هكذا أشعلت واشنطن الحرب الأهليّة [9] | كيسنجر: تدخل اسرائيل قد يؤدي إلى وحدة عربية عملنا طويلاً لمنعها
هناك أكثر من جانب يجنّب التنبّه له لدى الحديث عن السياسة الأميركيّة تجاه الحرب الأهليّة في لبنان. وقد سبقت الإشارة إلى أن المخابرات الأميركيّة ووزارة الدفاع لم تكونا بالضرورة تُعلمان السفارات الأميركيّة في الشرق الأوسط بعمليّاتهما السريّة، خصوصاً في ما يتعلق بتسليح الميليشيات في لبنان.
كان ذلك في زمن تمتّعت فيه المخابرات الأميركيّة باستقلاليّة حركة لم تتمتّع بها بعد «إصلاحات» لجنة فرانك تشرش في السبعينيات (باستثناء فترة رئاسة ويليام كيسي). وهو زمن كان فيه هنري كيسنجر يدير السياسة الخارجيّة للإدارة بسرية مطلقة، ولا يعير كثير اهتمام لآراء الخبراء في الشرق الأوسط الذين كان يقول عنهم إنهم يضعونه بين خياريْن فقط: خياراتهم هم بناء على اقتراحاتهم، وخيار حرب كونيّة نوويّة.
التسليح الأميركي للميليشيات اليمينيّة تمّ بطرق مباشرة (من أميركا نفسها)، وبطرق غير مباشرة عبر إسرائيل ودول أوروبيّة. إذ لا تستطيع إسرائيل أن تصدّر أسلحة أميركيّة (مهما صغرت) من دون إذن من واشنطن حول وجهة التصدير وطرق الاستعمال. كما أن التسليح الأوروبي لم يكن ليحدث من دون علم الإدارة الأميركيّة، خصوصاً إبان الحرب الباردة التي كان كيسنجر يُسيّر فيها السياسة الخارجيّة لأوروبا، وكانت واشنطن تموّل الحزب الديمقراطي المسيحي في إيطاليا لمنع الحزب الشيوعي من الوصول إلى السلطة.
تعمّق الخلاف بين الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة من جهة والنظام السوري من جهة أخرى. ولم تكن «الوثيقة الدستوريّة» والتمسّك بسليمان فرنجيّة إلّا تعبيراً عن هذا الخلاف. وفي المقابل، تعمّقت العلاقة بين حزب «الكتائب» ودمشق التي تعهّدت بضبط المقاومة الفلسطينيّة في لبنان، بحسب رواية وليد الخالدي في كتابه عن الحرب الأهليّة. أما انقلاب عزيز الأحدب، في آذار ١٩٧٦، فكان بترتيب من أبو حسن سلامة (أذكر أنني رأيت شاحنات لمقاتلين من حركة «فتح» أمام منزل الأحدب عشيّة الانقلاب أثناء زيارتي لجاره الصديق باسم قطّان في منطقة فردان). لكن ياسر عرفات كان يخشى من مضاعفات التورّط الفلسطيني في الحرب، ومن عواقب تدخّل العدوّ الإسرائيلي في لبنان.
بدأ النظام السوري، بشخص حكمت الشهابي، جسّ نبض الإدارة الأميركيّة حول تدخّل عسكري سوري في لبنان ورصد احتمالات تدخّل إسرائيلي مضاد. وكانت التقارير المخابراتيّة الأميركيّة تقدّر بأن النظام السوري قد يواجه خطر السقوط في حال تدخّل عسكريّاً في لبنان، وبأن هذا السيناريو يمكن أن يؤدّي إلى قيام نظام عسكريّ أكثر راديكاليّة في سوريا. فيما كانت دمشق على قناعة بأن تدخّلها العسكري سيؤّدي حكماً إلى تدخّل إسرائيلي مضاد. لكن النظام السوري نشر قوّات سوريّة نظاميّة بزيّ جيش التحرير الفلسطيني لمنع اليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينيّة من تحقيق انتصار. وفي ١٨ آذار ١٩٧٦، أبلغ الرئيس حافظ الأسد السفير ريتشارد مورفي أن فرنجيّة طلب تدخّلاً عسكريّاً سوريّاً (ص. ١٧٥ من كتاب ستوكر). وهنا بدأ الحوار السوري ــــ الأميركي حول التدخّل العسكري السوري في لبنان.
استدعى وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدّام القائم بالأعمال الأميركي روبرت بلترو (رأس وفد بلاده في ما بعد في أوّل حوار بين الحكومة الأميركيّة ومنظمّة التحرير في أواخر عهد رونالد ريغان) وأبلغه أن الرئيس اللبناني طلب تدخّلاً عسكريّاً سورياً. وأضاف أن حكومته «تأمل في الحصول على موافقة عدد من الدول» التي تعتبر الحكومة السوريّة «موافقتها ضروريّة» (ص. ١٧٥ من كتاب ستوكر).
وفيما لم يُشر المسؤول السوري إلى حجم التدخّل، قال إن حكومته ستنظر بإيجابيّة إلى أيّ اقتراح أميركي في هذا الصدد.
حاول كيسنجر المماطلة في الحوار وحذّر دمشق من تدخّل إسرائيلي مضاد قد يؤدّي إلى احتلال أقسام كبيرة من جنوب لبنان و»ربما» أقسام أخرى خارج الجنوب، ووضعت حكومة العدوّ، للمرّة الأولى، شروطاً يمكن في حال توفّرها القبول بتدخّل عسكري سوري في لبنان ــــ كانت هذه بداية لتليين موقف كيسنجر ـــ ضمّنتها في مذكرة إلى الحكومة الأميركيّة، وهذه الشروط هي الخطوط الحمر الشهيرة: ١) لا دخول عسكرياً سورياً مفتوحاً ومُعلَناً في لبنان. ٢) عدم دخول قوّات فوق حجم اللواء (حدث لغط بين تل أبيب وواشنطن حول الترجمة الإنكليزيّة للواء لقياسها على الجيش السوري). ٣) عدم إدخال أسلحة على طول الشاطئ اللبناني، وعدم تحريك قوّات أو معدّات لمسافة عشرة كيلومترات جنوب خط بيروت ــــ الشام. وأبلغ كيسنجر زملاءه أن سيمحا دينتز، السفير الإسرائيلي في واشنطن، أخبره سرّاً أن إسرائيل ستحتلّ «بهدوء» مناطق استراتيجية في جنوب لبنان وتأخذها رهينة حتى يغادر السوريّون لبنان، وستستغلّ الظرف لـ»تنظيف» «فتح لاند».
وعندما حذّر الأميركيّون النظام السوري، عبر الملك حسين، من عواقب إدخال قوّات كبيرة في لبنان، حاول ملك الأردن، مُخادعاً على الأرجح، التنصّل من القرار السوري في البداية. لكنه عاد ودافع عن وجهة نظر دمشق بالتدخّل في لبنان، ودعا إلى «تفهّم أميركي» لهذا القرار. التقى خدّام بلترو مجدداً وأبلغه بأن الجيش السوري سيدخل إلى «بيروت والبقاع وبعض مناطق الجبل»، وأن قوّات النظام لن تدخل جنوب لبنان. وطلب الرئيس السوري من الملك حسين التدخل لدى واشنطن لإعطائه «دعماً كاملاً في إبعاد إسرائيل» عن لبنان خلال التدخّل السوري. ويبدو من مطالعة التقارير الأميركيّة، وتعليقات ستوكر وغير برغسون غوز (في أطروحته في جامعة أوسلو في عام ٢٠١٤)، أن كان هناك تضارب بين الخبراء الأميركيين بالشرق الأوسط في السفارات الأميركيّة في المنطقة وبين كيسنجر. إذ كان رأي الأخير مغايراً لرأي هؤلاء المتحمّسين للتدخّل السوري. وفي هذه الفترة الحاسمة من تاريخ الحرب، درس كسينجر فكرة إطلاق يد سوريا وإسرائيل في لبنان من دون إعطاء ضوء أخضر صريح، وذلك من أجل القضاء على المقاومة الفلسطينيّة في الجنوب وإنقاذ الميليشيات «المسيحيّة» في الشمال (ص. ٨٢ من أطروحة غير برغسون غوز).
وفي اجتماع في البيت الأبيض في ٢٤ آذار ١٩٧٦ ضمه مع كيسنجر وجيرالد فورد ووزير الدفاع دونالد رامسفلد، أبلغ مستشار الأمن القومي برنت سكوكرفت (شغل منصب مستشار الأمن القومي في إدارة جورج بوش الأب في ما بعد) الرئيس فورد في تقييم رسمي أن منظمّة التحرير ستنتصر في لبنان من دون تدخّل خارجيّ (ضدّها). هنا، توصّل كيسنجر إلى قناعة بجدوى التدخّل السوري على أن يكون محدوداً، وأن تبقى قوّات النظام السوري شمال الليطاني. ورأى أن تدخلاً سوريّاً قصير الأمد هو أفضل حلّ للقضاء على منظمّة التحرير، مشبهاً الوضع بـ «أيلول الأسود» في الأردن عام ١٩٧٠. وبات هو الضامن لمنع تدخّل إسرائيلي مضاد. لكنه بقي خائفاً من حصول حرب عربيّة ــــ إسرائيليّة في جنوب لبنان، وحذّر من أن يؤدّي ذلك إلى «حصول ما عملنا كل هذه السنوات بالضبط لمنعه، أي خلق وحدة عربيّة» (ص. ٨٣، من أطروحة غير برغسون غوز).
وكان على الحكومة الأميركيّة أن توازن بين تحالفها مع النظام المصري وتقاربها مع النظام السوري. وأعلم إسماعيل فهمي، وزير الخارجيّة المصري، الحكومة الأميركيّة بأن هناك «انطباعاً بأن واشنطن تدعم دور الأسد في لبنان وأنها أعطته «كارت بلانش» (بطاقة بيضاء). فيما أبلغ النظام السعودي الحكومة الأميركيّة أن أحد وزرائه طلب من الأسد عدم إرسال قوّات، وأن يعمل على «تهدئة اليساريّين» في لبنان (ص. ١٧٩ من كتاب ستوكر).
أما الزعماء الموارنة فلم يتوقّفوا عن طلب تدخّل عسكري أميركي، حتى أن الحكومة الأميركيّة قررت مراقبة السفارة الأميركيّة في بيروت عن كثب خشية أن تكون قد أوحت بما لا يتطابق مع السياسة الأميركيّة في هذا الشأن. وكان «زعماء مسيحيّون، بمن فيهم كميل شمعون وشارل مالك، يحثّون السفارة على طلب تدخّل عسكري أميركي». وفي ٢٤ آذار، أرسل مالك (المولع بتطيير الرسائل الطويلة لمسؤولين في الإدارات الأميركيّة المتعاقبة) رسائل إلى نائب الرئيس الأميركي روكفلر وإلى عضوي مجلس الشيوخ، همفري وسباركمن، مُناشداً إياهم بأن هناك «خطراً واضحاً وحاضراً من سيطرة لليسار ما لم تتدخّل الحكومة الأميركيّة»، ونصح بالتعاون مع أوروبا وسوريا. وبعد ثلاثة أيّام فقط من رسائله هذه، حذّر مالك السفارة الأميركيّة في بيروت من أن «اليساريّين قد يصلون إلى المعقل المسيحي، في جونية، في غضون ٢٤ ساعة». وبعد أيّام، أوعزت الحكومة الأميركيّة إلى ديبلوماسيّيها في بيروت بإبلاغ جنبلاط وشمعون وكرامي بمعارضة التقسيم ودعم الجهود الديبلوماسيّة السوريّة. وأوضحت مذكّرة وزارة الخارجيّة أنها تريد أن تعبّر عن قلقها من الوضع العسكري للمسيحيّين «من دون رفع (سقف) التوقّعات بتدخّل عسكري أميركي».
لكن القرار الأميركي بدعم التدخّل السوري لم يكن بديلاً من استمرار الدعم الأميركي لتسليح الميليشيات اليمينيّة عبر إسرائيل وغيرها. ولم تكن سياسة التسليح الإسرائيليّة للميليشيات اليمينيّة تهدف إلى تحقيق نصر للميليشيات كما ورد في تقرير أميركي، بل كانت صريحة في هدفها الإبقاء على الوضع كما هو، أي دعم استنزاف أطراف القتال. ويقول غير برغسون غيز في أطروحته ان «شحنات التسليح الإسرائيلي كانت تتم بمباركة أميركيّة كي لا يتم اجتياح (مناطق) المسيحيّين» (ص. ٨٧). وأبلغ كيسنجر دينتز أنه يخالف إسرائيل الرأي حول وضع المسيحيّين في لبنان (عن أنهم قادرون على تحقيق نصر)، لكنه، مثل إسرائيل، كان يفضّل خيار الاقتتال المستمرّ بين الأطراف وإن كان لم يرَ إمكانيّة الحفاظ على المواقع إلى ما لا نهاية. ورأى أنهم إما «سيُسحقون» أو أنهم سينشئون «ميني» دولة مسيحيّة في جبل لبنان (غيز، ص. ٨٨).
لم يفقد شمعون الأمل في استدعاء تدخّل عسكري أميركي. دعم التدخل السوري في لبنان، لكنه كان يفضّل عليه تدخلاً أميركيّاً. وكان محبطاً لأن واشنطن لم تُكرّر سيناريو عام ١٩٥٨. واجتمع شمعون مع ديبلوماسي أميركي في ٣١ آذار من العام نفسه، وقال إنه «يواجه الآلاف من المقاتلين من مختلف الجنسيّات العربيّة وأنه يحتاج إلى الذخيرة من أميركا» (ص. ٨٨ من أطروحة غيز). وعلّق الديبلوماسي الأميركي على طلب شمعون بالقول إنه يحاول التخويف لحثّ واشنطن على التدخّل. ولم يذكر الديبلوماسي إذا كان طلب شمعون قد رُفض أو قُبلَ.
ولأن السفير غودلي غادر السفارة بسبب إصابته بالسرطان، ولأن وزارة الخارجيّة الأميركيّة لم تكن تثق بقدرات القائم بالأعمال، قرّرت حكومة فورد إرسال مبعوث أميركي خاص للبنان هو دين براون (تم بحث إمكانيّة إرسال هنري كيسنجر نفسه لكن الفكرة لم تعمّر في المباحثات). كانت المهمّة في المحصّلة دعم التدخّل السوري في وجه المقاومة الفلسطينيّة وقوى اليسار. لكن الإدارة الأميركيّة كانت تخشى من إعلان ذلك مخافة إغضاب الحليفيْن الإسرائيلي والمصري. ودين براون ديبلوماسي عرفَ المنطقة في سنوات خدمته قبل أن يستقرّ في «مؤسّسة الشرق الأوسط» في واشنطن. وهو كان سفيراً في عمّان أثناء مجازر أيلول الأسود، وكان شديد الحماسة لتكرار خيار أيلول الأسود في لبنان. وحمّل كسينجر براون تحذيراً إلى كمال جنبلاط مفاده أن الحكومة الأميركيّة ستضمن خسارة الحركة الوطنيّة للحرب في لبنان في حال لم يُسهّل المساعي الأميركيّة. وكتب براون مُحلّلاً الوضع إلى وزارة الخارجيّة مشيراً الى أنه «بالرغم من سيطرة القوى الفلسطينيّة ــــ المسلمة فإنه لا يظنّ أن المسيحيّين اللبنانيّين يواجهون خطر الاجتياح». وفي رسالة سريّة من براون إلى كيسنجر، نصح الأوّل أن يتم إدخال ثلاثة أو أربعة ألوية من الجيش السوري إلى لبنان.
كانت تعليمات كيسنجرلبراون تفصيليّة وواضحة. هو أراد أن يسهّل التدخّل السوري في لبنان (لكن موقفه كان موارباً إذ أنه كان قلقاً من التأثير البعيد المدى للتدخّل العسكري السوري على الصراع العربي ــــ الإسرائيلي)، كما أنه أراد ـــ حسب تعليماته لبراون ــــ أن يعزل كمال جنبلاط عن منظمّة التحرير. والهدف الأساسي الثاني من المهمّة هو تعزيز مواقع الميليشيات اليمينيّة. ويقول كيسنجر في تعليماته هنا: «لا نستطيع أن نكسر ظهر المسيحيّين. لا يمكن أن ينهاروا أمامنا. أنا مؤيّد لمساعدة المسيحيّين. أنتَ تعرف أنني لا أفعل شيئاً لمنع الإسرائيليّين من مساعدة المسيحيّين. كلما كانوا أقوى كان ذلك أفضل». (من مذكّرات كيسنجر، «سنوات التجديد»، ص. ١٠٤١-١٠٤٢). وكان النظام الأردني يبيع التدخّل العسكري السوري في لبنان تحت عنوان تطويع منظمّة التحرير (على طريقة مجازر أيلول الأسود) بحيث تصبح أكثر قابليّة لـ»الحلول» الأميركيّة للصراع العربي ــــ الإسرائيلي.
أما عن التواصل مع منظمّة التحرير الفلسطينيّة، فكان خبراء الشرق الأوسط في الوزارة ينصحون به. وكان سفراء الشرق الأوسط، خصوصاً غودلي في لبنان، يدلّل على اعتدال قيادة ياسر عرفات في الحرب الأهليّة ومحاولتها تجنّب الغرق في أوحال الحرب. وحتى جوزيف سيسكو (الذي عُرف في ما بعد بتصّلبه إزاء التعاطي مع منظمّة التحرير وقربه من اللوبي الصهيوني) فإنه رأى أن التعاطي الإيجابي مع قيادة عرفات يمكن أن يسهّل إضفاء الاعتدال على الساحة اللبنانيّة برمّتها. وكان التعاطي بين السفارة الأميركيّة في بيروت وقيادة عرفات جارياً عبر أبو علي حسن سلامة. وكان هذا التعاطي استخباريّاً حتى لا يخرق الحظر الديبلوماسي الذي لا يسري على المخابرات الأميركيّة. وكان التنسيق الأمني مستمرّاً لحماية الجامعة الأميركيّة والسفارة الأميركيّة في بيروت. وكان عرفات يعمل سرّاً على الإفراج عن مواطنين أميركيّين مخطوفين وعن ممثّلين حكوميّين أميركيّين (مثل الكولونيل مورغان). كما كان يحمي السفارة الأميركيّة عبر قوّات من «جيش لبنان العربي» كي لا يحرج الإدارة الأميركيّة التي لا تريد أن تظهر بأنها تتعاطى مع من تصنّفه الحكومة الأميركيّة بالإرهابيّين».
وكان الأسد منزعجاً من تمنّع الحكومة الأميركيّة عن مباركة التدخّل السوري (علنيّاً). وأبلغ الملك حسين الإدارة الأميركيّة أن جنبلاط أخبر الأسد بأن أميركا تدعم قراره بالاستمرار في القتال. هنا، أمر كيسنجر السفير مورفي بإعلام الأسد أن هذه (أي زعم جنبلاط) ما هي إلا «كذبة خبيثة وشرّيرة». (ص. ١٨٣ من كتاب ستوكر). وتواصل كيسنجر سرّا (عبر قناة غير ديبلوماسيّة) مع براون، وأمره بتسليم توضيح لكمال جنبلاط «وليساريّين غيره» بأن الحكومة الأميركيّة تدعم بقوّة وقفاً فورياً للنار وأنها «ستحصل عليه بطريقة أو بأخرى». وكانت تعليماته لبراون بأن يكون «وحشيّاً وفظّا» في إيصال هذه الرسالة.
وكان أوّل انطباع لبراون أن الوضع العسكري للميليشيات الانعزاليّة أفضل مما كان يتوقّع. وكانت الحكومة الأميركيّة تريد تجنّب «التسليح المباشر» (وليس غير المباشر) لهذه الميليشيات، وهي، حسب رواية ستوكر، رفضت أن تلبّي طلب بشير الجميّل أثناء زيارته لواشنطن في آذار من العام نفسه الالتقاء بروبرت اوكلي خشية أن يطلب الجميّل التسليح المباشر. (الفصل بين التسليح المباشر وغير المباشر، لا ينفي أن التسليح الأميركي المباشر عبر أجهزة المخابرات الأميركيّة كان يُحسب في خانة «التسليح غير المباشر»). وباتت الحكومة الأميركيّة في موقع المُشجَّع للتسليح الإسرائيلي للميليشيات الانعزاليّة. وورد أوّل تدوين في الوثائق الأميركيّة لطلب أميركي لإسرائيل بتسليح الميليشيات في وثيقة يعود تاريخها إلى ٣ نيسان ١٩٧٦.
والمذهل أن رواية الوثائق الأميركيّة عن مهمّة براون في لبنان تتناقض كليّة مع الرواية التي روّج لها سليمان فرنجيّة (الجد) وباقي زعماء الجبهة الانعزاليّة، ومفادها أن براون عرض سفناً لترحيل المسيحيّين عن لبنان. على العكس من ذلك، فإن براون قدم إلى لبنان لتطمين قادة الميليشيات اليمينيّة ولتقديم المزيد من المساعدة لهم، ولإنقاذهم من خطر الهزيمة على يد الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة. وقد يكون سبب التناقض بين الروايتيْن يعود إلى طمع الزعماء الموارنة بتدخّل عسكري أميركي مباشر لصالحهم، وخيبتهم من إعلامهم رسميّاً باستبعاد حصول ذلك. كانت أكذوبة عرض السفن الأميركيّة لترحيل المسيحيّين تعبيراً عن خيبة زعماء الانعزاليّة من حجم الدعم الأميركي لهم وطبيعته.
(يتبع)
صحيفة الأخبار اللبنانية