هل تعيد ألمانيا عقارب الساعة مع موسكو إلى الوراء؟
ربما أظهرت الأزمة الحالية في أوكرانيا، في بعدها العسكري، حجم المفارقات التاريخية التي ما زالت تضرب بجذورها في النسيج الأوروبي، بشكل يجعل من الجائز القول إنَّ “عداوات” الحرب العالمية الثانية لم تختفِ ولم تخبُ جذوتها، رغم مرور عقود طويلة على انتهاء العمليات الحربية في أوروبا في العام 1945.
إنَّ العلاقة بين موسكو وبرلين يمكن اعتبارها من أمثلة هذه المفارقات؛ فكما يبدو، قد يكون لموسكو – التي كانت يدها سابقاً سباقة في إنهاء الرايخ الألماني الثالث – دور في إعادة تشكيل الذهنية العسكرية الألمانية، لتصبح في مرحلة تبتعد فيها رويداً رويداً عن النهج المبالغ في “السلمية”، والذي كان سائداً منذ توحيد شطري البلاد عقب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.
بدأ التحرك العسكري الروسي في أوكرانيا أواخر الشهر الماضي، وكان بمثابة شرارة تغير لافت وجذري في الذهنية الحكومية الألمانية حيال التسلح والتعاطي العسكري مع الوسط الإقليمي، ألقت مزيداً من الضوء على الحالة المتردية التي وصلت إليها القوات المسلحة الألمانية على مستويات مختلفة، وخصوصاً في ما يتعلّق بالتسليح والجهوزية القتالية والموارد المالية واللوجستية المتوفرة، وهي الحالة التي بدأت بالتشكل والظهور خلال حقبة المستشارة السابقة إنجيلا ميركل، وساهمت بشكل أساسي في عجز برلين عن تقديم المساعدات العسكرية الملائمة للجيش الأوكراني خلال الأزمة الحالية مع روسيا.
على هذه الخلفية، يمكن أن نقرأ القرارات الأخيرة التي أصدرها المستشار الألماني أولاف شولتس، والتي تجاهلت الرفض الذي شاب مواقف الأحزاب الألمانية المشاركة في الترويكا الحكومية الحالية من مسألة رفع النسبة المخصصة للدفاع ضمن الميزانية العامة الألمانية، إذ تجاوبت هذه القرارات مع مطالبات وزيرة الدفاع الألمانية وما طالب به أيضاً سابقاً رئيس رابطة الجيش الألماني برفع هذه النسبة إلى 2%، عوضاً عن 1.5%، خلال الميزانية الحالية، لدفع عجلة تحديث القوة العسكرية الألمانية، والتي يتوقع أن تشمل الجانب التصنيعي والجانب التسليحي، وخصوصاً في ما يتعلق بالقوة المدرعة والقوة الجوية، كما ستساهم هذه الزيادة في تسهيل مهمة الاستدعاء المحتمل لنحو 20 ألف جندي احتياط ألماني خلال المدى المنظور، في حال استمرّ التدهور الحالي في شرق أوروبا.
التشعّبات الناتجة من تداعيات الأزمة الأوكرانية فتحت الباب أمام نقاشات داخلية واسعة في ألمانيا بشأن ملف القسم المخصص للشؤون الدفاعية في الموازنة الألمانية العامة، وكذا ملفات أخرى، منها السياسة الألمانية المتبعة في ما يتعلَّق بنوعيات الأسلحة والذخائر الألمانية الصنع التي يتم تصديرها أو تقديمها كمساعدات، وكذا ملف واقع الجهوزية الحالية للقوات المسلحة الألمانية، سواء المتعلقة بالأفراد وتدريبهم أو بالحالة العملياتية للأنظمة الهجومية والدفاعية الرئيسية في الجيش الألماني، وهي جميعها ملفات تم طرحها بشكل أو بآخر خلال السنوات الماضية، لكن لم تتوفر في هذه السنوات الإرادة السياسية المطلوبة – أو الدواعي الاستراتيجية أو العسكرية – اللازمة للتجاوب الكافي مع المعضلات التي شابت هذه الملفات.
مقاتلات “إف-35”.. عودة إلى الخيار “المرفوض“
لعلَّ من النقاط اللافتة في هذه “الصحوة” الألمانية هي الوتيرة المتسارعة للخطوات المتعلقة بملفّ تسليح الجيش الألماني، إذ أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبرخت، خلال بيان مشترك مع رئيس أركان القوات الجوية الليفتنانت جنرال إنغو غيرهارت، عزم برلين على شراء ما يصل إلى 35 مقاتلة أميركية من نوع “أف-35″، وهو إعلان جاء مفاجئاً بشكل كبير، بالنظر إلى عدة عوامل، من بينها أنَّ سلاح الجو الألماني كان قد عزف – بعد سنوات عديدة من الدراسة – عن خططه السابقة لشراء هذه المقاتلة.
بداية هذا الملف الفعلية كانت في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، حين أعلنت ألمانيا تقديمها طلباً إلى الولايات المتحدة الأميركية للحصول على عرض أسعار خاص بمقاتلات الجيل الخامس “أف-35″، وذلك ضمن مساعي سلاح الجو الألماني لاستبدال نحو 85 مقاتلة متقادمة من نوع “تورنيدو”، ونحو 33 مقاتلة من النسخ الأولى من مقاتلات “تايفون”.
هذه المساعي لم تكن بسبب تقادم هذه المقاتلات فحسب، بل أيضاً بسبب تعارض جهوزية هذه المقاتلات الفنية الحالية مع التزامات سلاح الجو الألماني مع حلف الناتو، والتي تقتضي وجود أعداد وفيرة من المقاتلات المجهزة لحمل القنابل النووية التكتيكية “بي-61″، للعمل ضمن قوة الرد السريع الجوية الخاصة بالحلف، والتي يتم تفعيلها في حالة وقوع هجوم بأسلحة نووية على دول الحلف.
خيار شراء مقاتلات “أف-35” أثار حينها جدلاً كبيراً في الأوساط العسكرية والسياسية الألمانية، إذ أعلنت بعض هذه الأوساط – بشكل علني – تأييدها شراء هذه المقاتلات، وذلك يشمل رئيس أركان القوات الجوية الألمانية، اللفتنانت جنرال كارل مولنر، الذي أيد هذه الخطوة بوضوح، في حين عارضت بعض أوساط وزارة الدفاع الألمانية – مثل نائب وزيرة الدفاع رالف براكسيبي – هذا التوجه.
في نهاية المطاف، اضطر رئيس أركان القوات الجوية الألمانية إلى الاستقالة في أيار/مايو 2018 على خلفية هذا الملف، وأعلنت الحكومة الألمانية حينها أنه سيتم الاختيار بين مقاتلات “تايفون” ومقاتلات “أف-18” لاستبدال المقاتلات المتقادمة في سلاح الجو الألماني.
وقد ترافق ذلك مع حملة للتقليل من إمكانيات مقاتلات “أف-35” الأميركية؛ ففي تشرين الأول/أكتوبر 2018، أعلنت شركة “Hensoldt” الألمانية لنظم الرادار أنَّها تمكّنت من رصد مقاتلتين من نوع “أف-35” لمسافة تصل إلى 150 كيلومتراً أثناء مغادرتهما الأجواء الألمانية بعد مشاركتهما في معرض برلين الجوي.
القرار الأخير من جانب برلين للعودة مرة أخرى إلى خيار شراء مقاتلات “أف-35” يتناقض بشكل صارخ مع مواقفها السابقة من هذا النوع من المقاتلات، وهو ما قد يطرح فرضية تعرض الحكومة الألمانية لضغوط أميركية كبيرة على خلفية تفجر الموقف الحالي في أوكرانيا، في ظل تعثر المفاوضات بين شركة “داسو” الفرنسية و”شركة “إيرباص” الأميركية بشأن مشروع المقاتلة الشبحية المستقبلية، المعروف باسم “FCAS”. الضغوط الأميركية ربما تعود بشكل أساسي إلى ضعف المساهمة الألمانية في الجهود الداعمة لأوكرانيا على المستوى العسكري.
خوذ برلين وتهكّم أوروبا
ربما كانت سخرية رئيس بلدية العاصمة الأوكرانية كييف من المساعدات العسكرية الألمانية التي تم تقديمها لبلاده قبيل بدء الهجوم الروسي على الأراضي الأوكرانية بمثابة تعبير واضح من جانب قسم كبير من الدول الأوروبية عن “خيبة الأمل” من ضآلة المساهمة الألمانية في الجهود الأوروبية لدعم أوكرانيا في مواجهة موسكو على المستوى العسكري، فقد اقتصرت المساهمة الألمانية في هذا الإطار – حينها – على تقديم 5 آلاف خوذة قتالية، إلى جانب معدات خاصة بمستشفى ميداني تم التبرع بها مع أستونيا.
ضآلة هذه المساعدات أثارت ردود فعل غاضبة في الداخل الأوروبي، بالنظر إلى أن أوكرانيا قدمت لبرلين في أواخر كانون الثاني/يناير الماضي قائمة بالمساعدات العسكرية التي تحتاجها، تتضمن 100 ألف خوذة قتالية، ودروعاً واقية للأفراد، وصواريخ مضادة للدبابات، ووسائط خاصة بالعمليات البحرية والجوية.
يُضاف إلى ذلك أنَّ مقارنة هذه المساعدات بما قدّمته دول أوروبية أخرى، مثل بريطانيا وليتوانيا وإستونيا وبولندا، تجعل ما قدمته ألمانيا هامشياً للغاية بالنسبة إلى كييف في هذه المرحلة. بطبيعة الحال، كانت أسباب الموقف الألماني تتعلَّق بشكل أساسي بالسياسة التي كانت تتبعها برلين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في ما يتعلق بمساهماتها العسكرية الخارجية، سواء عبر إرسال الأسلحة أو إرسال القوات، والتي كانت تقتضي عدم الانخراط في أي صراع عسكري خارجي. ولهذا، كان من المنطقي أن ترفض ألمانيا أيضاً إرسال دول أخرى أسلحة ألمانية الصنع إلى أوكرانيا، مثل رفضها إرسال أستونيا قطعاً مدفعية ألمانية إلى كييف كانت قد اشترتها سابقاً من فنلندا.
هذه السياسة تعد من أمثلة التناقضات الكبيرة في الاستراتيجية الألمانية بشكل عام، فبرلين التي تعتبر رابع أكبر مصدر للأسلحة حول العالم، بحجم مبيعات بلغ نحو 9 مليارات يورو خلال العام المنصرم، كانت مترددة بشكل واضح في مساعدة كييف على المستوى التسليحي في ظل الظروف الحرجة الحالية؛ ففي بداية شباط/فبراير الماضي، قالت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبرخت، إنَّ بلادها ليس لديها أي خطط أخرى لتزويد أوكرانيا بالأسلحة، لكن في نهاية الشهر تراجعت الحكومة الألمانية عن هذا الموقف، وأعلنت أنها سترسل من هولندا وإستونيا نحو ألف مدفع مضاد للدبابات، و500 صاروخ كتفي مضاد للطائرات من نوع “ستينجر”، إلى جانب السماح لهولندا بتصدير 400 راجمة صواريخ ألمانية الصنع إلى أوكرانيا، وفك الحظر الذي فرضته ألمانيا على تصدير أستونيا مدفعية الميدان الألمانية الصنع إلى كييف.
ضآلة المشاركة الألمانية في هذا الإطار كانت سبباً أساسياً في تنامي الشعور الداخلي في البلاد بوجود مشاكل كبيرة في ما يتعلق بالقدرات التي تمتلكها القوات المسلحة الألمانية، وخصوصاً أن برلين تبحث حالياً في كيفية تقديم مساهمة أكبر في وحدات حلف الناتو المتمركزة في خط الدفاع الأول أمام روسيا “بحر البلطيق”، لكنَّ هذا يقتضي تقليل الوجود العسكري الألماني في مناطق أخرى لتوفير الوحدات والمعدات اللازمة لتقديم هذه المساهمة، نظراً إلى عدم وجود احتياطي قتالي جاهز على مستوى العدد والعدة.
بشكل عام، يمكن القول إنَّ التعديلات الأخيرة في السياسة الألمانية حيال إرسال الأسلحة “الفتاكة” إلى ساحات الصراع العسكري تعدّ تغييراً جذرياً في الذهنية الألمانية المتبعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكنها في الوقت نفسه ألقت الضوء على ملف الحالة العملياتية للجيش الألماني، وهو ملفّ تم طرحه مراراً خلال حقبة المستشارة أنجيلا ميركل، ولكنه تعزّز في هذا التوقيت، بعد أن اتّضح للأوكرانيين أنَّ ألمانيا لم تزودهم بالأسلحة والمنظومات القتالية المطلوبة، لأن الجيش الألماني نفسه يفتقر إلى هذه المنظومات أو على الأقل يمتلكها، ولكنها غير صالحة للاستخدام القتالي.
الجهوزية القتالية.. معضلة أساسية أمام برلين
الأوضاع القائمة حالياً في الوحدات العسكريّة الألمانيّة كانت مثار انتقادات داخلية عديدة، وباتت هناك نظرة مغايرة إلى الجيش الذي تم تقييد أدواره الخارجية بقيود عدة في مرحلة ما بعد إعادة تشكيله في العام 1955.
وقد ظلَّت هذه القيود سارية في الوقت الحاضر، رغم أنَّ دور الجيش الألماني في عمليات حلف الناتو تطور بشكل متدرج منذ انسحاب فرنسا من قوة حلف الناتو المشتركة منتصف ستينيات القرن الماضي.
واستتبع ذلك مشاركة الوحدات الألمانية في عدة مهمات عسكرية خارجية، شملت أفغانستان وكوسوفو ولبنان والبوسنة. هذه القيود – على المستوى المالي والخططي – حوَّلت المؤسسة العسكرية الألمانية إلى مؤسّسة تقليدية لم تتكيّف مع التطورات المتلاحقة على المستوى الدولي، وظلت منهكة بفعل قلّة الموارد.
اتَّضحت صورة الوضع السيئ لتسليح الجيش الألماني بشكل كبير في أواخر العام 2014. المفارقة هنا تتمثَّل بأن بدء اتضاح هذه الصورة كان مرتبطاً أيضاً بالملف الأوكراني؛ ففي هذه الفترة، وتحديداً شهر أيلول/سبتمبر، نفّذ حلف الناتو مناورة واسعة في النروج شاركت فيها كتيبة المشاة الميكانيكية الألمانية رقم 371، بعيد بدء المعارك في إقليم دونباس شرقي أوكرانيا.
وقد اتضح من مجريات هذه المناورة افتقار الكتيبة الألمانية إلى قسم كبير من أسلحتها الأساسية، إذ دخلت تلك المناورات من دون 30% من رشاشات “أم جي – 3” المتوسطة، ومن دون 40% من المسدسات الشخصية لأفراد الكتيبة من نوع “بي-8″، ومن دون نحو 3 أرباع أجهزة الرؤية الليلية الموجودة لدى هذه الكتيبة.
كَشْف النقاب عن هذه الحادثة تمّ بعد تلك المناورات بعدة أشهر، بعد أن ظهرت صور تشير إلى أنَّ جنود هذه الكتيبة اضطروا إلى وضع عيدان خشبية مطلية باللون الأسود على متن ناقلات الجنود المدولبة من نوع “بوكسر”، كبديل من الرشاشات المتوسطة التي تتسلَّح بها هذه الناقلات.
وقد أثارت هذه الحادثة حينها ردود فعل عاصفة في الوسط العسكري الألماني، إلى حد وصف فيه الجنرال هارالد كوجات، رئيس الأركان السابق للقوات المسلحة الألمانية، والرئيس السابق للجنة العسكرية لحلف الناتو، هذا الوضع بأنه “إحراج كبير”.
اتضحت الصورة أكثر خلال العام 2017، حين أصدر المفوض البرلماني للقوات المسلحة الألمانية، هانز بيتر بارتلز، تقريره حول الجهوزية العملياتية للجيش الألماني حتى أواخر العام 2016، وذكر فيه أنّ قدرة الانتشار السريع للوحدات القتالية الألمانية لم تتحسن خلال السنوات الأخيرة، بل ازدادت تدهوراً.
وتحدث التقرير أيضاً عن عدم جهوزية الغواصات الست التي تمتلكها البحرية الألمانية من طراز “تايب-212” للإبحار الفوري، وكذا عدم صلاحية طائرات النقل الثقيلة من نوع “إيرباص -إيه400” للتشغيل، وخضوعها جميعاً لعمليات إصلاح وإعادة تأهيل.
كذلك، تناول التقرير حالة الطائرات المقاتلة الرئيسية في سلاح الجو الألماني، وذكر أنَّ 42 من أصل 109 مقاتلات ألمانية من نوع “تايفون” صالحة للإقلاع والاستخدام القتالي، في حين تصلح 38 قاذفة فقط من أصل 89 قاذفة من نوع “تورنيدو” للإقلاع والتشغيل، علماً أنه في تشرين الأول/أكتوبر 2016، اتضح لسلاح الجو الألماني عدم فعالية هذه القاذفات في تنفيذ مهامّ الاستطلاع الليلي خلال مشاركة 6 قاذفات ألمانية من هذا النوع في عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” في سوريا والعراق، انطلاقاً من المطارات التركية.
المثير للدهشة في هذا الإطار أنَّ الجيش الألماني اكتشف في العام نفسه قصوراً شديداً في عمليات إحلال وتجديد الذخائر الخاصَّة به، إذ نفدت بعض أنواع الذخائر بشكل كامل، في حين تقلَّصت الكميات المتوفرة من أنواع أخرى.
تقرير المفوّض بارتلز – للعام 2019 – حمل صورة أكثر قتامةً للوضع التسليحي للجيش الألماني، وتحدَّث عن استمرار النقص الحاد في المهمات الفردية الأساسية للجنود الألمان، مثل الدروع الواقية وأجهزة الرؤية الليلية وأجهزة اللاسلكي، إلى جانب تدهور حالة أسطول طائرات النقل المروحية والقتالية، وخصوصاً مروحيات “تايجر”، إذ قام سلاح الجو الألماني في العام 2018 بإيقاف تشغيل أسطوله من هذا النوع، والمقدر بنحو 53 طائرة، إلى جانب 22 طائرة مضادة للغواصات من نوع “سي لينكس”.
إضافةً إلى ذلك، تحدث التقرير عن بطء عملية إدخال معدات جديدة إلى سلاح الجيش الألماني، فقد كان مقرراً بحلول العام 2019 أن يمتلك الجيش 71 عربة قتالية مدرعة جديدة من نوع “بوما”، لكنه لم يتسلم سوى 27 منها.
كما أن الفرقاطات الأربع الجديدة من الفئة “أف-125″، والتي كان من المفترض أن تكون جميعها في الخدمة بحلول العام 2019، لم تدخل منها في الخدمة حينها سوى فرقاطة واحدة، في حين دخلت الفرقاطات الثلاث المتبقية الخدمة في العامين 2020 و2021، وظلَّت، رغم دخولها الخدمة، محل شك في قدرتها على أداء كامل المهام المنوطة بها.
يبدو أنَّ هذه الأوضاع استمرَّت حتى وقتنا الحالي، فقد واجهت القوات الألمانية خلال عملية الانسحاب السريع من أفغانستان العام الماضي مشاكل كبيرة، وخصوصاً في ما يتعلق بتوفير وسائط النقل الجوية، ما دفع برلين إلى استئجار طائرات الشحن من دول أخرى مثل أوكرانيا. يُضاف إلى ذلك ما أظهرته التقارير الألمانية أواخر العام الماضي بشأن تقلص الجهوزية العملياتية للمروحيات الألمانية إلى حدود 40%، وتقلص الجهوزية القتالية لسلاح الجو الألماني بصفة عامة إلى 70%، ناهيك بالنقص الحاد في العربات المدرعة والدبابات، إذ ساهمت القيود التمويلية في خفض أعداد الدبابات الألمانية على مدار السنوات الماضية من نحو 3 آلاف دبابة في مطلع التسعينيات إلى نحو 300 دبابة فقط، يعاني قسم معتبر منها مشاكل ميكانيكية، وهذا كلّه يمكن وضعه في إطار سببي يمكن من خلاله تفسير العجز الألماني عن تزويد أوكرانيا بما تحتاجه من أسلحة ومنظومات.
التمويل العسكري.. مشكلة ألمانية مزمنة
أثار هذا الوضع بشكل عام ردود فعل علنية غاضبة داخل السلك العسكري الألماني، سواء عبر ما قاله قائد الجيش الألماني ألفونس ميس حول أنَّ الجيش الألماني “مكشوف تسليحياً وغير قادر على تقديم الكثير لحلف الناتو”، أو ما قالته وزيرة الدفاع السابقة أنغريد كارنباور، بشأن “الفشل التاريخي لألمانيا في ردع الروس”، أو حتى تحذير وزيرة الدفاع الحالية كريستين لامبرخت من وصول الجيش الألماني إلى أقصى حدود طاقته الاستيعابية ضمن الحدود المالية المخصصة له. يمكن بشكل رئيسي إيعاز الحالة المتردية للجانبين التسليحي والتدريبي للجيش الألماني إلى ملف الميزانية الدفاعية المخصّصة لتحديث الجيش الألماني، وهو ملفّ تختلط فيه الاعتبارات الداخلية في ألمانيا بالعلاقة بين برلين وحلف الناتو.
في العام 2014، اتفقت ألمانيا ودول حلف الناتو الأخرى على تخصيص ما نسبته 2% من الناتج المحلي لكلِّ دولة للإنفاق الدفاعي بحلول العام 2024. وقد شرعت معظم الدول الرئيسية في أوروبا في هذه الخطة، ووصل عدد كبير منها إلى هذا الحد وأكثر، لكن ظلَّت ألمانيا تتباطأ بشكل ملحوظ في تنفيذ هذا الاتفاق الذي قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعادة تأكيده في العام 2017، وهو ما أدى إلى توتر في العلاقات بين برلين وواشنطن، تصاعد في العام التالي بإعلان المستشارة الألمانية آنذاك إنجيلا ميركل أن ألمانيا لن تستطيع الوفاء بهذا الاتفاق في المدى المنظور، إذ بلغت نسبة المخصصات الدفاعية في الميزانية الألمانية للعام 2017 نحو 45 مليار دولار، أي ما نسبته 1.2% فقط من الدخل القومي لألمانيا.
عجز ألمانيا عن توسيع حجم المخصصات الدفاعية المالية جاء نتيجة للنظرة الداخلية إلى دور الجيش الألماني، سواء النظرة الشعبية أو النظرة الحزبية، إذ تظهر أغلب استطلاعات الرأي في ألمانيا أن الشعب الألماني يعارض أي انتشار خارجي للجيش الألماني، وهو ما يتوافق مع توجهات بعض الأحزاب الرئيسية في الحياة الحزبية الألمانية، مثل حزب “الاشتراكيين الديموقراطيين”.
هذا العجز جاء أيضاً بفعل قناعة الوسط الداخلي في ألمانيا بأنَّ المشكلة لا تكمن في عدم وجود مخصّصات مالية كافية، لكنْ بسبب عدم الاستخدام الأمثل للموارد المالية، وهو التقدير الَّذي وصل إلى إحدى الشركات الاستشارية المحاسبية التي قامت وزيرة الدفاع الحالية أورسولا فون دير في العام 2014 بتكليفها بالتحقيق في عمليات توقيع وإدارة بعض مشاريع التصنيع العسكري في البلاد.
خلاصة القول، تبدو ألمانيا على أعتاب مرحلة جديدة في ما يتعلَّق بقوتها العسكرية، وربما تكون المفارقة الكبرى في هذا الصدد أنَّ موسكو – التي كانت محوراً أساسياً من محاور إنهاء التجربة النازية في ألمانيا – تعد من أهم أسباب عودة برلين إلى الاهتمام بتحديث تسليحها العسكري، وربما تكون المفارقة الأكبر هنا أن تجد الطائرات الألمانية نفسها يوماً ما في مواجهة المقاتلات الروسية، في مشهد يعيد فيها التاريخ تمثيل مشاهد شهدتها أجواء شرق أوروبا خلال عمليات الجيش الألماني في الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية، لكن المؤكّد أن عملية تحديث الجيش الألماني ستستغرق سنوات طويلة، ربما يتمّ خلالها بشكل جذري – في ضوء نتيجة المبارزة الحالية في أوكرانيا – إعادة تشكيل ميزان القوى الدولي.
الميادين نت