تبدو أميركا مضطرة إلى إقفال الحرب الدائرة، وهي تحاول من خلال ضغوطها على “إسرائيل” والعرب أن تكون الخاتمة ملائمة لهذين الطرفين فقط، من دون محور المقاومة والصين.
من أكبر مكامن الخطر في التحولات الحالية، التي يعيشها العالم، حقيقة أن صراعات متعددة مفتوحة في وجه الولايات المتحدة، في وقت متزامن، لا تستطيع الفوز بها، ولا يمكن لها تحمل خسارتها، بل خسارة واحدة منها على الأقل.
فمن أوكرانيا إلى الصين، مروراً بفلسطين، وبمعضلات الاقتصاد الدولي والمشكلات الداخلية، وغيرها عدد من الصراعات، ستكون خسارة الولايات المتحدة واحداً من هذه الملفات الكبرى دفعة تسارع كارثية على موقعها في النظام الدولي، ونفوذها ومصالحها على مستوى العالم.
ربما يقود ذلك إلى تفسير كثير من تفاصيل المواقف الأميركية المتوترة والمتخبطة في آن واحد. وتوضيح الإشكالية، التي تُسيل كثيراً من الحبر هذه الأيام، بشأن مدى قدرة واشنطن على فرض رؤيتها للحل على الكيان الإسرائيلي في حربه المسعورة على الفلسطينيين.
هذه الخطورة، التي تفرزها هذه المعضلة، والمخلصة بعدم قدرتها على الفوز أو الخسارة، هي بالتحديد ما يجعل الحرب متواصلةً على نحو يعاكس مصالح معظم اللاعبين فيها، بما فيها مصلحة حليفتها “إسرائيل”، التي لا يدرك قادتها مستوى خطر الكارثة التي يصنعونها على مستقبلهم، وعلى مستقبل المصالح الأميركية في المنطقة. وهم إن كانوا يدركون ذلك، فهم يواصلون حملتهم الإجرامية على أملٍ واحدٍ متبقٍّ، وهو أن يتمكنوا في نهاية المطاف من جر أميركا نفسها إلى الحرب مع فصائل المقاومة في المنطقة، أو مع إيران بصورة مباشرة. وهم إن كانوا يأملون ذلك، فهم ربما لا يعرفون المتغيرات الكثيرة التي طرأت في أعوام قليلة على شكل الحرب وتفاعلاتها، وما يمكن أن تذهب إليه فيما لو توسعت.
وبالتالي، هي مخاطرة شاملة، إما بخسارة الحرب الحالية بالنقاط وبصمود غزة ومحور المقاومة من خلفها، وإمّا بخسارة تشمل أميركا معهم في مواجهة أكثر اتساعاً، تتضمن إقفالاً للممرات المائية في المنطقة، وحصاراً شبه كامل على الكيان في البحار المحيطة، وفي الأجواء أيضاً، الأمر الذي سيقود في النهاية إلى تأكّل الاقتصاد الإسرائيلي أولاً، في الحضور والهيبة الأميركيين في المنطقة، وصولاً إلى خسارةٍ أميركية معممة في مجمل المنطقة، بعد مواجهة قد تمتد أعواماً. لكن هذا السيناريو سيكون مفيداً لرجل واحد هو بنيامين نتنياهو، الذي سيمدد فترة حكمه وبقائه خارج أسوار السجن، ليخوض الحرب الخاسرة منذ بدايتها.
في الحادي عشر من الشهر الجاري، كتب كل من فيليب ريكارد وهيلين سالّون مقالاً في “لو موند” الفرنسية، يقولان فيه إنه لم تكن لدى الحكومات العربية كلمات قاسية بما يكفي، لإدانة الهجوم الذي بدأته “إسرائيل” في السادس من الشهر الحالي بشأن رفح، التي يتجمّع فيها مليون وأربعمئة ألف من سكان غزة، الأمر الذي يمثل خطاً أحمر للعرب.
وإن التناغم غائب بين الدول العربية والإدارة الأميركية، المكبّلة برفض “إسرائيل” التفكير في أي شيء، غير الاحتلال العسكري لقطاع غزة. وبينما يصر العرب على أولوية الاعتراف بالدولة الفلسطينية، كونها ركيزة الحل الديبلوماسي، تضع واشنطن التطبيع بين السعودية و”إسرائيل” أولوية.
وتقول الصحيفة إنَ السعوديين كانوا يتوقعون التزاماتٍ من الأميركيين، وكانوا يأملون أن يقدموا خطتهم ويعملوا عليها مع الأميركيين، ثم يعرضوها على الأوروبيين، ويذهبوا بها إلى مجلس الأمن. لكن الخطة فشلت. وقال أنتوني بلينكن “لا” للموضوع كلّه. وإن الوقت غير ملائم لمثل هذه المبادرة.
إن حكومة نتنياهو تدرس خطةً مغايرة تماماً، تقوم على دعوة الدول العربية، مصر والإمارات والسعودية، إلى تقاسم مراقبة القطاع بعد الحرب، الأمر الذي رفضه الجميع تقريباً.
ويقول ريكارد وسالون إن الأميركيين على استعدادٍ لتعريض استقرار شركائهم العرب للخطر، من خلال خطر التهجير القسري للفلسطينيين، في مصر أو الأردن، من أجل إنقاذ رجلٍ واحد، هو نتنياهو.
إذاً، الأمر بات واضحاً في عدم قدرة أحد من واشنطن، وصولاً إلى الدول العربية المتحالفة معها، على إيقاف نتنياهو، على الرغم من التباين الواضح في المصالح التكتيكية وفي تقويم الوضع الاستراتيجي. الثابت الوحيد أن الجميع غير قادر على تغيير الموقف بصورة حاسمة حتى الآن. وهو ما ظهر في تعليق نتنياهو على إمكان وقف بعض المساعدات العسكرية الأميركية لجيشه، حين قال إنهم مستعدون للقتال بأظافرهم.
وهو إذ يقول ذلك، يعلم تماماً الحقيقة الواردة أعلاه، بشأن عدم قدرة واشنطن على خسارة حربٍ من هذا المستوى، أو تحمّل خسارة وكيلتها في المنطقة لتلك الحرب. وهو يعلم أيضاً أنه، الآن وفي هذه اللحظة، خاسرٌ في الحرب التي قتل فيها ما يقترب من 40 ألف فلسطيني، وجرح أضعاف هذا العدد منهم.
وبسرعة، تحولت الدولة الأقوى في العالم إلى دولة معزولة في الأمم المتحدة، وهذه أيضاً ساحة صراع أخرى لا تستطيع ربحها ولا خسارتها، حين صوتت 143 دولة لمصلحة منح فلسطين العضوية الكاملة في المنظمة الأممية. وهذا يدل على سطوع حقيقة الصراع في المنطقة عبر العالم، وأن معظم العالم اليوم يرى أن فلسطين دولة، وأن وقوف واشنطن ضد تصحيح وضعها في الأمم المتحدة موقف غير أخلاقي وغير مبرر، سياسياً وقانونياً، كون فلسطين تمتلك كل عناصر الدولة، ولها الحق في الانضمام بعضوية كاملة إلى المنظمة.
ثم بتفحص الدول التسع التي عارضت عضوية فلسطين، لا نعرف من أسمائها سوى أميركا والأرجنتين والكيان الإسرائيلي، الذي تبقى عضويته في المنظمة مشروطةً بالتزام ميثاقها، وهو الكيان الوحيد صاحب العضوية المشروطة، والذي تم إنشاؤه من جانب المنظمة، بصورة مفتعلة ومتعلقة بظروف الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
ومتجاوزاً هذه الحقائق كلها، اعتلى منبر الأمم المتحدة السفير الإسرائيلي جلعاد أردان ليمزق الميثاق، ويوبخ الدول التي صوتت لمصلحة عضوية فلسطين، ويطلق عبارات مستفزة لمعظم دول العالم، حين يقول “عار عليكم”، الأمر الذي يكشف المأزق العظيم الذي يعيشه الكيان، وتعيشه واشنطن معه.
الآن، قبل انتهائها، أنتجت غزة، عبر صمود أهلها ومقاومتها، حقائق جديدة وبثتها عبر العالم، وهي تنعكس في مشاهد جديدة تماماً على الوعي العالمي. واحد من هذه المشاهد هو إظهار حقيقة احتقار الكيان الإسرائيلي للمنظمة التي أنشأته وللدول المنضوية فيها واحدة فواحدة. وهو ما عبّر عنه مشهد أردان على منصة الأمم المتحدة. فهذه المشهدية، التي بدا فيها مصطنعاً ويفتعل صورة من التمثيل الهش لادعاء الأحقية، لن تزول من وعي الدول التي رأت بأم عيونها الحقيقة في أعمال “إسرائيل” الإجرامية عبر الشاشات، وفي أدائها، سياسياً وديبلوماسياً، والذي يريد في ابتزاز العالم كله، كما يبتز البيت الأبيض ورئيسه.
وهذا الابتزاز مبني على مسألتين: الأولى هي ما تعرض له اليهود في الحرب العالمية الثانية، والتي بات العالم يرى من أفعال الكيان أنها منتهية الصلاحية، وضرب الكيان نفسه ادعاءات المظلومية فيها بممارسة ما اشتكى منه بقدر لا ينقص عنها من القسوة والإجرام والعنصرية. والثانية هي فهم الكيان لموقعه في الاستراتيجية الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، في المنطقة، وتالياً في النظام الدولي.
ومع التغيرات الكبرى التي يشهدها العالم، لم تعد دول كثيرة، وبعضها في الغرب، تؤمن بأن الدعم المطلق لـ”إسرائيل” هو المعبر الوحيد عن مصالحها في الشرق الأوسط وفي النظام الدولي. وهذا ما يقود مزيداً من هذه الدول إلى دعم حق الفلسطينيين في تكوين دولتهم كاملة السيادة، والمطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضيها، لكن بحدود عام 1967 بالنسبة إليها، والتي لا تزال غير مقبولة من جانب الكيان، على الرغم من أنها لا تعبر عن حقيقة التاريخ، وأحقية الشعب الفلسطيني في كامل تراب فلسطين التاريخية.
ثم إن ملاحظة أخرى تبدو مهمة في هذا السياق، وهي تحول جزء مهم من المجتمعات العالمية إلى رفض ممارسات “إسرائيل” الإجرامية في الحرب، وفي السلم أيضاً. وهؤلاء يعبر عنهم مزيد من النخب، وأهم من ذلك الشرائح الطلابية في العالم الغربي، والتي تُظهر تفوق الرواية الفلسطينية بأشواط على رواية الاحتلال الذي يصر على ترداد منطقه القديم، ويستشيط غضباً لفقدان هذا المنطق قدرته على الإقناع، وهو ما لم يختبره الكيان من قبل.
وهذا ما يُحدث في قادة الاحتلال هلعاً ينعكس على إصرارهم على فعل كل شيء بالقوة. فالقوة الحاسمة في مفهومهم وحدها قادرة على قمع المنطق وإطفاء شعلة النقاش، أخلاقياً وسياسياً، أملاً بصناعة أمر واقع لا يمكن تجاوزه على الأرض، يحكمون عبره ما سيأتي من نقاش بشأن الحلول السياسية بعد الحرب.
ومع ذلك، لا تبدو هذه الاستراتيجية قادرة على تحقيق ما يأملون تحقيقه، كون هذه الشعلة، التي أوقدتها دماء الأطفال والشهداء في غزة، ماضية في مفاعيلها الأكثر تأثيراً في المدى الطويل.
أما الإدارة الأميركية، فهي تبدو مدركةً هذه التفاعلات، لكنها تمتلك هامشاً محدوداً من مساحة المناورة، فهي بين نارين، نار السماح لـ”إسرائيل” بتدمير نفسها وسمعتها وأسس مشروعها الذي تعبت عليه أميركا كثيراً من جهة، ونار قمع الجنون الإسرائيلي والمخاطرة بخسارة الحرب، التي ستحمل خسائر عظيمة وممتدة للمشروع الأميركي في المنطقة، وانتصاراً للمحور المقاوم من جهة ثانية.
وبين النارين، يقف الرئيس الأميركي جو بايدن خائفاً من خسارة الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، من دون أن يعني إمكان فوزه بها نهايةً سعيدة للحرب على غزة.
فهو يريد بإلحاح، وللضرورة القصوى، مجموعة نتائج متضاربة ومتناقضة. أُولاها انتصار “إسرائيل” ورضوخ محور المقاومة لهذا الانتصار، وهو ما لا يبدو قابلاً للتحقق بالنظر إلى المعطيات البائنة من الميدان. وثانيتها المحافظة على تفوق “إسرائيل” في المنطقة، وهي أيضاً مسألة مهددة بواقع ما يحدث.
وثالثتها صناعة صيغة تطبيع عربي مع “إسرائيل” مستدامة وقابلة للحياة، وهي متعثرة حتى الآن بفعل حسابات تمتد من التخريب الإسرائيلي للعواميد المؤسسة لها، ولا تقف عند تحولات في الاتجاه ترغب فيها هذه الدول، وباتت معالمها واضحة من خلال التعاون المطّرد لعلاقاتها بالصين والقوى العالمية الأخرى.
ورابعتها تجنب مواجهة كبرى مع محور المقاومة تمتد أعواماً وضبابية التفاعلات والنتائج، وخصوصاً أن قوى المحور أظهرت في رسائلها قدرةً على إلحاق الضرر الحاسم بمصالح أميركا في المنطقة من جهة، وبشرايين حياة “إسرائيل” من جهة ثانية، من خلال القدرة على إقفال مضيق هرمز والبحر الأحمر والتلويح بإقفال البحر المتوسط على الكيان.
لو جرى ذلك في سيناريو حرب موسعة، فإن التطبيع لن يجلب فائدته المرتجاة من جانب الأميركيين، ذلك بأن المعركة الأميركية المقبلة مع الصين، سوف تضغط على جميع الدول التي تتعاون مع بكين، ومنها دول الخليج العربية التي توسع تعاونها هذا، وتتطلع من منظار الضرورة الاقتصادية الحاكمة إلى تنويع خياراتها الاستراتيجية، وهي لن تكون قادرة على الموازنة بين مواجهة الصين إلى جانب أميركا، والمحافظة على نموها الاقتصادي في المديين المتوسط والبعيد، من جهة ثانية.
فضلاً عن أن هذه الدول ترى وتسمح وتحلل وتفهم ما يحدث الآن في المنطقة، وهي من جراء ذلك ترغب في تهدئة الخلافات مع إيران وحلّها، لأن سيناريو المواجهة معها لن يكون في مصلحة هذه الدول على المستوى الاستراتيجي، بعد كل ما تبدى من مفاعيل الأشهر السبعة المنصرمة.
وهكذا، تبدو أميركا مضطرة إلى إقفال الحرب الدائرة، وهي تحاول من خلال ضغوطها على “إسرائيل” والعرب أن تكون الخاتمة ملائمة لهذين الطرفين فقط، من دون محور المقاومة والصين.
ولا يبدو من كل ذلك أفق لتحقيق رغبة واشنطن، وخصوصاً مع إصرار نتنياهو على القتل بشراهة، ولو باستخدام الأظافر، يدعو إلى توقع سيناريو نهاية الحرب، على أن يكون بتفاعل الضغوط الأميركية مع الضغوط الإسرائيلية الداخلية على نتنياهو، إلى درجة تؤدي إلى سقوط الحكومة الحالية، ووصول حكومة تبدأ مشوارها من صفقة التبادل، لتتابع بعده تضميد الجراح في العلاقات مع واشنطن، وترميم ما تهدم من صورة الكيان والإمبراطورية في الشرق الأوسط وحول العالم.
هكذا، يبدو مرور المصالح الأميركية حتمياً من مسار إسقاط الحكومة الإسرائيلية، قبل الانتخابات الرئاسية في أميركا.
الميادين نت