هل بدأت حرب اغتيال السفارات؟ (نصري الصايغ)

 

 
نصري الصايغ

إنه القتل!
هنا بيروت. في رصيد المدينة عدد من السيارات المفخخة. بعضها يتجوَّل في لبنان، ويتحضر لدخول «الضاحية». انفجرت اثنتان، وكان ما كان من موت وهلع وفقدان، وبدء جديد لمرحلة استهداف حزب المقاومة وقلب حاضنته الشعبية، ومؤسساته الأهلية، بتنوع اختصاصاتها. السيارة الأولى، أخفقت في الإصابة والأخيرة ضبطت في «المعمورة»، قبل أن يندلع صاعقها… منذ ذلك، والضاحية قلعة محاصرة بالعيون الساهرة، درءاً لخطر ركون سيارة في منطقة مأهولة.
إنه القتل!
أمس، وصلت سيارتان مفخختان(!) إلى البوابة الإيرانية في بيروت «الجناح». الدم ملأ الشوارع والشاشات. المشهد فظيع وقاتل. بلغت العملية عواصم القرار. الأصداء كانت بليغة ومثقلة بالمعاني. قيل: هذا منعطف جديد في سياق قديم، منبعه الحرب في سوريا. وقيل أيضاً: اليوم السفارة الإيرانية، وغداً، أي سفارة مرشحة للتفجير.
إنه القتل!
هنا طرابلس. في رصيد المدينة سيارتان مفخختان انفجرتا في ذروة الصلاة، في مسجدين للعبادة. المدينة تعيش كوابيس تحولها إلى ريف سوري في أرض لبنانية. ريف بحرب الوكلاء المحليين عن الأصلاء الإقليميين. قيل: طرابلس في طريقها لتصبح مدينة عراقية، مكتظة باحتمالات الدم والقتل. خطوط التماس فيها لم تعد صالحة لتبليغ الرسائل. السيارات المفخخة أفصح دلالة.
إنه القتل!
هنا دمشق وأخواتها من المدن والأرياف. في رصيد بلاد الشام ما يفوق التعداد. أرض الشام، بلاد المعارك بصيغها الهائلة. هولاكو مقيم فيها وتيمورلنك مرَّ بها، ومن تفوَّق عليهما بخوض المعارك بمنسوب بربري غير مسبوق، ربما، باستثناء رواندا. القتلة هناك معروفون بالأسماء والتنظيمات والرتب، وبقيافاتهم الدينية والمذهبية والعسكرية الرسمية.
إنه القتل!
هنا بغداد وما حولها في الرافدين، من مناطق قريبة أو شاسعة البعد، تلتئم فقط في الدم المباح والقتل المعمَّم. في رصيد بغداد وشقيقاتها، رصيد من السيارات المفخخة. حديد يأكل لحوم الناس. سيارات تنفجر في حشود من الفقراء والبؤساء… هناك، تتبادل الأطراف المذهبية، أعراس الدم والمجازر. إنها الحرب الأهلية من دون خطوط تماس. لا منطقة خضراء محمية، غير «المنطقة الخضراء الرسمية» التي حصنها الاحتلال الأميركي، ضد غزوات السيارات المفخخة.
والسيارات المفخخة لا تقتل إلا الأبرياء «الأعداء».
في السياسة: التفجيران اللذان أصابا السفارة الإيرانية، يأتيان في هذا السياق. الحرب السورية، تتخطى حدودها الجغرافية. خطوط التماس السورية، هي خطوط ميادين القتال. خطوط التماس الشقيقة، هي خطوط التداخل الاقليمي بالمحلي، بكل تعقيداته ولبوسه، فالحرب في سوريا حرب بلا حدود. كل الأسلحة مسموحة، وحلفاء الفريقين المنخرطين ميدانياً، يقودان المعارك إما بالأصالة أو بالوكالة. إيران طرف في سوريا، وهو طرف حاسم ووازن ومقرر ومنفذ وداعم. حزب الله طرف في سوريا. حاضر ميدانياً، وقادر على قلب معادلة الميادين. سوريا قبل تدخل حزب الله، كانت على وشك سقوط نظامها. بعد تدخله، المعارضة المسلحة، تكدِّس خسائرها.
وكل ذلك له ثمن. والخصم يدفع كذلك، إن لم يكن في الميادين، ففي السياسة والموقع. السعودية وجحافل الأممية الإسلامية الجهادية، مستعدة للذهاب بعيداً جداً في المعارك، ولو كلف السعودية حرداً من أميركا ومن العالم والأمم المتحدة كذلك. لقد تكبَّدت السعودية خسائر فادحة. فاتحة الخسارات، تراجع أميركا عن ضرب دمشق بالصواريخ. ثانيها كانت بعد الاتصال الهاتفي بين أوباما وروحاني. ثالثها، كان في الطريق إلى جنيف 2 ورابعها، كان في بوادر الاتفاق النووي بين إيران والدول الست… لقد تم سحب الكيميائي من سوريا ومن معاركها، ودخلت المنطقة في مرحلة انقلاب موازين القوة، والسعودية تكدّس الخسائر. غير أنها لم تستسلم. تملك من الأوراق ما يجعلها قادرة على منع هزيمة فريقها وحلفائها في سوريا ولبنان والعراق.
السيارات المفخخة، من نسل تلك الحرب السورية ـ الإقليمية. والحرب في لبنان، تختلف عن سالف ما ارتكب من حروب. لا متاريس ولا جبهات، برغم الفرز السكاني المذهبي والطائفي. الحرب بالسياسة لا تجرح أحداً. المغالاة في الكلام لا يحرج أحداً، وذلك لسماكة جلد السياسيين ولفقدانهم الحساسية الوطنية. بإمكانك أن تتهم خصمك بالخيانة، ثم تبتسم له وتدعوه إلى الحوار، بعتب ودّي.
حرب لبنان، هي حرب السيارات المفخخة. وهي تعوض عن حرب الجبهات. إنها الحرب ضد المواطن. ولقد عرف لبنان ذلك، منذ اندلاع الخطف على الهوية والتصفية الجسدية لأبرياء، كل ذنبهم أنهم مفترضون من دين أو مذهب الميليشيا المخاصمة.
السيارات المفخخة التي انفجرت في بيروت وطرابلس، هي قتل جماعي على الهوية. في الضاحية، يُقتل ويُجرح ويُشوه، شيعة أبرياء، يشكلون حاضنة حيوية لـ «حزب الله». في طرابلس، يُقتل ويُجرح ويُشوه، سنة أبرياء، يشكلون، بالطبيعة لا بالاختيار، حاضنة للمعارضة السورية.
إنه القتل.
كل سيارة تنفجر في لبنان، تصيب كل لبنان. معارك صيدا وعبرا، كانت على عنفها، موضعية. معارك طرابلس وجبل محسن وباب التبانة، محصورة داخل المدينة. اللبنانيون يستمرون في حياتهم بشكل شبه طبيعي خارجها. أما السيارات المفخخة، فهي ذات إشعاع يصل إلى كل بيت…
إنه القتل.
اللبنانيون كلهم مصابون ومذعورون. السؤال الذي لا جواب عنه: متى وأين ستنفجر السيارة التالية؟ سؤال أخطر: هل بدأت حرب اغتيال السفارات؟
إنه القتل!
لسان حال اللبناني كان: أتركونا نعيش بسلام.
لسان حال اللبناني صار: أتركونا نموت بسلام.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى