«هكذا تكلم الهدهد»… رؤية معاصرة لطائر النبي سليمان

 

يستند المصورون في أعمالهم عادة إلى مثير بصري أو فكري، ينطلقون من خلاله مشكلين ملامح التجربة التصويرية التي يتصدون لها. قد تتداخل هذه المثيرات في قريحة الفنان أو تتشابك معالمها. قد تكون مفردة أو عنصراً طبيعياً، وقد تكون محض فكرة أو حلم يحمل رؤية ذاتية للحياة والوجود. وبقدر مساحة الخيال التي يمتلكها الفنان تتشعب المعالجات أحياناً وتتحرك قرباً أو نأياً عن المثير الأول الذي انبثقت منه.

 ينطبق الأمر هنا على تلك التجربة التصويرية الأحدث للفنان المصري حمدي عطية التي قدمها أخيراً في قاعة المسار في القاهرة تحت عنوان “هكذا تكلم الهدهد“. في هذه التجربة ينطلق عطية من وحي واقعة حقيقية حدثت عام 2014، حين ضرب إعصار مدمر معظم السواحل الشرقية للهند مخلفاً وراءه خراباً هائلاً. قد يبدو المثير هنا مربكاً للوهلة الأولى، غير أن الفنان بلا شك قد عثر فيه على ضالته، والمتمثلة في بعض المفارقات التي تنسجم مع رؤيته، هذه المفارقات التي جعلت من تلك الكارثة الطبيعية هي الشرارة الأولى لتجربته التصويرية المعروضة.

المفارقة الأولى تتمثل في اسم الإعصار (هدهد) الذي يحمل النطق العربي نفسه لطائر الهدهد المعروف، أما المفارقة الأخرى فهي أن هذا الإعصار قد مثل بالفعل تهديداً حقيقياً لأعشاش طيور الهدهد التي تستوطن تلك المناطق بكثافة، وهو الأمر الذي مثل هاجساً لمراكز البحث البيئي حول العالم من انقراض هذه الفصائل كما يقول الفنان في مقدمته للمعرض.

“غير أن هذه الطيور العنيدة خاضت هذا التحدي البيئي المعاصر وخرجت منه على قيد الحياة، كما خاضت أسلافها قديماً أعباء السفر الطويل من دون طعام أو شراب خلال قيامها بمهام تبليغ الدعوة السليمانية”.

يشير الفنان أيضاً في تقديمه للأعمال إلى بعض المصادر الأخرى التي ألهمت تجربته، مثل نصوص الشاعر الصوفي فريد الدين العطار عن طائر الهدهد في كتابه “منطق الطير”. كما يلفت الفنان كذلك إلى حضور الطائر ضمن النص القرآني كمبعوث استثنائي يستطلع ويلتقط الأخبار بعين مدربة. هكذا استخلص الفنان حمدي عطية مفردته من قلب الحدث ومن بين تفاصيل ثقافته، هذه المفردة التي شكل بها ملامح أعماله المعروضة. يطمح عطية من خلال هذا المشروع الفني كما يقول في تقديمه “إلى استكشاف سحر تلك العين الأسطورية، الثاقبة واللاذعة، لطائر يبدو كمتجول استقصائي محترف”.

كما يشير إلى حرصه على استلهام فن المنمنمات الإسلامية في بنائه للأعمال، في مزاوجتها بين النص البصري والنص المكتوب. يعمد عطية أيضاً إلى خلق فجوة دلالية بين النصين السردي والبصري، ما يسمح بنمو التأويلات لدى المتلقي، انطلاقاً من تلك المفردة الاستثنائية. على المستوى الجمالي وظف الفنان شكل الطائر بهيئته المباشرة في العديد من السياقات البنائية مع خلفية ضبابية أحياناً أو ملبدة بعناصر غائمة تراوح بين الدرجات الحيادية والصريحة.

اللوحة هنا مجزأة إلى مساحات داخلية تحدد مسار اللون واصطفاف المفردات والعناصر على سطح العمل. يلتقط الفنان هنا تلك المساحة الغائمة بين الحقيقي والأسطوري والمقدس، ويربط فيما بينها عبر مسارات ملبدة بالمفارقات كما الحدث الذي انطلق منه، لا يخلو تناول عطية لتلك المفردة وما ارتبط بها من نظرة لاذعة أو صادمة أحياناً نتيجة للمقابلة بين النص السردي والنص المرسوم.

تحمل اللوحات نصوصاً مكتوبة باللغة الإنكليزية تحكي قصة الهدهد مع النبي سليمان كما جاءت في القرآن الكريم، وفي الوقت ذاته نرى الصورة المصاحبة بمفرداتها المعاصرة وتركيبتها غير الموائمة في كثير من الأحيان للنص المكتوب. صورة الطائر حاضرة بالطبع، وهي العنصر الرئيسي الذي يتكرر في معظم اللوحات.

 إلى جوار الطائر ثمة عناصر أخرى مرتبطة بعدد من الكلمات الدلالية كما جاءت في قصة الهدهد، كالتاج، والكرسي، وغيرها من المفردات والعناصر الأخرى. هي دلالات تجعل من الهدهد رسولاً بين الماضي والحاضر أو ربما المستقبل أيضاً.

حمدي عطية فنان مصري يعيش ويعمل بين القاهرة وشيكاغو الأميركية، يهتم في تجربته الفنية بطبيعة العلاقة بين مفردات رسم الخرائط وجسدية الجغرافيا وسلطة النصوص باستخدام الفيديو والرسم والنحت. مثل مصر في بينالي فينيسيا حيث حصل على جائزة الأسد الذهبي مع المعماري أكرم المجدوب عام 1995، وعرضت أعماله في الكثير من المدن حول العالم وهو حاصل على شهادة الماسترز من جامعة بنسلفانيا.

 

 

صحيفة الحياة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى