح للنظام المصري بالترحيب بتدخّل إسرائيلي ضد سوريا في لبنان. وبالرغم من مناشدات من السفارة الأميركيّة في بيروت للتوسّط بين القاهرة ودمشق، رفضت الحكومة الأميركيّة التدخّل بينهما.
لكن الحكومة الاسرائيليّة لم تنظر بعين الرضا في البداية إلى التدخّل السوري في لبنان. فقد حذّر إسحاق رابين الرئيس الأميركي فورد (حسب رواية كيسنجر في مذكّراته) من أن إسرائيل ستحتلّ جنوب لبنان حتى نهر الليطاني في حال نشر عناصر من الجيش السوري في لبنان. إلا أن ستوكر أشار إلى أن التقارير الأميركيّة المنشورة لم تذكر هذا التحذير الإسرائيلي، وإن ذكرت أن كيسنجر حذّر رابين من عواقب التدخّل بالنسبة إلى إسرائيل. وعندما سأل كيسنجر رابين عن مقترحاته للحل في لبنان، أجابه بأن الحلّ يكمن في تقسيم لبنان «دي فاكتو». وقال رابين أن على المسيحيّين إحداث «تمركز سكّاني» لفصل المسيحيّين عن باقي السكّان في لبنان. ولاحظ ستوكر ان «حل» رابين لم يكن بعيداً عن آمال قادة الميليشيات اليمينيّة (ص. ١٧٣).
ملاحظة. فاتني ان أذكر في الحلقة السابقة (حلقة ٧) أن الطرف الثالث الذي دفع فدية الكولونيل الأميركي، إرنست مورغان، لم يكن إلاّ مُموّل حملات وتسليح كميل شمعون، الثري اللبناني، بطرس الخوري. لكن السفارة الأميركيّة عادت ودفعت له ثمن الفدية سرّاً، حسب رواية إدغار إوبالن («الحرب الأهليّة في لبنان، ١٩٧٥-١٩٩٢»، ص. ١٤).
(يتبع)
صحيف الأخبار اللبنانية