هل ارتكب الرئيس أردوغان خطيئةً كُبرى بمنع الطّائرات الروسيّة من استِخدام الأجواء التركيّة للوصول إلى قواعدها في شِمال سورية؟
فاجَأ قرار تركيا بإغلاق مجالها الجوّي أمام الطائرات العسكريّة والمدنيّة الروسيّة، المُتّجهة إلى شِمال سورية الكثير من المُراقبين خاصَّةً في هذا التّوقيت، وأثار العديد من علامات الاستِفهام حول تبعات هذا القرار الذي أعلن عنه السيّد مولود جاويش أوغلو للصّحافيين الأتراك الذين كانوا يُرافقونه في جولته الجنوب أمريكيّة على العُلاقات الروسيّة التركيّة.
من غير المُستَبعد أن يكون هذا القرار ربّما جاء كأحد ثمار صفقة تركيّة أمريكيّة بعد اتّصالات سريّة بين الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان ونظيره الأمريكي جو بايدن لتضييق الخِناق على روسيا، لأن الرئيس بايدن على عكس سلفه دونالد ترامب، يُؤمن بأنّه من الصّعب تحقيق الأمن الإقليمي بُدون تركيا، ويجب علينا أن لا ننسى أن تركيا ما زالت عُضوًا أصيلًا في حِلف الناتو.
***
هُناك عدّة تفسيرات لهذا القرار التركي، إحداها يقول بأن أمريكا مارست ضُغوطًا على تركيا بعد أن تبيّن أن إدارة روسيا لمعركة ماريوبول ومناطق أخرى في جنوب شرق أوكرانيا كانت تُدار من قاعدة حميميم الروسيّة في شِمال سورية، وأن طائرات انطلقت منها لتنفيذ ضربات استراتيجيّة للقوّات الأوكرانيّة منها، حسب بعض التّسريبات الأمريكيّة، بينما تقول تفسيرات أُخرى إن الرئيس أردوغان نجح في تحسين عُلاقات بلاده مع أمريكا مُستَغِلًّا حاجة الأخيرة للحُلفاء في معركتها شِبه الخاسرة في أوكرانيا، ومن أبرز عناوين هذه الصّفقة توسيع دائرة التّعاون الاقتصادي، وتلبية حاجات تركيا الدفاعيّة وخاصَّةً طائرات “إف 35” المُتطوّرة، وبطاريّات صواريخ باتريوت وثاد.
إيران سارعت بذكاء بتقديم عرض بديل والسّماح للطائرات الروسيّة باستِخدام أجوائها للوصول إلى القواعد البحريّة والجويّة في شِمال سورية، صحيح أن الرّحلات ستكون أطول، ولكن هذه مسألة أقل أهميّة بالنّظر إلى الفوائد الجمّة التي ستترتّب عليها للبلدين، وخاصَّةً إيران، التي نجحت في تطوير عُلاقاتها الاستراتيجيّة مع المحور الروسي الصيني، وحسمت أمْرها مُنذ اليوم الأوّل لاندِلاع الأزمة الأوكرانيّة بالوقوف في الخندق الروسي، وعدم إدانة اجتِياح أوكرانيا.
الرئيس فلاديمير بوتين غَفَرَ للرئيس أردوغان غلطته الأولى عندما أسقطت دفاعاته الجويّة طائرة “سوخوي” روسيّة قيل إنها اخترقت الأجواء قُرب الحُدود السوريّة التركيّة لثوانٍ معدودةٍ عام 2015، بعد اعتِذار الرئيس التركي بكُلّ اللغات، ومن ضمنها الروسيّة، على هذه الغلطة، وتفهّم بوتين، بل وصبَر، على الاحتِلال التركي لمناطق في شِمال سورية على عكس رغبة حليفه السوري، ولكن من المُؤكد أن هذا القرار، أيّ حظر الطيران الروسي، لن يكون من السّهل غُفرانه، خاصَّةً إذا تبعه قرار آخَر بحظْر مُرور السّفن العسكريّة الروسيّة عبر مضائق البوسفور والدردنيل إلى البحر المتوسّط، تطبيقًا لاتفاقيّة “مونترو”، وهو قرارٌ مُحتمل، وفي أيّ لحظة على ضُوء التحسّن المُتسارع للعُلاقات التركيّة الأمريكيّة.
خسارة الرئيس أردوغان لروسيا ربّما تكون مُكلفة جدًّا عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا إذا مضى قُدُمًا في سعيه للانحِياز إلى الجانب الأمريكي في الأزمة الأوكرانيّة، لأنه لن يستطيع الاستِمرار في دوره التّمثيلي كوسيط “مُحايد” في هذه الأزمة، واستِضافة لقاء القمّة المُنتظر بين الرئيسين التركي والأوكراني، وستتبدّد أحلامه بتوسيع التعاون التجاري مع روسيا ووصوله إلى مئة مِليار دولار سنويًّا بين البلدين، ومن غير المُستَبعد أن يتم تجميد بيع المزيد من صفقات صواريخ “إس 400” الروسيّة وتصنيعها في تركيا، والأخطر من كُل ذلك أن روسيا قد ترد بتطوير عُلاقاتها مع حزب العمّال الكردستاني الانفِصالي ودعم عمليّاته في تركيا.
اجتياح القوّات الروسيّة لاوكرانيا مسألة حياة أو موت بالنّسبة للرئيس بوتين، وبات الموقف تُجاهه مِعيار الصّداقة والعداء بالنّسبة له، وقد يكون ردّه المُحتمل على هذه الطّعنة التركيّة على عدّة جبهات:
الأولى: الجبهة السوريّة: فالرئيس بوتين وبحكم حرصه على العلاقات مع تركيا، عارض بشدّة رغبة القيادة السوريّة باجتياح إدلب، والقضاء على الجماعات الإسلاميّة المُصنّفة إرهابيًّا، واستعادتها، والأراضي السوريّة الأخرى الواقعة تحت احتِلال قوّات تركيّة في الشّمال السوري، ومن غير المُستبعد أن يتغيّر الموقف الروسي، ويتم رفع “الفيتو” عن المطالب السوريّة، بل ومُشاركة القوّات الروسيّة في هذا الاجتِياح، وتوفير الغطاء الجوّي له، الأمر الذي سيخلق أزمة خطيرة لتركيا أبرز وجوهها هجرة أكثر من ثلاثة ملايين سوري ومِئات الآلاف من المُسلّحين المُتشدّدين وعائلاتهم من إدلب إلى الأراضي التركيّة.
الثانية: تعزيز العلاقات الروسيّة الإيرانيّة الأمر الذي سينعكس سلبًا على الطّموحات الأردوغانيّة الإقليميّة خاصَّةً في سورية وآسيا الوسطى، إذا وضعنا في الاعتبار العامل الصيني الضّلع الثّالث والأقوى في هذا التّحالف الجديد، إلى جانب انضِمام الهند إليه.
الثالثة: الجبهة العربيّة، فطُموحات تركيا في تحسين علاقاتها مع المملكة العربيّة السعوديّة ومِصر ودول خليجيّة وعربيّة أخرى قد تتأثّر سلبًا، في ظِل تقارب هذه الدّول مع روسيا والصين، وفُتور عُلاقاتها مع الحليف الأمريكي التقليدي، واللّافت أن القِيادة السعوديّة لم تتجاوب حتى الآن مع التّنازلات التركيّة لإصلاح العُلاقات، وأبرزها إغلاق مِلف اغتيال الخاشقجي إلى الأبد.
***
باختصارٍ شديد يُمكن القول أن بُوصلة الرئيس أردوغان تتّسم بالارتِباك والتقلّب في الأشهر الأخيرة، وأصبح يُراهن على الأحصنة العرجاء، وقبل عام من انتخابات رئاسيّة وتشريعيّة حاسمة ربّما تُطيح به وحُكمه من السّلطة، ابتداءً من إعادة العُلاقات بشَكلٍ مُبالغٍ فيه مع “إسرائيل” وانتهاءً بتورّطه المُتدرّج في الأزمة الأوكرانيّة والوقوف في الخندق الأمريكي.
ربّما يكون الرئيس بوتين قد تغاضى عن بيع تركيا لطائرات “البيرقدار” المُسيّرة التي ساهمت في قتل ألفيّ جندي روسي في أوكرانيا، وابتلع على مضض دورها كوسيط في الأزمة، ولكنّه سيكون من الصّعب عليه التّساهل والتّسامح مع الانحِياز التركي المُتسارع لمُعسكر الأعداء الأمريكان في حربٍ مُرشَّحةٍ للتوسّع زمانيًّا وجُغرافيًّا، وقد تتحوّل إلى حربٍ عالميّة ثالثة.
صحيح أن تركيا دولة إقليميّة عُظمى، وقويّة عسكريًّا، ولكنّ الصّحيح أيضًا أن المُعسكر الذي تنزلق إليه (الأمريكي) يتراجع، وتُمزّقه الانقِسامات، وفشلت حتى الآن مُعظم عُقوباته الاقتصاديّة على روسيا وفوق هذا وذاك، يُواجه تحالفًا يضم دولتين عُظميين وثالثة نوويّة (الهند)، ورابعة في الطّريق (إيران)، أيّ أنه تحالفٌ يضم أكثر من نِصف عدد سكّان العالم تقريبًا.
مُقامرة الرئيس أردوغان المذكورة مَحفوفةٌ بالمخاطر وربّما تُعطي نتائج عكسيّة، وفي التّوقيت الخطأ.. واللُه أعلم.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية