اشتهر أميتاف غوش، الروائي الهندي، بثلاثيته «طائر أبو منجل» التي ظهر الجزء الأوّل منها «بحر الخشخاش» في 2008، قبل أن يستكملها في «نهر الدّخان» عام 2011، ويختمها بـ«فيضان النار» في 2015. وقد حاز هذا العمل نجاحاً تجاريّاً مرموقاً، وأشاد به النقّاد لصوته المتحرر من المزاج الغربيّ وعمق أبحاثه في تاريخ منطقة المحيط الهندي خلال ثلاثينات القرن التاسع عشر الميلادي، فيما يتم الإعداد لتحويله إلى مسلسل تلفزيونيّ ضخم.
لكن تتويج هذه الثلاثية جاء على شكل نصّ تاريخيّ غير خيالي أطلق عليه اسم «الدّخان والرّماد: تاريخ الأفيون الخفي». ويسجّل خلاصة المعارف التي حصلّها غوش من خلال تحضيره لعمله الروائي. ويسرد فيه، عبر مزيج من الشخصيّ والعام والأرشيف، حكاية تجارة الأفيون بين الهند والصين وبريطانيا. متتبعاً خيوطها الخفيّة التي حكمت حياة ملايين الأشخاص. ولا تزال امتداداتها موجودة إلى اليوم في أصول بعض أكبر الشركات والعائلات والمؤسسات في العالم، لا سيّما الولايات المتحدة.
تحويل عصارة الخشخاش إلى أفيون وخصائص مسكنات الأفيون
عرف الأطباء والعشابون خصائص مسكنات الأفيون منذ أزمنة قديمة. وكان عقاراً مفضلاً لدى العديد من السلالات الحاكمة في التاريخ. لكن استخدامه لم ينتشر على نطاق واسع حتى القرن التاسع عشر، عندما تم تبسيط عمليات الزراعة والتصنيع الشاقة والمتطلبة. حيث يستغرق تحويل عصارة الخشخاش إلى أفيون قابل للاستخدام ما يقرب من عام كامل.
على أن غوش يبدأ سرديته عن الأفيون من الشاي، إذ بحلول القرن الثامن عشر، أصبحت إنجلترا تعد هذه النبتة التي عرفها الصينيون منذ أكثر من ألف عام بمثابة مشروب قوميّ للبلاد. لدرجة أن الرسوم الجمركيّة التي كانت تحصلها السلطات على الواردات منه شكلت ما يقرب من عشر إيرادات المملكة خلال معظم فترة الثورة الصناعيّة. ومكنّتها من تمويل حروبها الاستعمارية العديدة. ومع ذلك فإن إمدادات الشاي من الشرق تسببت لبريطانيا بضغوط كبيرة من جهتين: الأولى ضرورة استمرارية الشحنات بالتقاطر إلى لندن دون انقطاع. أما الثانية فكانت العجز التجاري الفادح مع الصين التي كانت تصدّر للمملكة الشاي دون أن تحتاج إلى استيراد شيء منها بالمقابل. وللتعامل مع مسألة الإمدادات، فرض البرلمان قانوناً يتطلب من «شركة الهند الشرقية» الاحتكارية الاحتفاظ بإمدادات تكفي لمدة عام على الأقل في المخزون. فيما تفتق العقل الاستعماري البريطاني عن فكرة حل مشكلة عجز الميزان التجاري من خلال تصدير الأفيون إلى الصين من مستعمرتها الهنديّة.
زراعة زهرة الخشخاش
ينسف غوش في «الدخان والرماد» الزعم البريطاني بأن الأفيون كان بمثابة مخدر محلي تقليدي في الهند وسمة عريقة للحياة فيها. وينفي بشكل حاسم إمكان نشوء صناعة بهذه الضخامة في شبه القارة عن طريق الصدفة. وهو يورد ما يشير إلى أن زراعة زهرة الخشخاش – التي يصنع منها الأفيون – لم تكن من تقاليد البلاد قبل أن يؤسس البريطانيون «دولة مخدرات» حقيقية في ستينات القرن الثامن عشر لأغراض التصدير إلى الصين.
تدريجيّاً، وفق غوش، أصبحت إدارة تجارة الأفيون بمراحلها من الزراعة إلى التصنيع إلى التصدير محور حياة عدة ملايين الأشخاص في كل شرقيّ آسيا. فغير أكثر من مليون أسرة فلاحيّة تفرّغت بالكليّة لزراعة زهرة خشخاش الأفيون الأبيض. كانت هناك بيروقراطيّة متطورة ومنظومة أمنية تدير عمليات جمع المحصول ونقله كمادة خام إلى المصانع الضخمة، قبل تسليمها جاهزة للتصدير إلى تجار يتولون نقلها باتجاه الصين.
خشي الحكام الصينيون من آثار الأفيون على مواطنيهم الذين تفشى فيهم الإدمان، ففرضوا حظراً جزئياً على استيراده عبر الحدود والموانئ منذ عام 1729. وذهب ممثل للإمبراطور إلى مركز تجارة الأفيون وأجبر التجار البريطانيين والأميركيين على تسليم مخزونهم من المخدّر الذي تجاوز حينها ألف طن وقام بإحراقه في احتفالية كبيرة شهدها الآلاف من المواطنين. إلا أن البريطانيين نقلوا منتجهم من المصانع في شرقي وشمال الهند إلى كلكتا. حيث كان يباع بالمزاد العلني إلى تجار من القطاع الخاص يتولون تهريبه عبر القوارب إلى جنوب الصين، حيث يشتريه منهم هناك المهربون المحليّون.
تجارة الأفيون تسببت في حروب بين الصين مع كل من بريطانيا وفرنسا
وقد تسببت هذه التجارة تالياً في حربين بين الصين وبريطانيا. أولاهما في 1840 – 1842 وكان من نتائجها أن أصبحت هونغ كونغ مستعمرة بريطانيّة ورأس جسر لتوزيع الأفيون عبر الصين. واضطر الإمبراطور الصيني وقتها تحت الضغط العسكري لتوقيع اتفاقية مع لندن تفتح أبواب أسواق بلاده للتجار الأوروبيين والأمريكيين. والحرب الثانية في 1856 – 1860. انضمت فيها فرنسا إلى بريطانيا. واضطرت في أثرها الصين إلى الخضوع مجدداً وتوقيع اتفاقيّة تمنح كلاً من بريطانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة امتيازات تجاريّة عبر خمسة موانئ رئيسية. شملت رفع القيود عن تجارة الأفيون وحريّة إقامة رعاياها في بكين، وكذلك حريّة التبشير بالدين المسيحيّ في أرجاء البلاد.
وبعد تردد الإمبراطور في التصديق على الاتفاقية اندفعت القوات البريطانية والفرنسية عبر الأراضي الصينية. فنفذت مذابح بشعة. كما وقضت على المقاومة بالقوة الغاشمة أيضا. ودخلت طلائعها بكين في عام 1860 ونهبت المقر الصيفي للإمبراطور وأضرمت فيه النار. لتفتح الباب على مصراعيه لنشر تعاطي الأفيون بين الصينيين الذين ارتفع عدد المدمنين من بينهم إلى 120 مليوناً سنة 1878. بعد أن كان عددهم أقل من مليوني مدمن عام 1850. ولتبقى هذه الآفة مستشرية في طول البلاد وعرضها حتى مطلع القرن العشرين. عندما قضي على تعاطيه نهائياً في عهد الزعيم الشيوعيّ ماو تسي تونغ.
انعكاس تجارة الأفيون في عدد المؤلفين والأدباء البريطانيين المشهورين
ينعكس الحجم الهائل لتجارة الأفيون في عدد المؤلفين والأدباء البريطانيين المشهورين. الذين يرد ذكرهم في نص غوش . الذي كان أسلافه بدورهم قد استقروا في شابرا الهنديّة للعمل في حسابات الأفيون المكتوبة باللغة البنغاليّة . فهناك روديارد كيبلينغ الذي شوهد متجولاً في أحد مصانع هذا المخدّر. وجورج أورويل (إريك بلير) المولود في بيهار بالهند عندما كان والده نائباً لوكيل تجارة الأفيون في الإقليم. وأيضاً تشارلز ديكنز الذي كتب في تأييدها. لقد جمع العديد من الأوروبيين والأمريكيين ثروات طائلة. من خلال العمل بهذه التجارة في الصين لسنوات قليلة. قبل أن يعودوا إلى بلادهم لإنفاقها دون خجل محملين وزر إدمان الصينيين على ميلهم للشهوات وفسادهم الفطري.
وفي «الدّخان والرّماد». تفاصيل ملفتة حول تشابك عوائد تجارة الأفيون مع الفنون في هندسة المعمار وصناعة الأثاث وتنسيق الحدائق وحتى اللوحات الفنية. لكن الأكثر إثارةً ربما تكون تلك الارتباطات السلالية لأباطرة تجارة الأفيون من الأمريكيين . يطلق عليهم في الوثائق التاريخيّة اسم «بوسطن براهمينز» . الذين كان من أحفادهم شخصيات معروفة أمثال جون موراي فوربس وفرانكلين دي روزفلت.
أكبر مصانع إنتاج الأفيون في العالم ما زالت إلى يومنا في الهند
مأساة الشعبين الصيني والهندي التي أطلقها الوحش الاستعماري الغربيّ على شكل تجارة الأفيون ربما تكون قد تقلصت الآن. بفضل نضالات الشعبين وتراكم إنجازاتهما . مع أن أكبر مصانع إنتاج الأفيون في العالم ما زالت إلى يومنا في الهند كما يقول غوش -. ومع ذلك، فإن الإرث الأكثر ديمومةً لمغامرة الغرب المشؤومة تلك ما زال شاخصاً حتى وقتنا الراهن كوباء عالمي في إدمان المواد الأفيونية. التي بأشكالها المختلفة أودت مثلاً بحياة أكثر من نصف مليون أميركي في العقد الماضي وحده.
لقد أطلقت «بوسطن براهمينز» و«شركة الهند الشرقية» جنيّاً مجرماً لم يتمكنوا مطلقاً من إعادته إلى قمقمه. إذ اعتقدوا أن بإمكانهم إبقاء الأفيون تجارة لاستغلال الشرقيين «الكسالى الذين يميلون بشكل طبيعي إلى الرذيلة»، لكنهم انتهوا أن جلبوا الكارثة معهم إلى بلادهم. ونتساءل اليوم مع غوش ما إذا كانت البشرية ستتمكن يوماً من هزيمة هذه الزهرة المتطلبة القاتلة!
صحيفة الشرق الأوسط