هل أدارَت “الأردوغانيّة” السياسيّة ظهرها لروسيا كُلّيًّا وعادت إلى الحُضن الأمريكي.. وما هو المُقابل
عبد الباري عطوان
الكاتب التركي الشّهير مرات يتكين كان أوّل من نحت تعبير “الأردوغانيّة” السياسيّة، باعتِبارها ظاهرةً وضع أُسسها الرئيس رجب طيّب أردوغان على مدى 20 عامًا من حُكمه، ومن أبرزها البراغماتيّة الانتِهازيّة، والشعبويّة الخِطابيّة، واعتِماد تزاوج الإسلام السّياسي مع القوميّة التركيّة كأيديولوجيّة رئيسيّة لها.
تذكّرت الكاتب يتكين، ونظريّته هذه، عندما كشفت وكالات الأنباء عن مُوافقة الرئيس أردوغان على انضِمام السويد إلى حِلف شِمال الأطلسي “النّاتو” بعد تحقيقه مُعظم مطالبه وأبرزها عدم توفير الحِماية للمُعارضين الأكراد، ومُوافقة الولايات المتحدة في شخص رئيسها جو بايدن على رفع الحظر عن حُصول تركيا على صفقة طائرات “إف 16” وقيمتها 20 مِليار دولار، وإعادة تحديث سِلاح الجو التركي، ورفع الحِصار الاقتِصاديّ الاستِثماريّ عن تركيا.
كان واضحًا، ومُنذ استِقبال الرئيس أردوغان لنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في إسطنبول، وتقديم خمسة من قادة ميليشيا آزوف النازيّة، في انتهاكٍ لاتفاقيّة تبادل الأسرى مع روسيا وتعهّد الرئيس التركي بدعم انضِمام أوكرانيا لحلف “النّاتو” وتقديم تكنولوجيا المُسيّرات “بيرقدار” كهديّةٍ له، أن الرئيس أردوغان قرّر العودة إلى الحُضن الأمريكي الأكثر دِفئًا مجددًا، ولخيمة حِلف “النّاتو” الذي كانت تركيا دولةً مُؤسّسةً له، وإدارة الظّهر، كُلّيًّا أو جُزئيًّا، للحليف الروسي الجديد، بعد أن استَخدمه بفاعليّة كورقة مُساومة وضغط على الولايات المتحدة لتحقيق جميع مطالبه.
الورقة الروسيّة التي وظّفها الرئيس أردوغان في خدمة أهدافه، للضّغط على أمريكا فقدت مُعظم قيمتها بعد انتِهاء الانتِخابات الرئاسيّة والتشريعيّة التي عُقِدَت في 14 أيّار (مايو) الماضي، وفوزه وحزبه فيها، واستَبدلها بورقةٍ أُخرى لا تقلّ فاعليّة وربحًا وهي ورقة عُضويّة السويد في حِلف “النّاتو” التي لا يُمكن أن تتحقّق إلّا برفع الفيتو التركي، دُونَ أيّ اعتِبار واحترام، لمشاعر موسكو ورئيسها في هذا التّوقيت الحَرِج.
الأزمة الاقتصاديّة الطّاحنة التي تعيشها تركيا هذه الأيّام، وتتمثّل في التضخّم، والانكِماش، وانهِيار اللّيرة، وتراجُع الاستِثمارات، كانت من أبرز أسباب هذه الاستِدارة الرئاسيّة فبعد فشَل مُعظم رحلات الحجيج الأردوغاني إلى مِنطقة الخليج لجذب الاستِثمارات لإخراج الاقتِصاد التركي من أزماته غير المسبوقة أدرك أردوغان أن العودة إلى الحُضن الغربي هو الحل الوحيد الأكثر نجاعةً عبْر البوّابة السّويديّة، ولكن هذا الرّهان مع الغرب يظلّ محفوفًا بالمخاطر.
نشرح أكثر ونقول إن ثقة الولايات المتحدة وحُلفائها في أوروبا بالرئيس أردوغان تراجعت كثيرًا، بعد استِخدامه ورقة المُهاجرين بطريقةٍ ابتزازيّة، وذهابه إلى روسيا وتحالفه معها في ذروة الحرب الأوكرانيّة، والحُصول على منظومات صواريخها “إس 400” كبديلٍ لبطاريّات “الباتريوت”، والتّنسيق سياسيًّا معها، أيّ روسيا، في سورية وأذربيجان وغيرهما، وهذا ما يُفسّر رفض الأوروبيين المُقايضة الأردوغانيّة بربط رفع الفيتو عن انضِمام السويد لحلف النّاتو مُقابل فتْح أبواب الاتّحاد الأوروبي أمام عُضويّة تركيا مجددًا.
فإذا كان الرئيس أردوغان، وهو العُضو في حِلف “النّاتو” قد تمرّد على زُملائه الآخرين الأعضاء فيه، واستخدم ورقة انضِمام السويد كورقة ضغط ابتزازيّة لعدّة أشهر، ورفع سقف مطالبه السياسيّة والاقتصاديّة، فمَن يضمن أن هذا المشهد لن يتكرّر في حالِ انضِمام تركيا بزعامته إلى الاتّحاد الأوروبي في المُستقبل المنظور، خاصّةً أنها ستكون الدّولة “المُسلمة” الأكثر تِعدادًا بشريًّا (85 مِليون)، وثاني أقوى الجُيوش فيه؟ وهذا السُّؤال ليس من عِندنا، وإنّما من وزير خارجيّة أوروبي أسبَق تحدّثنا معه هاتفيًّا حول هذه المَسألة.
الرئيس بوتين، الذي يُواجه أكبر تَحَدٍّ مُنذ تولّيه السّلطة ويتمثّل في تمرّدِ جماعة فاغنر، وحرب مفتوحة مع حِلف “النّاتو” كان أحدث فُصولها تسليم كييف قنابل عُنقوديّة، وقذائف من اليُورانيوم المُنضب، أُصيب بطعنةٍ قاتلةٍ من قِبَل صديقه التركي أردوغان، والشّيء نفسه ينطبق على إيران وإن بدرجةٍ أقل، ولكن المُتحدّث باسمه ديمتري باسكوف حاول التّخفيف من قُوّة هذه الصّدمة عندما اكتَفى بالقول مُعلّقًا “انضِمام السويد إلى حِلف النّاتو سيكون له تبعاتٌ سلبيّة على أمنِ بِلاده، وإن روسيا تتفهّم رُضوخ تركيا للضّغوط الأمريكيّة، وعُضويّتها في حِلف النّاتو”.
خِتامًا نعترف بأنّنا لا نعرف انعَكاسات هذا “الانقِلاب” التركي على التّفاهمات السوريّة التركيّة التي جرى التوصّل إليها عبر الوِساطة الروسيّة، ومَصير القمّة المُرتقبة بين الرئيسين السوري والتركي، ولقاءات منظومة آستانة، وما سبقها من لقاءاتٍ على المُستويين الأمنيّ والسياسيّ لإعادة العُلاقات بين البلدين، والسّؤال نفسه يُطرَح عن مُستقبل اللّقاء الذي كان من المُفترض أن يتم نهاية هذا الشّهر في إسطنبول بين الرئيس الزّائر بوتين و”صديقه” التركي؟
مصلحة أردوغان الشخصيّة تحتلّ المرتبة الأولى في سُلّم أولويّاته، وتليها مصلحة تركيا، وفي قاموسه السياسيّ لا يُوجد أيّ مكان للمبادئ، ولا يتردّد في اتّخاذ أيّ قرار يَصُبّ في مصلحة هذين الهدفين، داخليًّا أو خارجيًّا، ولهذا لم يُفاجِئ أحد قراره برفع الحظر عن انضِمام السويد لحِلف “النّاتو” بعد أسابيع قليلة من حرقها للقرآن الكريم، وتهديداته بالانتِقام الكبير من إقدامها على هذه الخطيئة التي لا تُغتَفر، فالمصالح تتقدّم على المبادئ والعقائد والتّحالفات، والمُفاجآت القادمة أعظم.. واللُه أعلم.