الجدران قصتُها قصة في حياتي، فقد كانت أحدَ أهم الألغاز التي كنت أحاول حلّها وأنا طفل صغير، وهذه مسألة غريبة فعلا، فمنذ طفولتي إلى هذه الأيام حيث أنتظر النهاية، فرضت الجدرانُ نفسَها عليّ كلغز محيّر!
عندما كنت طفلاً سألتُ نفسي: ” لماذا عندما نضع شريطاً في المأخذ الموجود في الجدار يتوهج فيصنع ضوءاً؟ ودفعني هذا السؤال إلى تجارب خطيرة شاهدتها أمي بالصدفة، فصاحت بي وضربتني على يدي، فما كنت أفعله كان يمكن أن يصعقني بالتيار الكهربائي الذي كنت أبحث عنه بين الجدران!
والسؤال الأطرف الذي كان ينتابني وأنا طفل، وانتابني وأنا شاب، وينتابني الآن هو: كيف يمكن أن أرى ما خلف الجدار؟! وقد حاولت في إحدى المرات (وأنا في الزنزانة) رفع درجة التركيز، وظننت أنني كسبت الجولة مع الجدار، فحطمته وحولته إلى شفاف، ورأيت ما خلفه، ولن تصدقون !
المهم، أن هذه الأسئلة تحتاج إلى وقفات خاصة طريفة ومفصلة، لكن الأهم الآن هو أنني سأتحدث عن الجدار باعتباره المكان الذي نعلّقُ عليه الشهادات والصور وبطاقات التكريم واللوحات التشكيلية ناهيك عن صور الأسرة والروزنامة، وهذه آخر معاناتي معه، فهل تلاحقني هذه التيمة السحرية الساذجة من الأسئلة إلى أن أموت؟!
قررنا في لجنة البناء الذي أسكن فيه هذا العام، ترميم السطح وسد الثقوب التي يمكن أن تؤدي إلى دلف بسيط على بيتي وبقيّة البيوت، لأن البناء مصمم بطريقة (المسبق الصنع) وبالتالي، فإن تسرب الماء يمتد إلى الجميع، بالتتالي.
وبالفعل قمنا بتنفيذ العملية بدقة، ونفذ المختصون ماطلب منهم ، وما أن انتهينا حتى حل المنخفض الجوي الأخير ضيفا علينا، فلمع البرق ، وتدحرج الرعد ، وهطلت الأمطار الغزيرة دون توقف، وأنا مطمئن إلى أن سقف بيتي من حديد ، ركن بيتي من حجر ، كما تقول قصيدة تعلمتها في الصغر !
لم يمض وقت قصير حتى انهمرت المزاريب داخل بعض الغرف. دلفت السقوف فوقنا لأول مرة، فقبل ترميم السطح لم يكن يحصل ذلك إلا نادراً . بل إنه لم يحصل منذ سكنت البيت قبل أكثر من عشر سنوات !
وسريعا حاولنا تدارك الأمر، فعجزنا . وظلت المياه تتسرب ، ولم يخطر ببالي أن هناك مأساة ستحل ببعض الجدران، فما حصل من تسرب لم يكن من فوق ، وإنما من جنبات الغرف…
نعم عادت الجدران تفرض نفسها عليّ، ففي غرفة مكتبي التي أضحت غرفة لابنتي الغالية جالا، تسللت مياهُ الأمطار عبر الجدران في هجوم صاعق غير متوقع، وضربت أشياء تتعلق بذاكرتي وحياتي !
نعم ..
أتلفت المياه المتسربة كل شهادات التكريم التي حصلت عليها سواء في كتابة القصة أو الرواية أو مجال الأفلام التلفزيونية التي أشتغل عليها أحيانا. نعم أتلفتها كما يتلف شخصا عاقلاً شيئاً ما أغاظه ، فقرر أن ينتهي منه ولا يراه.
نعم حلّت بي كارثة . تسبب بها السيد (الجدار) .
هذا يجعلني أبوح لكم بالسر . أنا أكره الجدران . هذا التحدي بيني وبين الجدران سببه معروف. الجدران للدفء فقط وللسكن فقط، أما أن تكون لغير ذلك، فأنا لا أريدها، ولذلك تنتقم مني.
جربتها بطريقة قضّت مضجعي في شبابي. هذا السر اكتشفه الآن. وجدران هذا العالم الذي نعيش فيه قادرة على الانتقام، وأحيانا تنهار فوق أصحابها.. انتبهوا !