هل ترامب فعلاً ضد الدولة العميقة؟
على الرغم من الخسارة غير المتوقَّعة، والتي مُني بها الحزب الجمهوري، وخصوصاً المرشحين المدعومين من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، فإن الأخير أعلن نيّته الترشح للرئاسة عام 2024، الأمر الذي عدّه وزير العدل الأميركي “ظروفاً استثنائية” تسمح له بتعيين جاك سميث، المدعي العام السابق في جرائم الحرب في كوسوفو، للتحقيق في الاتهامات ضد ترامب، بسوء التعامل مع السجلات الحكومية، ودوره في أحداث 6 كانون الثاني/يناير 2021.
وكانت نتائج الانتخابات النصفية المحبطة للجمهوريين، وقيام عدد منهم باتهامه بالتسبب بالخسارة، بالإضافة إلى صدور تصريحات ضده من مسؤولين جمهوريين سابقين وحاليين… أدّت إلى قيام عدد من أنصار ترامب في الداخل الأميركي وفي العالم باتهام “الدولة العميقة” الأميركية بمحاربة ترامب؛ الاتهام الذي عزّزه إعلان ترامب “تعهُّدَ تفكيك الدولة العميقة وإعادة الحكم إلى الشعب”، بحسب تعبيره.
أمام هذه الشعبوية الترامبية، تحضر أسئلة ثلاثة:
1- ما هي الدولة العميقة الأميركية؟
2- هل ترامب فعلاً ضد الدولة العميقة؟
3- هل تسعى الدولة العميقة لإطاحة ترامب حالياً؟
ما هي الدولة العميقة الأميركية؟
بعكس الاعتقاد الشائع، ومفاده أن الدولة العميقة الأميركية هي “مجتمع الاستخبارات” حصراً، فإن الدولة العميقة هي أبعد وأوسع وأكثر شمولاً لقوى نافذة أخرى، قادرة على ممارسة التأثير والنفوذ، أكثر من مجتمع الاستخبارات والأمن.
إن الباحث في هيكلية التأثير في الحكم في الولايات المتحدة يجد أن هناك مجموعة مختلطة ومركّبة من عناصر حكومية واستخبارية وجماعات مالية وصناعية وعسكرية وإعلامية، قادرة على التأثير في قرارات حكام الولايات المتحدة الأميركية، وأبرزهم وول ستريت، سيليكون فالي، المجمع الصناعي العسكري، وكالات الأمن القومي، البنتاغون، شركات النفظ العملاقة، وغيرها.
ويعتقد فرنسيس فوكوياما أن النظام الأميركي كرّس آلية استخدام الفيتو، ومنحها لمجموعات نافذة تستطيع أن تضع فيتو ضدّ أي إجراء قد يضرّها، الأمر الذي يجعل إمكان تحقيق الصالح العام صعباً جداً. وبات النظام يعمل لمصلحة قوى المال والأعمال، وليس من أجل الشعب أو المصلحة العامة.
هل ترامب فعلاً ضد الدولة العميقة؟
إن التدقيق في إداراته ومساعديه والمصالح التي سعى لأجلها، خلال فترة ولايته، يشير إلى أن ترامب كان يمثّل مصالح أجنحة من الدولة العميقة بينما تعمل ضده أجنحة أخرى. بمعنى آخر، كانت انتخابات عام 2016 عبارة عن صراع أجنحة ضمن الدولة العميقة نفسها، وليس من خارجها أو ضدها، أدّت إلى وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
لقد تحالفت إدارته مع عدد من عمالقة المال في وول ستريت، ومجموعات النفط، وخصوصاً النفط الصخري، بالإضافة إلى مجموعة من الجنرالات، ومن أصحاب نظريات الإسلاموفوبيا، والقوميين البيض، والكنائس الإنجيلية المحافظة.
وكانت إدارته تضمّ عدداً من الناس القادمين من عالم الأعمال، والفاحشي الثراء، ومجموعة من متعهدي الشركات الأمنية الخاصة، وخبراء في العمل في وول ستريت والبنوك ومجموعة روتشيلد، وليمان برزر Lehman Brothers’، وغيرهم.
هل تسعى الدولة العميقة لإطاحة ترامب حالياً؟
إن التأييد والدعم الممنوحين لترامب، من قوى في النظام الأميركي، ليسا من دون حساب، ويرتبطان بالمصلحة فحسب، ولا مانع من سحب التأييد إن تبدلت المصلحة.
على سبيل المثال، كان تحالف ترامب مع شركات النفط الصخري محورياً، فلقد انسحب ترامب من أجلها من اتفاقية باريس للمناخ. وما اعتراف ترامب بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، إلّا لخدمة شركة النفط الأميركية، “جيني” (ديك تشيني، روتشيلد، ماردوخ…)، التي استحصلت على عقود استخراج النفط هناك منذ نحو عقد من الزمن. لكن شركات النفط الأميركية نفسها استفادت من الحرب الروسية الأوكرانية، وشراء الأوروبيين النفط والغاز الأميركيَّين بأربعة أضعاف السعر العالمي، بعد أن أعلنوا خطة التخلص من الاعتماد على الطاقة الروسية، وهو أمر لم يستطع ترامب أن يحقّقه على الرغم من كل التهديدات التي أطلقها بسحب القواعد الأميركية من أوروبا، والتنمّر ضد ميركل.
إنّ رفض ترامب نتائجَ الانتخابات الرئاسية عام 2020، ومحاولة الانقلاب عليها عبر تشجيع أنصاره على دخول الكونغرس، والادّعاء أن الانتخابات مزوّرة ومسروقة لغاية اليوم… إلخ، إن هذه الممارسات السابقة تدقّ ناقوس الخطر لما يمكن أن يكون عليه الموقف عام 2024، في حال خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية.
في حال خسارته الانتخابات مرة أخرى عام 2024، فإن السيناريو المرجَّح هو إعلان ترامب أن الانتخابات سُرقت مرةً أخرى، ودعوته إلى العصيان، وعدم الاعتراف بشرعية الرئيس الأميركي، الأمر الذي قد يؤدي إلى فرز عميق وخطير في أميركا، يمكن أن يدفع إلى احتمال مطالبة بعض الولايات بالانفصال، أو قيام بعض العسكريين والجنرالات برفض أوامر “القائد الأعلى للقوات المسلحة”، المطعون في شرعيته، أو قيام اشتباكات مسلحة وحرب شوارع… إلخ.
لذا، فإن هذا السيناريو يجعله تهديداً للديمقراطية الأميركية ككل، وليس فقط تهديداً لمصالح أطراف الدولة العميقة، التي تستفيد من الهيمنة الأميركية في العالم.