هل نتصارع فكريا ونحن نقرأ من أدب الخيال الواقعي؟…تكشف الروائية آلي سميث في روايتها “المُصادفة” الصادرة عن “دار المدى” عن الحقائق غير الملفقة في حياة الإنسان، والتي نستمد منها قيمة الخيال الواقعي في الأدب الروائي، فالشخصيات تبهرك بارتباطها مع الكاتب وكأنها تتحدث عن شقيقتها أو جارتها أو حتى صديقتها، بأسلوب مقنع لأحداث تتجدد في الحياة بشكل معاصر، لكنها تترك بعض التفاصيل، لتعصف في الذهن، فالتصورات التخيلية هي تلك التي تمتلك الحواس من رائحة جلد وملامسة المقاعد، والاستبصار ما خلف الدرج، لتجعل القارئ شديد الملاحظة لما يراه في المكان الذي يتواجد فيه، إضافة إلى الاختزال المعرفي الذي يُضفي على الرواية نوعا من الدبلوماسية الأسلوبية بنوع من الاستدلال “من أمي ورثت: الجمال المُعرض للضغط، وفوائد الغموض، وكيف أحصل على ما أريد. ومن والدي ورثت: الاختفاء والتلاشي”.
وفي هذا النوع الإنساني طبيعة مشابهة لعيوب أو فضائل تتوارث من عصر لعصر في الإنسان نفسه، لتؤثر بذلك على السمات الأساسية لشخصية روايتها التي تروي الواقع المتخيل بمهارة إبداعية تميل إلى طرح قضايا عائلية بتأصيل في العادات والتقاليد والسلوك الذي ينشأ مع الجنين في الرحم أثناء تشكله “لعل البداية الحقيقية هي عندما تباشر بالتشكل لتُصبح شخصا وتكون للمرة الأولى اللزجة التي تتألف منها عيناك وتُشكل الواقع المادة الصلبة الداخلية التي تصبح رأسك أو جمجمتك” وهذه مسيرة الولادة أو النشأة الأولى قبل الخروج إلى الدنيا التي تضعنا أيضا في رحمها.
فهل إشكالية الإنسان مع الحياة هي عقدة لا يمكن حلها وهو يتوارث جينيا الكثير من صفات الأم والأب والجد وغير ذلك؟ أم أن رواية “مصادفة” تدفع القارئ للتساؤل عن الحبكة الروائية وعقدتها ومدى ارتباطها بعقدة الحياة برمتها؟ وهل يعيد الإنسان نفسه ولكن ضمن تحديث للجينات المتوارثة تماما كما في فيلم “المسكينة” الصادر عام 1967 الذي ذكرته بداية آلي سميث في روايتها؟ أم تجعلنا نتصارع فكريا ما بين التفكير السردي الروائي والتفكير الواقعي المتخيل وحقيقة الحياة الفعلية التي نعيش فيها أغلب تفاصيل رواية مصادفة؟
يبرز السؤال الأهم في رواية “المصادفة” وهو إلى أي مدى نحن نعيش بين الأزمنة من خلال ما نتوارثه من جينات ومن أفكار نتبناها قديمة جدا ولا تنتمي لعصر حاضر نعتبره حديثا؟ “فالأشد حكمة يبدو كشخص من التاريخ القديم. لأن طبيعة التفاعلات السردية تتطلب التعايش مع الشخوص للإحساس بالواقع الذي يُشكل رافعة أساسية لتوليد عدة فرضيات في عقل القارئ، مما يُعزز الفهم المنطقي لما تطرحه من أفكار تثير كل منها عدة تساؤلات في العوالم القصصية والمسرحية المستمرة منذ العصور القديمة إلى الحديثة ومدى تأثيرها على الإنسان القديم والجديد كالمسرحيات القديمة التي تُقام على خشبة المسرح المدرسي الحديث “إن عليها أن تفكر في الأموات منذ ستين عاما مضت.
إنهم يستولون على تفكيرها كله عندما تكتب عنهم. واستريد شخصيا تعتقد أن الفائدة ستكون مضاعفة في معرفة ما يحدث الآن بدل الاهتمام بمن ماتوا منذ أكثر من نصف قرن”، فهل ما يتم سرده للأجيال الجديد يجعلهم من القدماء فكريا بنسب متفاوتة؟ أم أن المعقولية في عالمنا الخاص هي من الواقع المتخيل المتاح معرفيا من خلال الكثير من الإرث الأدبي الذي نتناوله على مر العصور؟ وهل نحن نعيش في عالم متخيل غير مكتمل يحتاج لحل مشكلات واقعية حقيقية لنصبح كشخصيات في كتب قديمة؟
تبني آلي سميث قاعدة تصويرية من أدب الخيال الواقعي من أجل فهم حبكة الحياة برمتها والتي يعيشها كل قارئ كما استريد لمواجهة العقبات التي تتسبب فيها أولا الجينات الوراثية وأخرى التربية القديمة التي تقوم أسسها على القصص التي تروى لنا ونحن في طور الطفولة وصولا إلى المسرحيات القديمة وما تحمله من أزمنة ليست لزماننا وهي هنا تريد الوصول إلى أننا قدماء قدر ما نمتلك من فكر استخلصناه مما هو قديم ومتجددين بقدر ما نحن نستعصي على امتصاص أفكار القدماء ونثور عليها بل ونحاول تحديثها بأنفسنا إن أمكن وهذه هي المصادفة الحقيقية في الحياة أن نتجدد ونبتكر “إن صانعي الأفلام الحقيقيين دائما يستخدمون مناظير على الرغم من أنه الأصعب الرؤية من خلالها. تضع عينها على المنظار وتسجل صورة يدها وهي ترفع المزلاج وتعيده إلى موضعه. بعد نحو مائة عام من الآن. ربما لن يعود لمثل هذه المزاليج وجود وسيصبح هذا الفيلم برهانا على أنها كانت موجودة وسوف تكون دليلا للناس”، وهذا نوع من المعرفة الإشكالية التي تُسبب الكثير من الاستنكار والكثير من المؤديين أيضا.
فهل الأدب يتجدد كما العلوم ومن ثم ننظر إلى ما هو قديم على أنه يثير السخرية من بدائية عاشها الأجداد ويعيشها الجيل الجديد مما هو متوارث؟ وهل الخيال الواقعي يتآخى مع الخيال الزائف من حيث نظرته إلى التجديد الذي نحتاج له في جميع نواحي الحياة؟ أم أننا فعلا في مصادفة مع كل تفاصيل الحياة التي نحياها مع الإرث القديم الفكري والأدبي وغيره؟ وهل ما أخبرها عنه ماغنوس عن الفكرة التي تقول إن ما يجري في الأفلام يختلف عما يجري في الحياة الواقعية؟ أم أن مصادفة هي واقع متخيل لواقع حقيقي في الحياة؟