هل أنت شبح دون أن تدري؟
استطاع رالف أليسون من خلال روايته التي تحمل معاني صادقة أن يعبر من عالم الأشباح إلى عالم البشر الطبيعيين المعضلة لا تنطبق فقط على عالم الأشباح غير المرئي، بل أيضاً على عالم البشر الذين صاروا غير مرئيين بالرغم من تواجدهم على قيد الحياة
الشبح هو ذاك المخلوق الذي حرم من حياته، ومستقبله، وضاعت هويته في خضم من الفساد، والعدوانية غير المبررة تجاهه الأشباح” كلمة مجرد ذكرها مخيف، لدرجة أنها قد تجعلنا نقشعر، وننتفض، بل وقد نلتفت حولنا لمعرفة إذا كان هناك شبح متواجد خلفنا. فلو جفلت لوهلة لمجرد سمعك هذا الاسم، ماذا لو تعرف أنك في الوقت الحالي قد تكون شبحاً دون أن تدري؟
“الشبح هو ذاك المخلوق الذي حرم من حياته، ومستقبله، وضاعت هويته في خضم من الفساد، والعدوانية غير المبررة تجاهه. لكن أيضاً هناك مشكلة أخرى، فهناك نوع من الأشباح قد ارتضى لنفسه تلك الحياة بإرادته؛ لأنه لا يريد أن يختلط مرة أخرى بمن ظلموه وسلبوا منه كل شيء. مما جعله راغب عن التعبير عن نفسه؛ لمعرفته أنه لا يوجد من يسمعه أو حتى الإصغاء له لوهلة.
تلك المعضلة للأسف لا تنطبق فقط على عالم الأشباح غير المرئي، بل أيضاً على عالم البشر الذين صاروا غير مرئيين بالرغم من تواجدهم على قيد الحياة. ولقد عبر عن تلك المشكلة الكاتب الأفريقي الأميركي الشهير رالف والدو أليسون Ralph Waldo Ellison، المشهور باسم رالف أليسون (1914-1994)، والذي يعد واحداً من أعلام الكتاب في القرن العشرين. ولقد كان الميراث الأدبي الذي خلفه رالف أليسون عامراً بثروات فكرية تتمثل في مقالاته وأعماله الأدبية من روايات وقصص قصيرة، مما دفع النقاد أن ينعتوه بـ “أحد الآلهة الأميركيين الذين يقطنون جبل برناسوس – علماً بأن جبل برناسوس هو جبل شاهق من الحجر الجيري في وسط اليونان – دولة الأساطير والثروات الأدبية والفلسفية – ويطل على مزارع وبساتين الزيتون مما يضفي عليه منظراً أسطوريا، ويجعل منه جبلاً يليق بالآلهة لتقطنه. ونعت رالف أليسون بذلك يدل على أنه بالفعل قد تجاوز محنة الحياة كشبح وذهب إلى عالم الأحياء.
الذي يعتزل متاعب الحياة ويؤثر أن يعيش على الهامش حتى لا يتأذى لسوف يصير شبحاً. أما من يصر على أن يجاهد بكل الأشكال ليجد له صوت في تلك الحياة المجحفة لسوف ينعم بحياة البشر
ويذكر أن رالف أليسون بالفعل قد عانى من كونه شبحاً – غير مرئي – طوال فترة طفولته وشبابه، إلى أن استطاع أن يشق لنفسه طريقاً قد اختار جميع تفاصيله. ومن أشهر روايات رالف أليسون على الإطلاق رواية “الرجل الخفي”Invisible Man التي كتبها رالف أليسون على مدار أربعة سنوات متواصلة (1947-1951)، وتم نشرها عام 1952 لتحقق نجاحاً عالمياً مبهراً جعلها تتخطى جدران العالم الأفريقي الأميركي الخانع، المحدود الذي يعاني من عذاب التفرقة العنصرية. فلقد استطاع رالف أليسون من خلال روايته تلك التي تحمل معاني صادقة أن يعبر من عالم الأشباح إلى عالم البشر الطبيعيين.
ويذكر أن رواية “الرجل الخفي” قد تم اختيارها كواحدة من أحسن مائة رواية الناطقة باللغة الانجليزية، ولقد وقع ليها نفس هذا الاختيار من قبل كل من المجتمع الأميركي، والمجتمع الانجليزي المتحفظ.
ولقد كانت الرواية صادقة لأنها تعرض نموذجاً واقعياً من قصة كفاح رالف أليسون، فالرواية يلقيها هذا الرجل الخفي نفسه، وشدد الكاتب على عدم الإفشاء باسمه حتى آخر الرواية لتوكيد أن الاسم والهوية الإنسانية والثقافية لا تعني شيئا لو كان الإنسان لا يجد سبيلاً له في هذه الحياة.
وتفتتح الرواية على شاب في مقتبل عمره، يقطن حجرة وضيعة في بدروم مبنى، لا ينيرها إلا كهرباء قد تم سرقتها من مبنى مجاور، ومنزله يعج بأسلاك عديدة، وكأنها قد تجمعت لتوضح أن ما تبقى من هذا الرجل مجرد أثير سرعان ما يخبت في الفضاء وينزوي. ولكن أخيراً، يقرر هذا الرجل أن يتحدث ليحكي قصة حياته التي توضح أنه شخص على الهامش لا يلتفت له أحد، وأما هو فلقد فقد الثقة في أقرب الأقربين له مما جعله لا يعير أيضاً أي اهتمام لهذه الدنيا.
وتعرض القصة فشله الذريع في حياته، وكيفما خانه الحزب السياسي الذي ينتمي له مما جعله يفقد القدرة على الثقة في الآخرين، وألوان العذاب والتفرقة العنصرية التي يعاني منها كفرد أسود ليس فقط في وسط المجتمع الأبيض، بل أيضاً من أفراد المجتمع الأسود ذاته. حتى التعليم، حرم منه عمداً، وهناك كذلك من تعمد أن يجعل جميع الكليات لا تقبله طالباً بها. ولما حصل أخيراً على موافقة إلتحاقه بإحدى الكليات المخصصة للسود فقط في أميركا، كان الشرط للحصول على المنحة هو القيام بالتذلل لأحد كبار المجتمع الأبيض، ليرجع مرة أخرى قرداً يسلي المجتمع الأبيض.
إن رالف أليسون قد مر بهذه المراحل في حياته الشخصية. فلقد كان يعيش في أسرة فقيرة في ولاية أوكلاهوما بجنوب الولايات المتحدة حيث التفرقة العنصرية الشديدة. ولقد كان والده محباً للقراءة والأدب، وكان يشجع أولاده على التعليم وحب القراءة والثقافة. ولكم كان يرغب أن يصير ابنه النابه رالف أليسون شاعراً. لكن حدث وأن توفى الوالد، وحاولت الأم أن تنتقل بأبنائها للشمال لتنمي شخصيتهم بشكل أفضل، لكنها لم تكن محظوظة؛ إذ لم تجد أي عمل، مما أجبرها أن تعود مرة أخرى للجنوب.
ولإعالة نفسه وأسرته، اضطر رالف أليسون أن يعمل جميع الوظائف التي تزيد من حجم ضآلته في المجتمع؛ حيث عمل كماسح أحذية، وكمساري، ومساعد طبيب. حتى حين إلتحق بالجامعة لم يجد الهناء بين عالم المثقفين؛ فلقد وجد أن حتى السود يمارسون التفرقة العنصرية على ذويهم.
كان من الممكن أن يخنع رالف أليسون، ويكتفي بحياته كفرد أسود يعاني من التفرقة والاضطهاد كسائر ذويه. لكنه جاهد وحطم جدران العيش كشبح، وحاول أن يجد له صوتا في مجتمع لا يستمع له. وعلى هذا، أعطى رالف أليسون درساً عملياً سواء من خلال قراءة حياته الشخصية أو روايته الشهيرة “الرجل الخفي” أن يعطي درساً عملياً لجميع من أغلقوا على أنفسهم أبواب الإحباط وأرتضوا أن يعيشوا كأشباح.
فهو يعطيهم كل الأمل أن بمقدورهم مع الصبر والمثابرة أن يبلغوا مآربهم مهما كان الطريق وعراً. فلقد استطاع رالف أليسون أن يصير واحداً من أهم الروائيين في القرن العشرين. وأما بالنسبة لبطل روايته الذي لا يوجد اسم له، فلقد قرر أن يكسر جدران صمته أخيراً وأن ينطلق في الحياة كشخص موجود له كيان.
والخيار الآن لكل فرد، فالذي يعتزل متاعب الحياة ويؤثر أن يعيش على الهامش حتى لا يتأذى لسوف يصير شبحاً. أما من يصر على أن يجاهد بكل الأشكال ليجد له صوت في تلك الحياة المجحفة لسوف ينعم بحياة البشر.
ميدل إيست أون لاين