هل جرّدت العقائد التوحيدية الملاحم من أسلحتها
جاء في الكتب السماوية ـ ومع اختلافات بسيطة في بعض الأسماء والتفاصيل ـ أنّ الله قد طلب من النبي إبراهيم، أن يذبح ابنه البكر ويقدمه قربانا، امتثل الوالد إلى الأمر الإلهي دون تردد، لكن السماء ـ وفي اللحظة الدرامية الحاسمة ـ فدته ب” كبش عظيم ” جزاء قوة إيمان إبراهيم، وهو الذي اختبر في ” قيمة الأبوّة ” فأبدى استعداده للتضحية دون سؤال أو نقاش.. هكذا وبهذا الفصل، يسدل الستار لدى الديانات التوحيدية، عن فكرة ” المواجهة ضد الأقدار” كمفهوم للتراجيديا وفق تعريفها الأصلي في الميثيولوجيا القديمة.
وبناء على ما تقدم، فإن التأخر في ظهور مسرح عربي وما تفرع عنه من فنون درامية أخرى، يعود إلى أسباب عقائدية إسلامية، (وسُنيّة في نظر بعض المسرحيين الذين يرون في طقوس عاشوراء لدى الشيعة شكلا من أشكال الفرجة المسرحية )، هذه الأسباب لم تُبح كشف الصراع الدراميّ بين الإنسان والقدر، وبالتالي فكل شيء مقدور ومرسوم سلفا، وما على الإنسان إلا الطاعة والامتثال للمستقبل الغامض الذي لا يدري عنه شيئا. وهو ما لا نجده في الثقافات الفرعونية واليونانية وغيرها من تلك التي التي انتعشت فيها فنون الدراما منذ فجر التاريخ.
وإذا اتفقنا على أنّ الدراما هي نوع من النصوص الأدبية المؤسسة على مبدأ الصراع والتناقض، وتختلط فيها كل المشاعر الإنسانية القابلة للتشخيص أمام جمهور مسرحي أو سينمائي أو تلفزيوني أو إذاعي ، فأين العرب من هذا الفن الذي أسّس له قدماء الإغريق على قاعدة موروثهم الميثيولوجي الذي يعجّ بالصراعات بين الآلهة وأنصافها، وما تزخر به من انشطارات تحاكي مصير الفرد في مسيرته الوجودية.
أين يقترب العرب وأين يبتعدون من هذا الفن الذي يجمع بين فنون شتى كالموسيقى والغناء والرقص؟ بل أينهم أصلا من المعمار الهندسي الذي يضم هذه الأشكال التعبيرية، على اعتبار أن لا فصل بين البنى الفوقية والبنى التحتية في تطور الحضارات والمجتمعات.
ولسائل أن يسأل، ما إذا كانت النسخة اليونانية، وما تمثله من تعدد الآلهة والصراع بين القيم، هي المقياس الوحيد للقول بأن الدراما متأصلة عند العرب أم غريبة عنهم، لكنّ الفنون الدرامية استمرت لدى ديانات توحيدية أخرى كالمسيحية، بل ورعتها الكنيسة، عدّلت منها وأضافت إليها كما يشير تاريخ القرون الوسطى كالتي تعرف بمسرحيات المعجزات، وهي نوع من التمثيليات الدينية تعالج أحداثاً مستمدة من الإنجيل وقد تطورت هذه التمثيليات، واتسع مجالها، فصارت خارج الكنائس، وزادت في الموضوع والتنوع، وأضيفت إليها موضوعات غير دينية، فنشأت عنها المسرحيات الأخلاقية ومسرحية الآلام، التي ظلت حتى العصر الحديث.
ويأتي السؤال المشروع الآخر: هل العرب ثقافة واحدة ومتجانسة أم ثقافات مختلفة، وهل يجوز أن نضع الجميع في سلة واحدة؟ فلا يمكن على سبيل المثال إنكار العمق التاريخي الضارب في القدم لحضارات ما بين النهرين ووادي النيل وغيرها، كما لا يمكن أن نغفل اختلاف نصيب كل منطقة عربية عن غيرها في جغرافية العالم العربي الممتدة من المحيط إلى الخليج.
الأمر اللافت أن العرب مهووسون بعقدة الريادة، ولا يقبلون على شيئ إلاّ إذا كان لهم باع فيه، وإذا أتقنوا شيئا منه زعموا أنه ينتمي إلى تاريخهم بامتياز، وهو أمر يطرح أكثر من إشكال معرفي، لكن الدراما التي هي موضوعنا على هذه الصفحة، متشعبة وملتبسة في علاقتها مع العرب في العصر الراهن، فلقد تراوحت بين التقليد الباهت لتجارب أجنبية غريبة عن بيئتها المحلية، وبين المعالجة الساذجة لقضايا محلية. كما أنّ الأشكال التعبيرية التي تناولت هذه الدراما، تختلف في جماهيريتها من مجتمع عربي إلى آخر، فالمواضيع التي تنجح في المسرح لا تلقى رواجا في التلفزيون أو السينما، وما يعرض في مصر، قد لا يلقى قبولا في المغرب العربي، أو العراق والخليج.
ثمة من يقول بأنّ التراجيديا موجودة في التاريخ العربي والإسلامي ووقع تناولها قبل الاطلاع على الإرث الدرامي العالمي، فبعد مقتل عثمان، ثم توالي مسلسل الاغتيالات في الدولة الإسلامية من عليّ ابن أبي طالب إلى الحسين بن علي، وبدأت القصيدةُ تأخذ الشكل الدرامي أكثر وتُحمّل بمضامين ذات طابع صراعي تصويري، غير أنّ هذه الإرهاصات الدرامية، افتقرت إلى النموذج الذي تحاكيه كي تستوي كيانًا دراميا سويا. ذلك أن حركة الترجمة لم تكن قد بدأت بعد.
الذين تحدثوا في التأصيل وإعادة التأصيل للمسرح العربي استنادا إلى نصوص تراثية، مثل المغربيين عبدالكريم برشيد والطيب العلج، والتونسي عزالدين المدني، والسوري سعدالله ونوس، حاولوا أن يجعلوا منها منطلقا لتأسيس مسرح ذي هوية وملامح عربية، تعرضوا لانتقادات كثيرة، أبرزها أنّ هذه المحاولات لا تعدو أن تكون شكلية، وتساهم في غربة المسرح العربي عن محيطه العالمي، كما كانت حجة معارضي هذا الاتجاه، تتمثل في أنّ مجتمعات كثيرة أخذت من المسرح العالمي دون عقد نقص، ولم تغير إلاّ في الطرح وطريقة التناول.