افتتاحية الموقع

هل تمركز الصراعات والحروب في منطقة الشرق الأوسط له دلالته ؟ (1-3)

ماهر عصام المملوك

الجزء الاول

 

في خضم التاريخ المعاصر، لا يمكن لأي مراقب أن يغفل عن التمركز اللافت للحروب الأهلية في منطقة الشرق الأوسط.

 

فالمنطقة التي كانت مهداً للحضارات الكبرى، ومسرحاً لأهم الأحداث الدينية والثقافية والسياسية، أصبحت منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم واحدة من أكثر المناطق اضطرابًا، إذ لا يكاد يخلو عقدٌ من الزمان من اندلاع حرب أهلية في بلد من بلدانها، سواء في العراق، أو لبنان، أو السودان، أو اليمن، أو سوريا، أو ليبيا، أو غيرها.

الحرب الأهلية، بتعريفها البسيط، هي صراع داخلي مسلح بين مجموعات داخل الدولة الواحدة، غالبًا ما يكون ذا طابع سياسي أو طائفي أو عرقي، ويؤدي إلى انهيار في مؤسسات الدولة، وسقوط ضحايا كُثُر، وتفشي الفوضى، وتحول البلد إلى ساحة صراع مفتوح. ورغم أن الحروب الأهلية ليست حكرًا على الشرق الأوسط، فإن تواترها وشدتها وتعددها في هذه المنطقة يدفعنا للتساؤل: هل لهذا التمركز دلالة ما؟ ولماذا الشرق الأوسط تحديدًا دون غيره من الأقاليم؟

يبدو أن الإجابة لا يمكن أن تقتصر على العوامل الداخلية وحدها، إذ أن الكثير من هذه النزاعات كان لها بعد خارجي واضح، حيث تتداخل مصالح القوى الكبرى الغربية في خيوط الحرب، تغذيها بالسلاح أو المال أو الحماية السياسية، وتستغلها للوصول إلى أهدافها الاستراتيجية والاقتصادية. ولا شك أن القوى المهيمنة على النظام الدولي، والتي تتحكم في مصائر الشعوب من خلال نفوذها العسكري والسياسي، تجد في الحروب الأهلية فرصة سانحة للهيمنة غير المباشرة، ولنهب الثروات الطبيعية من نفط وغاز ومعادن وطرق نقل استراتيجية.

إن هذا المقال يحاول أن يدرس تمركز الحروب الأهلية في الشرق الأوسط من منظور شامل، يتناول الجذور التاريخية، والعوامل الداخلية، والدور الخارجي، والمصالح الاقتصادية، وصولًا إلى فهم أعمق للدلالات الجيوسياسية لهذا التمركز. كما سيستعرض بعض النماذج من الواقع المعاصر، مثل سوريا واليمن وليبيا، ليُظهر كيف تحولت هذه الحروب إلى أدوات لإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالح القوى الكبرى.

لفهم تمركز الحروب الأهلية في الشرق الأوسط، لابد  من ان نستعرض المرحلة التاريخية والتي لا يمكننا تجاهل السياق التاريخي والذي مهد لهذا الواقع المتفجر.

فالتاريخ السياسي للمنطقة في القرن العشرين، وبالأخص منذ انهيار الدولة العثمانية، كان محكومًا بتدخلات خارجية حادة، وتقسيمات مصطنعة، وتحالفات ظرفية، كلها لعبت دورًا أساسيًا في إرساء الأسس لانفجارات داخلية لاحقة.

في عام 1916، وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقّعت بريطانيا وفرنسا اتفاقية “سايكس – بيكو” السرية لتقسيم أراضي الدولة العثمانية بينهما، باعتبارها “غنائم” مستقبلية. لم تأخذ هذه الاتفاقية بعين الاعتبار التنوع الديمغرافي أو الانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية في المنطقة. بل قُسمت الأراضي وفق مصالح استعمارية بحتة، ما أدى إلى نشوء كيانات سياسية مصطنعة غير متجانسة في كثير من الأحيان، مثل العراق ولبنان وسوريا.

هذه الكيانات الحديثة نشأت على أسس هشة، وكانت التعددية داخلها – في غياب نظام ديمقراطي فعال – وقودًا لحروب أهلية لاحقة. فالحدود لم تكن نتيجة لتوافق شعبي أو وطني، بل لرغبات قوى أجنبية، ما جعل الانتماء للوطن ضعيفًا، والانتماءات الطائفية والعرقية أكثر حضورًا وتأثيرًا.

ولم تقتصر سياسة القوى الغربية على التقسيم الجغرافي فقط، بل اعتمدت منهج “فرّق تسُد”، حيث سعت إلى تأجيج الخلافات الطائفية والعرقية لتضمن ولاءات متفرقة وضعيفة. في لبنان مثلًا، تم تكريس الطائفية سياسيًا بإشراف فرنسي مباشر. وفي العراق، دعمت بريطانيا مكوّنًا دون الآخر، مما أدى لاحقًا إلى تهميش جماعات معينة وتراكم الغضب الشعبي.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبدء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، أصبحت دول الشرق الأوسط ساحات صراع بالوكالة. فبعض الأنظمة أُنشئت أو دُعمت لتكون حليفًا لهذا القطب أو ذاك، بينما تم تحريض أو تمويل جماعات مسلحة ضد الأنظمة غير المرغوب فيها من قبل أحد الطرفين. وخلال هذه الفترة، برزت ظاهرة “الانقلابات العسكرية” التي قادها ضباط تربوا في ظل الإيديولوجيات الغربية أو الشرقية، ما جعل الأنظمة الحاكمة غالبًا غير نابعة من الإرادة الشعبية.

النتيجة كانت هشاشة المؤسسات، واستبدادًا مُقوننًا، واختناقًا سياسيًا استمر لعقود، حرم الشعوب من التعبير أو التغيير السلمي، فكان البديل لاحقًا هو الانفجار، عبر الحروب الأهلية.

مع مرور الزمن، لم تتمكن معظم دول الشرق الأوسط من بناء دولة وطنية حقيقية، قائمة على العدالة والمواطنة والمؤسسات. بقيت التناقضات الطائفية والقبلية والطبقية تحت السطح، إلى أن جاءت اللحظة المناسبة لتنفجر، سواء بفعل احتجاجات داخلية أو تدخلات خارجية. وهكذا أصبحت المنطقة بيئة خصبة للحروب الأهلية، محمولة على تراكمات تاريخية طويلة، وظروف سياسية واقتصادية خانقة، كلها تعود في جانب منها إلى تاريخ من التقسيم والسيطرة الغربية.

رغم أهمية العامل الخارجي في تفسير تمركز الحروب الأهلية في الشرق الأوسط، لا يمكن إغفال البُعد الداخلي الذي يشكّل البيئة الحاضنة لهذه النزاعات. فالقوى الخارجية لا تتدخل في فراغ، بل تجد في هشاشة البُنى الداخلية وسوء الإدارة والتمزق المجتمعي أرضًا خصبة تُسهل إشعال الحروب الأهلية واستدامتها.

في كثير من بلدان الشرق الأوسط، لم تستطع الدولة الحديثة أن تذيب الانتماءات الأولية (طائفة، مذهب، قبيلة، عشيرة) لصالح هوية وطنية جامعة. بقيت الانتماءات ما قبل الوطنية حاضرة بقوة في الوعي الاجتماعي، وغالبًا ما كانت وسيلة للتمييز السياسي أو التهميش أو الاستقواء.

في العراق مثلًا، شكّلت التوترات بين السنة والشيعة، ثم بين العرب والأكراد، أحد أبرز دوافع الصراعات المسلحة، خاصة بعد الغزو الأمريكي في 2003. في لبنان، ظل النظام السياسي الطائفي قائمًا على المحاصصة منذ الاستقلال، مما جعل الدولة ساحة نزاع دائم بين الزعامات الطائفية. في اليمن، لعبت الانقسامات القبلية والمذهبية دورًا مركزيًا في تغذية الحرب الأهلية، خصوصًا بين الحوثيين من جهة والقبائل السنية أو القوات الحكومية من جهة أخرى.

هذه الانقسامات لم تكن دائمًا سببًا مباشرًا في اندلاع الحروب، لكنها وفرت البنية التحتية للانفجار عندما تهيأت الظروف السياسية أو الاقتصادية لذلك.

كثير من الدول العربية تأسست بعد الاستقلال على نموذج سلطوي لا يُراعي بناء مؤسسات حقيقية. كانت الدولة أداة بيد السلطة، وليست كيانًا يعبر عن إرادة المجتمع. بالتالي، عند أول اهتزاز سياسي أو احتجاج شعبي، كانت الدولة تنهار بسرعة لأنها لم تبنِ على قواعد شرعية قائمة على المشاركة والتعددية والعدالة.

هذا الفشل أدى إلى ضعف الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، بل تحوّل في أحيان كثيرة إلى عداء مكشوف، ما شجّع بعض الجماعات على حمل السلاح لتحدي النظام القائم، أو لفرض أجندة سياسية بالقوة، مما مهّد الطريق للحرب الأهلية.

فالأوضاع الاقتصادية المتردية لعبت دورًا محوريًا في تغذية حالة الغضب المجتمعي، خاصة لدى الشباب. فالنسب العالية للبطالة، وسوء توزيع الثروة، والانفجار السكاني، وانعدام العدالة الاجتماعية، كلّها شكلت بيئة مشبعة بالقهر واليأس.

يتبع

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى