هل ستؤدي المواجهة بين روسيا والأطلسي إلى تفكّك أوكرانيا؟
بعد استقلال أوكرانيا في العام 1991 حدد قطبان فيها، هما الدونباس في الشرق، وغاليتسيا في الغرب، حدّدا تطور البلاد على مدى نحو 3 عقود، وجرّا أوكرانيا إلى الحرب الأهلية الدائرة منذ أحداث 2014 الدراماتيكية.
في خضمّ الصراع الروسي الغربي، تبدو أوكرانيا كفتيل في برميل بارود يمكن أن يفجّر الأمن والاستقرار في القارة الأوروبية. وفي محاولة منها لإطفاء هذا الفتيل، قدمت روسيا مقترحاتها للضمانات الأمنية التي ترى فيها ضرورة غير قابلة للجدل لوضع حد للمواجهة مع التحالف الأورو-أطلسي، ولحماية مصالحها وأمنها القومي في الفضاء الطبيعي والحيوي، الموروث عن روسيا التاريخية والاتحاد السوفياتي السابق. ولفهم أسباب الصراع الروسي الغربي حول أوكرانيا، لا بد من الرجوع إلى تاريخ تشكّل أوكرانيا الحديثة.
إنّ طوبوغرافيا تشكّل أراضي أوكرانيا الحديثة بين الشرق والغرب مستمرّة منذ ما يقارب 800 عام، أي منذ الغزو المغولي التتاري للمنطقة. وبعد ذلك، أي بعد أن دمر الخان المغولي باتو، حفيد جنكيز خان، روسيا القديمة بعاصمتها كييف، أصبحت الأراضي الحديثة لأوكرانيا تحت الحكم الكامل وغير المقسّم للشرق التتاري.
وفي القرن السادس عشر، كجزء من ليتوانيا، أُدرجت أوكرانيا في الكومنولث البولندي الليتواني، وأصبحت تابعة للإقطاعات البولندية، لتقع تحت اضطهاد الحضارة البولندية الغربية. وفي العام 1569، تم التوقيع على اتحاد لوبلين، ما أدى إلى ضم الأراضي الأوكرانية إلى الكومنولث البولندي الليتواني.
في الفترة الزمنية الممتدة من القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر، لم تكن هناك دولة مثل أوكرانيا على الخريطة السياسية للعالم، بل كانت هناك إمارة “روسيا كييف” في جزء من أراضي أوكرانيا الحالية في القرن العاشر. وفي القرن الثالث عشر، كانت الأورطة الذهبية. وفي القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كانت كل من الدولة الليتوانية والأورطة الذهبية وروسيا القيصرية.
أما في القرون التالية، فكانت أراضي أوكرانيا تحت سيطرة كلٍّ من الإمبراطورية العثمانية وبولندا والإمبراطورية الروسية. وفي العام 1918، أي بعد ثورتي 1917 البرجوازية والاشتراكية وانهيار الإمبراطورية الروسية، ظهرت دولة أوكرانيا على الخريطة السياسية.
ولم تمثّل أوكرانيا السوفياتية الموحّدة التي أنشأها البلاشفة وحدة ثقافية ولغوية داخلية، إذ كانت مقسّمة من قَبل بين إمبراطوريات مختلفة، كانت تشكّل مراكز قوة معادية وغير قابلة للتوفيق في أوروبا آنذاك، وهي الكومنولث البولندي الليتواني والإمبراطوريتان الروسية والنمساوية – المجرية.
وفي الفترة الممتدة بين العامين 1917-1920، تم تشكيل حوالى 12 جمهورية مختلفة على أراضي أوكرانيا. كل هذه الكيانات اختارت الانعزال داخل حدود تلك الأراضي التي غطّت التشكيلات الجديدة. ووفقاً لذلك، يمكن القول إنَّ أراضي أوكرانيا في الفترة 1917-1920 كانت عبارة عن فسيفساء من كيانات مختلفة، كانت في كثير من الأحيان نتيجة طموحات رؤساء عصابات منفلتة وسياسيين مغامرين بلا أجندات سياسية وطنية، أرادوا الاستيلاء على السلطة وتنصيب أنفسهم رؤساء للدولة.
وحدها السياسة الصارمة للبلاشفة، التي هدفت إلى منع تشتت الأراضي، سمحت لأوكرانيا بالحفاظ على أراضيها، وضمّ أراضٍ إضافية إليها من تلك التي كانت تشكّل مناطق “روسيا الصغرى”، والتي تضمّ العاصمة التاريخية كييف و”روسيا الجديدة”، التي تتألّف من دونباس والقرم وضفاف شرق دنيبر، وصولاً إلى شواطئ البحر الأسود وبحر آزوف، إضافة إلى مقاطعة غاليتسيا، التي اقتطعها الاتحاد السوفياتي من بولندا نتيجة الحرب العالمية الثانية.
في 16 تموز/يوليو 1990، اعتمد برلمان أوكرانيا السوفياتية، بعد مناقشة طويلة، الإعلان المتعلق بسيادة دولة أوكرانيا بأغلبيّة ساحقة. الإعلان الذي لم يغير أو يحلّ محلّ دستور جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية، أصبح وثيقة مهمة في تشكيل الدولة الأوكرانية الحديثة، ووضع الأسس لدستور أوكرانيا في المستقبل.
نصّ مفهوم الدستور الجديد لأوكرانيا على إنشاء جمهورية رئاسيّة. ونتيجة لذلك، في حزيران/يونيو 1991، اعتمدت قوانين “بشأن إنشاء منصب رئيس جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية والتعديلات والإضافات على الدستور”، و”بشأن رئيس جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية”، و”بشأن انتخاب رئيس جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية”.
كان إنشاء منصب الرئيس يهدف إلى تعزيز السلطة التنفيذية الهرمية، لجعلها مستقلّة عن السلطة التنفيذية لهيئات الاتحاد السوفياتي في المستقبل. وقد أعطى ذلك القانون الرئيس سلطات واسعة. على سبيل المثال، كان له الحقّ في إيقاف إجراءات قرارات السلطات التنفيذية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية على أراضي جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية في حال كانت تتعارض مع دستورها.
وبحلول منتصف العام 1991، تم إنشاء إطار تشريعي في أوكرانيا، ما جعلها في الواقع دولة مستقلة. وبفعل القوانين المعتمدة في العام 1990، وفي النصف الأول من العام 1991، خرجت أوكرانيا عملياً من الخضوع لسلطات اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وتم تدمير الفضاء الاقتصادي والسياسي والعسكري الموحّد للاتحاد السوفياتي في الواقع. وفي واقع الحال، كانت أوكرانيا في تلك الحقبة الزمنية تابعة لسلطات الاتحاد اسمياً فقط.
في 24 آب/أغسطس 1991، أي بعد فشل الانقلاب على ميخائيل غورباتشوف في موسكو، تم اعتماد قانون إعلان استقلال أوكرانيا في جلسة استثنائية للبرلمان الأوكراني. في الوقت نفسه، تقرَّر إجراء استفتاء جمهوري في 1 كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، والَّذي كان من المفترض أن يؤكد فعل إعلان الاستقلال. لقد عوَّل الانفصاليون آنذاك على أن يثبتوا للسلطات الاتحادية الرغبة الكبيرة في الاستقلال لدى السكان الأوكرانيين، وبالتالي إعطاء الشرعية لقرار إعلان الاستقلال.
وبعد أن حصلت على الاستقلال في العام 1991، بدأت مرحلة جديدة من تطور أوكرانيا الحديثة. في النظام السياسي الإقليمي لأوكرانيا، ظهر قطبان واضحان؛ الدونباس في الشرق، وهو يمثل الفضاء الروسي الأرثوذكسي، وغاليتسيا في الغرب، وهي تجر أوكرانيا إلى التحالف مع العالم الغربي الكاثوليكي. هذان القطبان حدّدا تطور البلاد على مدى نحو 3 عقود، ما جرّ أوكرانيا إلى الحرب الأهلية الدائرة بدرجات سخونة متفاوتة منذ أحداث 2014 الدراماتيكية.
اليوم، عندما يحذّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أنَّ استمرار سياسة الضغط والاحتواء الغربي لروسيا عبر البوابة الأوكرانية سيؤدي إلى اختفاء أوكرانيا من الخريطة السياسية للعالم، فإنه يهتدي أولاً بالوقائع التاريخية.
الميادين نت