هل حان وقت معاقبة روسيا وإيران و «داعش» بالنفط؟

ثمة مفارقة لا تخطئها العين، حتى بالنسبة إلى غير الضليعين في شؤون المال واقتصاديات النفط. فمن الثابت والمعروف أن أسعار النفط تتجه نحو الارتفاع في حال اندلاع النزاعات والصراعات العسكرية وتفجّر الأزمات والاضطرابات السياسية، وتزداد درجة هذا الارتفاع في حال مشاركة دولة نفطية رئيسة أو أكثر في تلك الصراعات والأزمات، مثلما حدث عقب حرب 1973، وأحداث إقليمية أخرى تلتها. وكذلك كما حصل في عهد قريب عندما ارتفعت أسعار النفط بعد تصاعد القلق من تجارب إيران الصاروخية في تموز (يوليو) 2008، وبعد ضرب جماعات إسلامية في مالي منتصف 2013 وارتفاع سعر البرميل إلى 147.27 دولار.

في السياق ذاته، كان كثيرون يتوقعون ارتفاع أسعار النفط مع بداية الحرب على «داعش» في أيلول (سبتمبر) الماضي، سواء لدواعٍ جيو- إستراتيجية تتمثل في مشاركة السعودية والكويت والإمارات والعراق في تحالف ضرب «داعش»، فهذه الدول تنتج الحصة الكبرى من إنتاج «أوبك» البالغ 30 مليون برميل يومياً، منها 9.8 مليون إنتاج السعودية وحدها، أو لدواعٍ اقتصادية تتعلق بتوفير سيولة إضافية لتمويل عملية ضرب «داعش» التي تقدر ببلايين الدولارات، خصوصاً أنها تعتمد على الضربات الجوية المكلفة. لكن ما حدث هو العكس، فقد تراجعت أسعار النفط على مدار أربعة أشهر تقريباً ونزلت 23 في المئة عن مستوى مرتفع فوق 115 دولاراً في حزيران (يونيو). إذ سجلت أسعار النفط أدنى مستوياتها منذ كانون الأول (ديسمبر) 2010، بسعر يقل عن 88 دولاراً للبرميل.

وفي محاولة تفسير هذا التراجع، يشير كثيرون إلى الأبعاد الاقتصادية لهذه المسألة، والتي تتعلق بنشوب حرب الأسعار بين الدول الرئيسة المنتجة للنفط في محاولة للحفاظ على الحصص في السوق، أو لزيادة الإنتاج من خارج دول «أوبك»، بخاصة من جانب روسيا والولايات المتحدة، أو لتدني مستوى الطلب العالمي على النفط، وتحديداً من القوى الاقتصادية الرئيسة في أوروبا والولايات المتحدة والصين. وعلى رغم أن هذه الأبعاد الاقتصادية حاضرة بقوة، فإنها غير كافية وحدها لحدوث التراجع السريع في أسعار النفط خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يشي بأن ثمة أبعاداً جيو-سياسية مهمة تزامنت مع نظيرتها الاقتصادية أو ربما سبقتها وعجّلت فيها، وتتعلق في الأساس بتمسك موسكو بدعم نظام بشار الأسد ورفضها عزله كطريق للحل في سورية، والسجالات في الخليج والمشرق العربي واليمن.

كارثة لموسكو؟

قبل بضعة أشهر، اعتبر الخبير في مركز الدراسات السياسية والدولية في لندن نيل بارنت أن «الرياض هي العاصمة الوحيدة في العالم القادرة فعلياً على توجيه ضربة قاسية الى قطاع النفط الروسي وبالتالي ترويض الكرملين وإجباره على التفاوض بالحسنى في ملفَّي سورية وأوكرانيا»، لافتاً إلى أن «الغرب قد يلجأ مجدداً إلى طلب المساعدة من السعودية لتشديد الخناق على روسيا، لأن أي انخفاض في سعر برميل النفط في السوق العالمية اليوم بنحو 15 أو 20 دولاراً سيشكل كارثة لموسكو لا يمكنها تفاديها». واختتم: «ستكون الإدارة الأميركية في غاية السذاجة إذا لم تستغل غضب الرياض الجامح من موسكو بسبب دعم الأخيرة نظام بشار الأسد المستمر في قتل شعبه منذ ثلاثة أعوام مستنداً إلى الفيتو الروسي في مجلس الأمن».
ومنذ زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما السعودية نهاية آذار (مارس) الماضي، تُخيم الهواجس على موسكو، بخاصة أن هذه الزيارة أفرزت حديثاً عن احتمال معاقبة روسيا على موقفها من الأزمتين السورية والأوكرانية عبر خفض كبير للأسعار العالمية للنفط، وضرب الاقتصاد الروسي.

كانت هناك سابقة من هذا النوع في 1985، عندما زيد إنتاج النفط وهوى سعر البرميل إلى 10 دولارات، وهو ما لم يتحمله الاقتصاد السوفياتي. وكان هذا في رأي كثير من الخبراء الروس والغربيين أحد أسباب انهيار الدولة السوفياتية وتفككها في 1991. وفي التسعينات الماضية، أفضى انخفاض الأسعار طوال نصف عام إلى أزمة آب (أغسطس) 1998، وهبوط سعر صرف الروبل إلى نحو الثلث.

ولا يخفى أن تصدير النفط، ثم الغاز الطبيعي، يلعب دوراً رئيساً في الاقتصاد الروسي، إذ ارتفعت نسبة صادرات النفط والغاز من مجمل الصادرات الروسية من 33 في المئة في 1994 إلى 61 في المئة في النصف الأول من 2014. وعائدات روسيا من صادرات النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي في الفترة الممتدة بين 2000 و2013 فاقت 2,3 تريليون دولار، بينما كانت في الفترة 1992 – 1999 نحو 200 بليون دولار فقط. وساعد هذا الفارق الكبير في الإيرادات النفطية والغازية الرئيس فلاديمير بوتين في تحقيق استقرار سياسي واقتصادي نسبي في روسيا، ورفع الاقتصاد الروسي من الترتيب الخمسين عالمياً عام 2000 إلى الترتيب السادس عام 2011. ومنذ العام 2000، سجل احتياط روسيا من الذهب والعملات الأجنبية نمواً مستمراً، انقطع فقط أثناء الأزمة المالية العالمية 2008 -2009، عندما اضطر «بنك روسيا» المركزي الى كبح سقوط الروبل، ما سبب انخفاض الاحتياط من 596 بليون دولار في آب (أغسطس) 2008، إلى 383 بليوناً في نيسان (أبريل) 2009. وحالياً يبلغ الاحتياط الدولي 493.3 بليون دولار. ولعل إحدى أبرز النقاط في سياسة بوتين الاقتصادية، التخلص من الديون التي بلغت عام 1999 نحو 138 بليون دولار، أو 78 في المئة من الناتج. ووفقاً لوزارة المال الروسية، بلغ الدَين الحكومي في الأول من نيسان الماضي نحو 54.881 بليون دولار أو 8.4 في المئة من الناتج.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أن العائدات الروسية من صادرات النفط تفوق عائدات تصدير الغاز الطبيعي بأكثر من أربع مرات، فقد وصلت إلى 191 بليون دولار العام الماضي في مقابل 28 بليون دولار من صادرات الغاز، أي أن تصدير النفط هو المصدر الرئيس للعملة الصعبة في روسيا. وخفض سعر النفط العالمي إلى أقل من 90 دولاراً للبرميل سيسبب خسائر فادحة للاقتصاد الروسي تصل إلى أكثر من 40 بليون دولار. وقد فقدَ الروبل ثلث قيمته خلال أقل من شهرين في ظل العقوبات الغربية على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، وما زال يترنح متأثراً بالضربات التي تلقاها وآخرها الصعود القوي للدولار، على وقع تراجع أسعار النفط.

هزّات قاتلة

ويسعى المصرف المركزي الروسي إلى كبح جماح التدهور، لكن الأمر لن يكون سهلاً، مع تقديرات بأنه سيضطر الى إنفاق أكثر من 200 مليون دولار يومياً للحفاظ على سعر الصرف، ويبدو ذلك ضرباً من المستحيل، خصوصاً مع تضخُّم «طوابير» الشركات التي لجأت إلى الحكومة طالبة مساعدات، بعدما تعرّضت لهزات قاتلة بسبب غياب الاستثمارات الغربية وتجميد قروض لها من المصارف الأوروبية. وأعلنت وزارة المال الروسية أنها بدأت تميل إلى تقليص موازنات برامج حكومية، بعضها حيوي جداً مثل صناديق المتقاعدين، إضافة إلى برامج أخرى تعهّد بوتين في السابق تمويلها بسخاء وبات عاجزاً عن الوفاء بالتزاماته. وقد يطاول الخفض فئات من الموظفين الحكوميين الذين يمكن الاستغناء عنهم، ما قد يعني زيادة منتظرة في عدد أصحاب المَحافظ المعتمدة على الروبل المرهق، في مقابل المَحافظ السمينة التي تتعامل بالدولار. وما يزيد صعوبة الوضع بالنسبة الى روسيا أن ناتجها المحلي يعاني تراجعاً في معدلات النمو، ففي 2013 بلغت نسبة نمو الناتج 1.3 في المئة مقابل 3.4 في المئة في 2012.

وقد تكون هذه المخاوف هي التي دفعت بوتين إلى التصريح، في 17 نيسان الماضي، خلال البرنامج السنوي الذي يجيب فيه الرئيس الروسي عبر التلفزيون عن أسئلة الجمهور، بأن السعودية هي الوحيدة التي تملك إمكان زيادة إنتاج النفط، وبالتالي خفض الأسعار في السوق العالمية. واستبعد أن تقوم السعودية بالإضرار بالمصالح الروسية من طريق خفض أسعار النفط والغاز في السوق العالمية، مؤكداً أن موسكو والرياض ترتبطان بعلاقات طيبة جداً. وقال: «لا أظن أن أصدقاءنا السعوديين سيُقدمون على تغيير حاد يضر باقتصادهم والاقتصاد الروسي».

ويقول محللون إن اعتماد روسيا وإيران على إيرادات النفط اعتماداً كبيراً يعرّض ماليتهما لعجز عند مستوى السعر الحالي، ما يضعف موقفيهما في التفاوض على سيادة أوكرانيا والاتفاق الخاص ببرنامج طهران النووي. وقال البروفسور بول ستيفنز من المعهد الملكي للشؤون الخارجية «تشاتام هاوس» للبحوث في لندن: «زيادة الإنتاج تفيد الولايات المتحدة بكل تأكيد. انخفاض الأسعار يمثل تهديداً بالغاً للروس. لا نعرف إلى أي مدى سيؤثر في سلوكهم في أوكرانيا ولكنهم سيشعرون بضغوط على الموازنة بكل تأكيد».

وفي حالة إيران لن يضر السعر المنخفض باقتصادها الذي نالت منه العقوبات الرامية إلى تقليص مبيعات النفط، لكنه يضعف قدرتها على الضغط على الغرب للوصول إلى اتفاق سريع بشأن برنامجها النووي.

ويرى محللون أن انخفاض أسعار النفط يُضعف الجدوى الاقتصادية للإسراع في إعادة الإنتاج الإيراني إلى الأسواق العالمية، ويمنح القوى الغربية مجالاً أوسع للتشدد في موقفها.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى