المسألة ليست مضحكة أبداً، وليست نوعا من السخرية من أحد، وأيضا لاتحمل أي إساءة للسادة المسؤولين وخاصة وزراء الإعلام والثقافة والمالية ، ولكن السؤال يفرض نفسه من خلال ضرورة التنبيه إلى أن المسألة غدت في صلب اهتمام المجتمع ، وخاصة إذا عرفنا أن العقل العربي في خطر، والذي يشكل هذا العقل هو الثقافة والإعلام والفن والأدب.
الفكرة هاجمتني وأنا في السوق بعد أن قبضت ثمرة أتعابي عن إنجاز عمل ثقافي، فاكتشفت أن كل ما قبضته لم يشتر لي سوى نصف كيلو لحمة، ابتسمت وأنا أستعيد بعض ما نشر عن قبض عدد من الفنانين في مسلسل من (عصر التفاهة) مبالغ تتراوح بين 400 ألف ومليون دولار أي مايزيد عن مردود مبدعي الحركة الثقافية كلهم في أي بلد عربي.
اللهم لا حسد، ولا تقليل من قيمة فنانينا الكبار، رغم احتجاجي على مضامين أعمالهم، ودخول الكثيرين منهم في عصر التفاهة، فالفن مهنة تدر الكثير في هذا العصر، ولكن في الوقت نفسه ينبغي أن نسأل عن مفكرينا وكتابنا وصحفيينا، هل هم بخير؟
هل المثقف بخير؟! هل الثقافة بخير؟ هل الفكر بخير؟ هل الصحافة بخير؟
المسألة تحتاج إلى إعادة توازن للمنطق الاجتماعي والثقافي والتنويري، على الأقل من جهة المصارحة بالجواب على سؤال : هل نحن بحاجة إلى مثقفين وكتاب وصحفيين وفنانين ملتزمين أم لا ؟
إذا كان الجواب (لا) ، فالمسألة بسيطة، سيتجه هؤلاء جميعاً إلى (خستخانة) الفن، فيغسلون دماغهم، ويعتمدون على الحل السحري ودخول (العصر) الذي نتحدث عنه ، لتحقيق الحد الأدنى من فرص العيش، لكن أحدا من هؤلاء لن يقبل وسيظل يسعى ليعيش بكرامة وليستمر في عطائه والتزامه .
أنا شخصيا طرحت هذا السؤال على المسؤولين، وأنصتوا باهتمام، لكن من دون جواب مقنع، وعند سماعي لأحد الأجوبة وقد أدلى به مسؤول ثقافي أمام ملأ من الكتاب، قال إنه يتضامن مع الفكرة لكن المعنيين في وزارة المالية لايوافقون في تعديل الموازنات!
وهنا ينبغي أن لا نظلم وزير المالية، بل نحاول سماع رأيه، (فعلا نريد سماع رأيه، هل هو السبب؟) وهو الذي رحب بكل التسهيلات للفنانين والإنتاج الدرامي أمام ورشة الدراما في فندق الشام قبل أكثر من عام وبتوجيه وحضور السيد رئيس الحكومة..
إذن لابد من سماع رأيه بشأن البخل على المبدع والمثقف السوري والكاتب والصحفي، علما أن التوجيهات واضحة بدعم الثقافة والفن والأدب..
أيضا ثمة سؤال يفرض نفسه لماذا تأخذون ضريبة كبيرة على المنجز الثقافي (الراوية أو ديوان الشعر) تعادل أحيانا 15 %، ولماذا لا تعدلون القانون الضريبي للتخفيف عن الكاتب؟
الحرب هي السبب، ومن الصعب على كل وطني، أن ينكر آثار هذه الحرب على السوريين، وعلى الصمود الأسطوري للشعب السوري وهو يحتمل آثار الحرب على مقدراته وفكره وبناه الاجتماعية..
وإذا كانت الحرب هي السبب، فلابد عندها من التفكير جدياً بحل، وقد أخبرني أحد كبار المثقفين، وقد انتهت الحرب، أنه دخل مع صديق له إلى مقهى وشربا قهوة وماء فقط، وكانت الفاتورة أكثر من مئة وخمسين ألف ليرة أي ما يعادل التقاعد الشهري لستة صحفيين أو خمسة كتاب من اتحاداتهم، فضحكت وتأسفت في وقت واحد على أولئك الذين يسهرون يومياً في أحدث المطاعم ويأكلون ويشربون ثم تأتي الفاتورة، تأسفت لأن عليهم ببساطة أن يحملوا كيساً من النقود بثقل كيلو بطاطا ليدفعوا الفاتورة، اللهم كن بعونهم على حمل ثمن الفاتورة!
هذه فرصة للقول صراحة إن هناك مفارقة كبيرة في منطق الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ، فالكاتب أو المثقف أو الصحافي يحتاج لنشر مادة ثقافية أو أكثر ليسد ثمن أوقية لحم ، وعندها تجوز عليه الصدقة (!!!).
لاحظوا أن الزاوية ليست ساخرة، بل مأساوية، واتحاد الكتاب مثلا يحاول تدارك الأمر، ويسعى إلى تحسين الموارد، وقد ضاعف التعويضات للكتاب، لكن المقدرة الحقيقية أو الواقعية للاتحاد لا تحل المشكلة ، ستظل قائمة لأنها في صلب المعاناة ، وهي معاناة تشمل الجميع !
بوابة الشرق الأوسط الجديدة