هكذا تجعل حكومتَــك تقوم بما فيه صالحُك

 

يعـرض كتاب “هكذا تجعل حكومتَـك تقوم بما فيه صالحُـك”، للكاتب أناستاسيوس سيريانوس، ثلاث استراتيجيات تسويقية معتمَدة في عالم التجارة، ويطرح فكرة إسقاطها على عالم السياسة، لإعادة بلورة الأداء السياسي بما يخدم فعلًا مصالحَ أفراد الشعب، فيصير المواطن سيّدًا على الهيئات الحاكمة في بلاده.

ويسلّط الكتاب الضوءَ على انعدام المحاسبة السياسية الفعـلية والمجدية، في ديمقراطيات عصرنا الحالي، الذي يجعل المسؤولين الرسميين أحرارًا في اقتراف أشنع وأقذر الجرائم السياسية في حق الشعوب؛ من دون أن تطالهم العدالة وينالهم العقاب. ويصف كيف أنّ المجتمعَ، برزوحه تحت وطأة هذا الاضطراب السياسي-الاجتماعي، سيصبح ضحية للنظام السياسي الجائر القائم. ويقدّم الكتاب نظرة جديدة إلى الواقع، ليرى القارئ أن السلطة التي نتمتّع بها، بوصفنا مستهلكين (للسلع والخدمات)، يمكن استنساخها في عالم السياسة كي يصير للمواطن سلاحٌ دستوريٌّ يقيه فسادَ الطبقة السياسية الحاكمة.

رؤية بانورامية للمشكلة والحلّ

يُستبعَد أن تُثير الانتخابات الدرجة المطلوبة من الخوف في نفوس الساسة حيال خسارة منصبهم الرسمي ذي الرفاه؛ كي يُبادروا إلى تحسين أدائهم السياسي ضمانًا لاستمرارهم في مناصبهم. فالساسة الشاغلون مناصب في الدولة، الذين يقررون خوض الانتخابات مرة بعد مرة، يعون أنّه يسهل إقناع أفراد الشعب بالتصويت لهم مجددًا، برغم كل سجلّهم السيء في تولي السلطة.

فباعتماد الدعاية السياسية (البروباغاندا) والخداع والأكاذيب والوعود الجوفاء، يؤمّن كل الساسة الشاغلين مناصب رسمية فرصةً لكسب جولة جديدة من الانتخابات. فهُم يستغلّون الذاكرة الضعيفة لدى أفراد الشعب كي يستمروا في السلطة. فحتى لو أمضَوا معظم فترة حُكمهم في سوء استخدام مناصبهم، فإنه في إمكانهم الفوز بالانتخابات في ما لو سخّروا جزءًا بسيطًا من سلطتهم لخدمة المجتمع، في الأشهر الأخيرة من فترة حُكمهم.

نحن، بوصفنا مواطنين، في حاجة إلى جعله من المستحيل أمام الساسة الفاسدين أن يتمّ انتخابهم من جديد، أو أن يستمروا في مناصبهم حتى نهاية فترة حُكمهم؛ في حال لم يكن أداؤهم السياسي على المستوى المطلوب. لذا؛ نحن في حاجة إلى جعلهم يعيشون في خوف مستمر من خسارة مناصبهم الرسمية.

وبدل أن نجعل هذا الخوف ينتاب الساسة مرة واحدة فقط (وذلك وقت إجراء الانتخابات)، إذ يقدرون آنئذٍ أن يحضّروا أنفسهم جيّدا للكسب في الاستحقاق الانتخابي؛ علينا أن نجعل هذا الخوفَ أمرًا يوميًّا يؤرق ضمائر هؤلاء الساسة.

كيف نجعل ساستنا المتـشبّـثين بمناصبهم ذات الرفاهية والجاه، خائفين من خسارة هذه المناصب، بنمط يجعلهم فعلًا يخدمون مجتمعَهم ومواطنيهم، لكسب ثقة مواطنيهم فينتخبوهم لفترة جديدة من الحُكم؟

يكمن الجواب في أمر نعيشه يوميًّا!…

إنّ ما نحن في حاجة إليه هو شي نمارسه مع كل نشاط تجاري نقوم به، بوصفنا مستهلكين، لدى شرائنا سلعًا أو خدمات. فلننظر إلى كيفية عمل المصالح التجارية اليوم… لكلّ ربّ عمل الحق في إنهاء العقد الذي يلزِم الموظفَ بأداء وظيفته على النحو الذي يرومه رب العمل؛ في حال كان الموظف غير منتجٍ أو إذا قام بما يضرّ بالمصلحة التجارية لربّ العمل، أو حتى إذا تبيّن أن الموظف فعلًا لا يتواءم مع قوانين العمل في المؤسسة.

وعلى النحو عينه؛ ينبغي لنا بوصفنا مواطنينَ، أن ننهي الخدمة التي يقدمها لنا الساسة الذين انتخبناهم، من خلال مناصبهم الرسمية، في حال لم نكن راضين عن أدائهم السياسي، وأن نستبدل شخصًا سياسيًّا جديدًا بالذي لا يقضي لنا حاجاتنا كما نريد منه. وقد يكون إنهاء خدمة رجل السياسة لنا قبل انقضاء فترة حُكمه حتى.

إننا عندما نختار سلعة أو خدمة تجارية، فنحن نستعمل “عُملة” في مقابل استفادتنا ممّا نستهلك. وإنّ السياسة هي على النحو عينه في هذا المجال؛ إذ نستعمل، في الشأن السياسي، “عُملة” الثقة (لدى إدلائنا بأصواتنا في الانتخابات) لشراء الخدمة التي يقدمها رجل السياسة لنا دون غيره من المرشّحين.

بهذا المعنى يكون الساسة والأحزاب السياسية بمثابة سلع أو خدمات نشتريها بأصواتنا الانتخابية المانحة للثـقة بهم في تحسين أحوالنا المعيشية.

إن دساتير وأنظمة العصر الحديث قد صمّمت على أساس حماية حقوق جوهرية عدّة للمواطنين من صلف الساسة والحكومات الفاسدة.

“الحمائية” إذن هي في مركز ثقافتنا السياسية، والطريقة المثـلى لجعل هذه “الحمائية” ناجعة، هي تحديد مجموعة إجراءات استباقية توجّه الأداء السياسي للساسة في المنحى الصحيح، قبل أن يستـشري الفساد في هذا الأداء السياسي.

يجب أن يتم اختبار جميع الساسة، بعد فوزهم في الانتخابات، للتأكد من مدى أهليتهم ومقدرتهم على أداء واجباتهم المستحقَّة تجاه الشعب. بعدها؛ يتم السماح لهؤلاء الساسة الناجحين بالبدء بالعمل في مناصبهم التي ترشّحوا لنيلها في الانتخابات.

وينبغي أن يكون الساسة مسؤولين عن كلّ ما يصدر عنهم وهم في مناصبهم الرسمية، منذ اليوم الأول لتوليهم هذه المناصب وحى نهاية فترة حُكمهم. ويجب فحص الأداء السياسي للفائزين في الانتخابات مع مرور كل بضعة أشهر، أو حتى كل بضعة أسابيع… وعليهم شرح خططهم وخطواتهم لتحسين معيشة المواطنين. وبمجرّد أن يتبين أنهم يعملون في خدمة الشعب بحقّ، يُسمَح لهم بإكمال فترة حُكمهم إلى نهايتها. وفي حال كان العكس من ذلك؛ ينبغي إجبارهم على ترك مناصبهم الرسمية قبل أوانِ انتهاء فترة حُكمهم، وإخضاعُهم لمحاكمة عادلة مقابل الخلل الذي بدا في أدائهم السياسي.

يمكن للطريقة التي من خلالها تروّج المصالح التجارية لسلعها وخدماتها، جاعلة إيّاها بادية خالية من أي مخاطر؛ أن تكون نموذجًا نحتـذيه لدى إعادة هيكلتنا للأنظمة السياسية التي تحكم حياتنا، بنمط يجعل هذه الأنظمة على نحو جذّاب وخالٍ من المخاطر.

وإذا كان الخوف من الانتهاء على هامش السوق التجارية يجعل الشركات تنتج سلعًا ذات جودة عالية ترضي المستهلكين، فينبغي كذلك للخوفُ من الانتهاء على هامش الحياة السياسية، أن يحدو ساستَـنا على أن يقدّموا الخدمة (السياسية) التي ترضي المواطنين وسلامة المجتمع.

إِنّ الخطوة الجذرية المقبلة ضمن أنظمتنا السياسية الحاكمة، ينبغي أن تكون  خلقَ الإجراءات التي تسمح لنا، بوصفنا مواطنين، بالسيطرة على هؤلاء الساسة الذين يخافون من خسارة رفاهية مناصبهم الرسمية، وبحـثّهم على تحسين جودة خدماتهم لنا.

استراتيجيا “التجربة المجانيّة

تتألف عملية شراء السلع من ثلاث خطوات: الفحص، والاختيار، والاستعمال. هذه الخطوات هي عينها قابلة للتطبيق في مجال السياسة. عند حلول موعـد الانتخابات؛ نفحص جميع المرشّحين، ثم نختار أولئك الذين يَبدون الأمثـل لنا، وأخيرًا ننتخبهم (نستعملهم) لنحصل على خدمة وعـدوا بأن يؤدّوها لنا.

على المرء أن يكون أكثر قوة، بوصفه مواطنًا، من أن يكون كذلك بوصفه مستهلِكًا؛ وهذا غائب حالـيًّا عن مجريات الأمور في “الديمقراطيات” المزعومة التي نعيشها!. لذا، علينا أن نفكر في كيفية استـنساخ قوّة المستهلِك لإحالتها إلى حيّز المواطن، وعندها نفحص سبُـلَ تحسين هذه القوة حيث ينبغي.

علينا أولا أن نفحص “المنتَج السياسي” قبل الانتخابات؛ فنعتمد استراتيجيا “التجربة المجانية free trial  مبدأًا أوّل في عملية المحاسبة السياسية.

لدى الإقدام على شراء أي شخص لمنتَج ما، سيعمد هذا الشخص إلى فحص المنتَج قبل شرائه. وكلما كان المنتج أغلى ثمنًا، وأكثر تعميرًا إلى أن يبلى، كان فحصه أكثر دقّة واعتناءً. فنحن نخصّص وقتًا وعناية أكثر لدى شرائنا هاتفًا خلويًّا، منّا لدى شرائنا جواربَ جديدة.

هذا الفحص هو خطوة أولية ضرورية تسمح لنا بالتأكد من أنّنا لم نخطئ في اختيارنا للمنتَج، ومن أن ما سنشتريه يحمل فعلًا كل الخصائص التي نريدها. هذا المبدأ ينبغي أن يتم استعماله في مجال السياسة، لجهة أن نتأكد من أنّ أداء الساسة سيكون تمامًا كما نريده أن يكون. ولهذا الغرض؛ نستطيع أن نوفد لجنة مستقلة غير منحازة، مؤلفة من مواطنين يُطلب منهم فحص وتقييم مدى أهلية الساسة المرشحين ليتولوا المناصب التي يسعون إليها، وبالتالي مدى استحقاقهم للتصويت الذي سيدلي به المواطنون.

وقد تستـدعي نتائج هذه اللجنة مزيدًا من التحقيق في أهلية المرشحين، أو حتى إبعادَ بعض المرشحين من العملية الانتخابية. وفي إمكان اللجنة كذلك أن تقدّم لائحة ترتِّب فيها الساسة، وفق تقييمها، من الأفضل إلى الأسوأ؛ ما يساعد المواطنين على اتخاذ قرارات انتخابية أكثر دقة وصوابًا. وعلى المرشحين، خلال عملية فحصهم والتدقيق في أهليتهم الانتخابية، أن يثابروا في إظهار خططهم للنهوض بالحالة المعيشية للمواطن أو تحسينها، وأسباب مقدرتهم على إنجاز ما يعدون بتحقيقه. حاليًّا؛ النمط السائد على الساحة السياسية هو إدلاء الوعود الجوفاء أمام جمهور الناخبين، من دون أي دليل على واقعية تطبيق وتنفيذ هذه الوعود.

استراتيجيا “الاتفاق غير الملزِم

الاستراتيجيا التجارية الثانية التي ينبغي اتّباعُها في عالم السياسة، هي “الاتفاق غير الملزِم”. لا يخلو الأمر من أن يكون ثمة قادة سياسيون قد سُمح لهم بالمشاركة في الانتخابات، على إثر الاستراتيجيا الأولى (المذكورة سابقًا)؛ بفعلِ تضليلهم للجنة الفاحصة والْـتفافهم عليها بطريقة أو بأخرى.

في هذه الحالة؛ يصل هؤلاء الساسة المخادعون إلى مناصب رسمية في إطار من انعدام المحاسبة السياسية الفعـليّة (على نحو ما هو قائم فعلًا في عالمنا)، ما يجعل المواطنين عاجزين عن درء مفسدة الأداء السياسي الأعوَج لهؤلاء الساسة ونواياهم الخادعة. فيبقى أفراد الشعب مقيّدينَ طيلة فترة تولي هؤلاء الساسة المخادعين للحُكم (أي نحو 4 أو 5 سنوات). هذا كلّه يصيب الديمقراطية التي يُكـرَز بها نظريًّا بمقتَـل، ويشكّل خطرًا كبيرًا على حُسنِ حال المجتمع ككل.

إنّ معظم أهل السياسة هم أشخاص متكبّرون غير عابئين إلا بمصالحهم، شديدو العُـرضة للاستسلام للضغوط المنحرفة التي تمارَس عليهم لخدمة جهات نافذة دون مصلحة المواطنين، وهم كذلك عُرضة للرشوة أو التهديد من قِبل جماعات الضغط الديبلوماسية ذات الأجندات الموبوءة… فهم إذن كثيرو الجنوح نحو العمل بما لا يصبّ في مصلحة المواطنين والمجتمع. وبما أنّ كل هذا يتـمّ في كواليس مسرح الحياة السياسية، ولا يتـمّ تناقلُ المعلومات الخطيرة التي تفضح الساسة القادة في وسائل الإعلام الرائجة؛ فإنّ السبيل الوحيد أمام المواطنين لتقييم الساسة فعلًا هو أداء هؤلاء الساسة على الأرض.

إذا كان الأداء السياسي لا ينسجم مع صالح أفراد الشعب، فينبغي للمواطنين أن يُسمح لهم بالتحرّك لحماية أنفسهم من الهيئات الحاكمة في الدولة؛ حتى لو لم يكن ثمة ما يشي بأية حالة فساد سياسيّ.

إن عجلة المحاسبة السياسية تـدور حين يَضطرّ المواطنون الهيئاتِ الحاكمةَ إلى العمل فعلًا لصالح خير المجتمَع. فكل ما تبغيه السياسة في الواقع هو تأمين مستوًى معتبَـر من حُسنِ الحال الذي يسمح لجميع المواطنين بالتمتّع بالحياة. إنّ الاستقرار السياسي يتـمّ تهديده، إذا استمرّ نفوذ الهيئاتِ الحاكمة الفاسدة، الذي يتسبّب في النهاية بالاضطراب الاجتماعي والثورة.

لماذا علينا أن نتحمّل فشل الهيئات الحاكمة وعدمَ أهليتها للاستمرار في الحُكم، عندما نستطيع توظيف خوف أفرادها الساسة من فقدانهم نفوذَ السلطةِ، بشكل يجبرهم على تحسين سياساتهم وقراراتهم خدمة لصالح الناس.

ينبغي أن يُسمح للمواطنين بأن يحاسبوا الهيئاتِ الحاكمة في الدولة بشكل متواصل على مدى الفترة المخصّصة لممارسة الحُكم قبل الانتخابات التالية؛ وبأن يتدخّلوا ليسحبوا التوكيلَ الذي أعطوه لهذه الهيئاتِ ويولوها إلى هيئات حاكمة أخرى. وهذا يوجب أنْ يُشرَّع لمبدأ أنّ استمرار الهيئات الحاكمة في السلطة حتى آخر الفترة المخصصة لذلك، يكون رهنًا بالأداء السياسي لأفرادها.

إنّ جميع المصالح التجارية التي تروّج لسلعها وخدماتها تحتاج إلى سهم خاصّ بها في السوق حتى تستمرّ في عملها. وإذا كانت سلعها وخدماتها غير مرغوب فيها لدى شرائح المستهلكين، فستزول هذه الشركات التجارية عن خارطة السوق، إلّا أن تنجح في إنتاج ما يتوافق مع رغبة المستهلكين.

هكذا؛ فإنّ المستهلك قادر، بحُكم اختياره، على أن يسوق شركة تجارية ما إلى البوار. إنّ هذه الحرية في الاختيار هي التي تبتني عليها المحاسبة التجارية التي يمارسها المستهلك في حقّ الشركات المنتِجة.

ولنفترض أننا نريد شراء عضوية في نادٍ رياضي. فإنّ النادي سيقدّم لنا، بوصفنا زبائن محتمَلينَ، أحدَ خيارَينِ؛ إمّا عضوية ضمن إطار “اتفاق غير ملزِم” ندفع من خلاله مسبقًا في بداية كل شهر، ويبقى في إمكاننا ترك عضوية النادي ساعة نشاء من دون أي تكاليف متوجَّبة إضافية؛ وإمّا عضوية ضمن إطار اتفاق طويل الأمد ندفع من خلاله مبلغًا ثابتًا كل شهر، يكون أرخص سعرًا من ذلك في العرض الأوّل.

في “الاتفاق غير الملزِم” نكون أحرارًا في الاستغناء عن عضويّتنا رأسًا متى شئنا. وفي الاتفاق الطويل الأمد، نكون مقيَّدين على مدى 12 شهرًا، بدفع مبلغ – ولو أقلّ، من المال – بصورة مستمرة حتى لو قـرّرنا أن نتخلّى عن عضويّتنا.

في عالم السياسة؛ لا يملك المواطنون رفاهية اختيار نوع الاتفاق أو العقد الذي يبرمونه مع الساسة الذين ينتخبونهم ليقدموا لهم الخدمة السياسية. فعندما ينتخب المواطنون هيئاتهم الحاكمة، يصبحون مقيّدين بها للسنوات الخمس التالية من دون أي مخرج!. فهذا العقد لا ينفرط، وليس فيه بنود للتملّص، ولا ينتهي العقد رسميًّا إلا بانقضاء المدة المتفق عليها (4 أو 5 سنوات)، إلّا في حال قـرّرت الهيئة الحاكمة بالإجماع إجراء انتخابات مبكرة.

هذا الوضع لا يقبله التفكير السليم، ولا ينبغي علينا الإقرار به. وليس ثمة دولة حاكمة تسعى لإرساء خيرات مُثُـل الديمقراطية، تستطيع أن تعمل في هذا الإطار الطغيانيّ. لذا، ينبغي التحرّكُ من أجل قلب هذه المعادلة للتخلص من الظلم الواقع بنا.

إنّ من حق المواطن أن يسحب التوكيل الذي أعطاه، أثناء الانتخابات، لرجل السياسة الذي لا يرضى المواطنُ عن أدائه في السلطة، متى شاء هذا المواطن، خلال فترة تولي المرشّح المنتخَب المسؤولية الرسمية في الدولة. لا بدّ للمواطن بالتمتّع بحق “الاتفاق غير الملزِم”!.

استراتيجيا “استرداد الحقّ

بعد الاستراتيجيتين، الأولى والثانية، تأتي مرحلة الاستراتيجيا الثالثة؛ وهي مرحلة “استرداد الحق”refund . هذه الاستراتيجيا تُعتمَد في عالم التجارة لمنع مخاطر فقدان العُملة التي أنفقها المستهلِك دون جدوى. وإنّ من شأن هذه الاستراتيجيا أن تريح بال المستهلِك الذي يكون متوجّـسًا من احتمال خسارة ماله في مقابل الحصول على سلعة أو خدمة لا تفي غرضَه. وإنه من خلال اعتماد هذا المبدأ التجاري، في عالم السياسة، يمكننا ضمان تحصيل حقّ المواطن في استرداد “عُملة” الثـقة التي أنفقها على مرشّح انتخابي لم يَـفِ له بوَعـدِ تلبية حاجته.

ثمة مروحة واسعة من السلع، من برامج كمبيوتر وأجهزة إلكترونية، بل وحتى أسرّة؛ تُعرَض للزبائن المحتمَلين مرفقة بكفالة من قبل الشركة التجارية المنتِجة. هذه الكفالة التي غَـرَضُها إرضاء الزبون، تضمن استردادَه نقودَه التي أنفقها على السلعة التي قد لا يجد فيها ما كان يبحث عنه من فائدة ونفع.

من أكثر كفالات “استرداد الحقّ” شيوعًا اليوم، التي تعتمدها الشركات التجارية لإقناع الزبائن المحتمَلين بشراء منتجاتها؛ هي “كفالة استرداد الحقّ ضمن ثلاثين يومًا 30-day-money-back guarantee . مقتضى هذه الكفالة أنّه إذا أرجع الزبون المنتَج الذي اشتراه، خلال الأيام الثلاثين التي تـلي يوم شرائِه للمنتَج، فستردّ الشركة المنتِجة نقودَ الزبون إليه بلا جدال ولا استـفهام. فالأمر إذن خالٍ من المخاطر بنسبة 100% لمصلحة الزبون.

هذا الإجراء التجاري هو فعلًا دفعة إيجابية في اتّجاه ضمان حقوق المستهلِك. فالأمر مصون من خلال قانون يمنح الحق للمستهلِك، ويفرض الواجبَ على البائِع، بما يعطي مجالًا للبائع ليكسب ثـقة المستهلِك، ومجالًا للمستهلِك ليضمن استرداد حقه الماديّ في حال لم يجد مبتغاه ممّا اشتراه.

فإذا كان للناس، بوصفهم مستهلِكينَ، الحق القانوني في استرداد عُملة أنفقوها ليشتروا منتَجًا تبيّن لهم عدم موافقته مرادَهم منه، ضمن مهلة ثلاثين يومًا؛ فلماذا لا يكون لهؤلاء الناس أنفسِهم الحق القانوني، بوصفهم مواطنينَ، بطلب استرداد “عُملة” الثـقة التي أبدوها في تصويتهم لمرشّح انتخابيّ تبيّن لهم عدم تأديته لواجباته الدستورية تجاه المجتمَع، وعدم إيفائه بوعوده التي أدلى بها خلال حملته الانتخابية؟!.

إنّ أنظمتـنا السياسية رجعية إلى درجة أنها لا تعترف بحق المواطن في طلب استرداد “عُملة” ثـقته التي أنفقها في التصويت لمرشّح خان أمانة هذا المواطن، بعد فوزه في الانتخابات، وعمد إلى استغلال منصبه ليربّي رفاهيته في السلطة على حساب حق المواطن عليه، ولم يعمل لمصلحة المجتمع ككل.

قد يكون توظيف استراتيجيا “استرداد الحقّ” في حيّز العمل السياسي، الحلَّ الجذريَّ لتحسين أداء الهيئات الحاكمة في الدولة. فإنّ باعتماد هذه الاستراتيجيا؛ سيضطرّ الساسة ذوو المناصب العليا في الدولة، والذين يخافون خسارة رفاهية هذه المناصب، إلى العمل بجدّيّة أكبر بأشواط ممّا يكون عملهم عليه في إطار اللامُساءلةِ وغيابِ قدرة المواطن على تجريدهم من هالة السُّـلطة، حالَ إدراكهم أنّ فشلَهم في تلبية حاجة المجتمع وأفراده سيؤدّي حتمًا إلى خسارتهم مناصبهم الفارهة.

لكن؛ كيف يمكننا تصميم آلية قانونية يستطيع من خلالها المواطنون حيازة المقدرة السياسية التي تخوّلهم طلبَ استرداد “عُملة” ثـقتهم، ديمقراطيًّا، لدى حصول الخلل في الأداء السياسي لمَن انتخبهم هؤلاء المواطنون؟

ينبغي للمقدرة السياسية هذه أن تصبح عملية سياسية معياريّة تتكرّر دوريًّا مرّات عـدّة خلال فترة تولّي الساسة مناصبَهم (4 أو 5 سنوات). بالتالي، ينبغي أن تكون هذه عمليةً تؤصِّل الحالة الديمقراطية عينَها.

وإضافة إلى عزل الساسة الفاسدين عن حيّز مناصبهم الرسمية في حال تلكّـئهم في الأداء السياسي؛ فإنّ القرارات الإدارية التي اتخذها هؤلاء الساسة، والسياسات العوجاء التي اعتمدوها، سيؤول أمرها إلى البُطلان والإلغاء، وقد يحال هؤلاء الساسة إلى المحاكمة.

وليس الساسة على درجة من الغباء والتهوّر للخوض في مثـل هكذا مخاطرة؛ لذا، على المواطن استغلال هذه الحالة لتعزيز وتحسين الأداء السياسي للهيئات الحاكمة؛ والسعي الجدّيّ لاستحداث هذه الاستراتيجيات التجارية في مجال الحركة السياسية لتكون مجذّرة في متن الدستور.

إلّا أنه لا ينبغي أن يكون حقّ استرداد “العُـملة” مقيَّدًا بهامش ثلاثين يومًا (كما هو السائد في عالم التجارة والأعمال). ينبغي لهذا الحق أن يكون متاحًا منذ بداية تولّي الساسة مناصبَهم الرسمية (على أثر الانتخابات) وحتى اليوم الأخير من الفترة المخصصة لهم في الحُكم. يجب أن يكون هذا مضمّـنًا في الدستور، وأن يصبح عملية سياسية معيارية كما حال عملية التصويت. بالتالي؛ على الدولة أن تعمَد إلى تنظيم يوم خاصّ يكون “يومَ استرداد الحقّ” تمامًا كما تنظّم “يومَ الانتخابات”، لكن بوتيرة أكثر تكرارًا (مثلًا كل سنة، أو كل ستّة أشهر، أو حتى كل شهر؛ على مدى فترة الأعوام الخمس المخصصة لحُكم السُّـلطة الجديدة). هكذا؛ يتم سؤال المواطنين ليصوّتوا لصالح إبقاء السلطة الحاكمة في منصبها، أو عزلها عن المنصب الرسمي بفعل سوء أدائها.

وليس ضروريًّا أن يكون هذا الإجراء على نحو “تصويت” حتى؛ على الأقلّ على صعيد السلطات البَلَدِيّة. فقد يصار إلى الطلب من مسؤولين رسميّين أن يحْـضُروا دوريًّا، خلال فترة تولّيهم السلطة، أمام لجنة قضائية محايدة يتمّ انتخابها بالقرعة؛ فيقـدّم هؤلاء المسؤولون عرضًا لنشاطِهم السياسيِّ وقراراتِهم التي اتخذوها، ويجيـبوا عن جميع أسئلة المواطنين حيالَ قراراتهم هذه وسياساتهم والتشريعات التي يقترحونها.

وفي نهاية جلسات الاستماع، تطلب اللجنة القضائية المحايدة من المواطنين الحاضرين اتخاذَ قرار ملزِم رسميًّا، في شأن عـزل المسؤولين الذين تـمّت مساءلتُهم، أو عدمِه.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى