هل نشهد ولاية ثالثة لأوباما في بيت كلينتون الأبيض؟

هل المرشَّحة عن الحزب الديمقراطي الأميركي للانتخابات الرئاسية، هيلاري كلينتون، والرئيس الأميركي في عدّه العكسي المُتسارِع لانتهاء فترته الرئاسية الثانية، باراك أوباما، مجرّد خصمَين صعبَين تحوّلا خلال وقت ليس بالطويل إلى شريكَين سياسيَّين بحُكم الضرورات السياسيّة من جهة، والانتخابيّة الرئاسيّة من جهة أخرى، أم أنّ الأمر أبعد من هذا التصنيف، ويكاد ينطلق من نشأة وخلفيّة اجتماعية وسياسية مُتباينة في ما بينهما؟

على الرّغم ممّا يجمع كلينتون وأوباما من حسٍّ سليم بالمصير التاريخي المُشترَك كوجهَين قياديَّين استثنائيَّين في تاريخ الولايات المتّحدة الأميركيّة، إلّا أنّهما يحملان معتقدات وأفكاراً متباعدة حول كيفيّة إبراز موقع القوّة الأميركية واستخدام أدواتها عند الحاجة، ما رَسم رؤيتَين مُتمايزتَين لدى الطرفَين في ما يتعلّق بدَور الأمّة الأميركية وموقفها الجمعي من حالتَي الحرب والسلام في العالَم.

نشأت هيلاري كلينتون في ضواحي شيكاغو برعاية والدها المُناهض للشيوعية، والذي ينتمي إلى اليمين الجمهوري، ويملك إيماناً لا يتزعزع بالولايات المتّحدة كقوّة للخير في العالَم. أمّا أوباما فنشأ مع أمّه بعد أن انفصلت عن والده في إندونيسيا وهاواي؛ ولم تكن سمعة “العمّ سام” جيّدة في تلك البلاد، وكان يغلب على مشاعر الناس هناك الاستياء والمناهَضة للسياسات الأميركية، ولاسيّما الخارجية منها، الموجَّهة إلى دُول “العالَم الثالث” في السبعينيّات من القرن الفائت. وهنا يكمن المفترق الكبير ببن البيئة التي نشأت فيها كلينتون، وتلك التي تربّى فيها أوباما، والتي شكَّلت الإحداثيّات الأولى لقناعاتهما السياسية، وأسهمت في بلْورة توجّهاتهما السوسيولوجية في المستقبل، وكيف تداخلت تلك التوجّهات مع قراراتهما السياسية كلّ من موقعه.

ومن نافلة القول إنّ أوباما وكلينتون كانا يدفعان بقوّة من أجل تنفيذ رؤاهما السياسية وخطط السياسة الأميركية الخارجية التي غالباً ما كانت مُتباعدة، بل ومُتنافرة في الكثير من الأحيان. وكان ذاك التنافر يظهر للعيان بشكل واضح خاصّة في ما يتعلّق بتطوّرات الأحداث في الشرق الأوسط إثر اندلاع الثورات العربية في أكثر من بلد عربي ابتداءً من العام 2011 وحتّى تاريخ مغادرة كلينتون موقعها في وزارة الخارجية الأميركية.

كانت كلينتون كثيراً ما تنأى بنفسها عن سياسات رئيسها الحالي ومنافسها السابق على كرسيّ الرئاسة حيث كان الاختلاف في وجهات النّظر والتوجّهات السياسية قد أدّى إلى مفترقِ طرقٍ بينهما. وخلال سنوات تولّيها منصب وزيرة للخارجية كان بادياً وجليّاً للقاصي والداني أنّ جراح المعركة الانتخابية بينهما في العام 2008، لم تندمل أبداً، وزاد من آلامها الصدام المستمرّ بينهما على إدارة ملفّ السياسات الخارجية للولايات المتّحدة.

كان الافتراق كبيراً في ما يخصّ قضايا استراتيجية في السياسة الخارجية الأميركية وأهمّها الحرب في العراق وأفغانستان، وكيفيّة الخروج المجدي من هاتَين الحربَين، وكذلك الموقف من تسليح المُعارَضة السورية ودعمها بشكل جدّي ومباشر من أجل إسقاط نظام بشّار الأسد في دمشق، وأخيراً وليس آخراً، الموقف من الثورتَين المتواليتَين في مصر والتي أسقطت الأولى منهما حسني مبارك، وأسقطت الثانية محمد مرسي الرئيس الإسلامي المُنتخَب.

فبالنسبة إلى الثورة المصرية واحتجاجات ميدان التحرير، كان واضحاً تخلّي أوباما السريع عن الحليف الطويل الأمد حسني مبارك منذ بداية اندلاع المظاهرات. أمّا كلينتون، فقد كانت شديدة الحذر والتريّث في فكرة التخلّي عن حليف قديم للولايات المتّحدة، ولاسيّما في دولة كبرى في الشرق الأوسط مثل مصر. وهذان الموقفان النقيضان من الثورة المصرية كانا أوّل افتراق علني وعميق بين سياسة كلينتون في الخارجية الأميركية وسياسة أوباما في البيت الأبيض.

أمّا في الحالة السورية التي تشهد أبشع أنواع الحروب في العصر الحديث، فموقف هيلاري كلينتون منذ البدايات كان واضحاً وحاسماً لجهة تسليح المعارضة السورية ومدّها بالدّعم السياسي والإعلامي اللّازمَين من أجل إسقاط نظام بشّار الأسد. وكان هذا هو الموقف الرسمي للخارجية الأميركية. أمّا باراك أوباما ومجموعته الاستشارية، فقد تمترسوا في البيت الأبيض خلف موقف مترنّح من المعارضة السورية وكيفية دعمها لتمكينها من إنجاز عملية الانتقال السياسي في سوريا من الاستبداد إلى الديمقراطية. وكان أوباما شديد التوجّس من التعامل مباشرةً مع المعارضة السورية ووَقَف موقفاً صارماً من تسليحها إلى درجة منْع الدُّول الإقليمية من القيام بهذه المهمّة. وتُعتبَر القضية السورية حجر الزاوية والمحور الرئيس في الخلاف بين كلينتون وأوباما، حيث كان ذلك الخلاف وراء رفضها الخدمة في وزارة الخارجية لفترة ثانية وخروجها من العمل الحكومي ونأيها بنفسها تماماً عن باراك أوباما استعداداً لخوض معركة السباق على الرئاسة الأميركية من جديد.

أمّا الخلاف الأعظم بينهما، فكان على درجة التعامل مع حكومة موسكو وجدوى النهج الدبلوماسي معها، وكيف لواشنطن التعاون مع سيّد الكرملين في ما يتعلّق بالمصالح المُتضاربة في العالَم بعامّة، والشرق الأوسط بخاصّة، وبما يضمن المصلحة القومية الأميركية العليا. وقد برهنت الأيام القليلة الماضية التي استعرت خلالها المشاحنات السياسية بين مبعوثي الدولتَين إلى الأُمم المتّحدة، والتي كان ذروتها موقف أميركا الصارم والعلني من الفيتو الروسي الخامس في مجلس الأمن ضدّ تمرير المشروع الفرنسي المُطالِب بوقفٍ فوريّ للغارات الجوّية على حلب، وتحميل روسيا والنّظام السوري مسؤولية استمرار العنف هناك، ثمّ التهديد الأميركي بالتدخّل بشكل أحادي بهدف ضرب مطارات النّظام العسكرية وتعطيل الطائرات الحربية في أرضها قبل أن تحلّق حاملة معها أدوات القتل للمدنيّين السوريّين.

فصل المقال أنّ مَن يُراهن على استمرار نهج أوباما في ما يدعوه البعض مجازاً “ولاية ثالثة” له إذا وصلت كلينتون إلى البيت الأبيض هو واهمٌ. فهيلاري كلينتون كانت دائماً نصيرة الطبقات الوسطى في الولايات المتّحدة والعالَم، وهذه الطبقة هي عادةً من تؤمِّن وتُصنِّع التغيير والثورات والمبادرات، بينما أوباما كان، ولم يزل حتّى اللّحظات الأخيرة من حكمه، رهين محبسَيْ الخطابة والجزالة اللّفظية، بعيداً كلّ البعد عن إرادات الفعل الشعبي التي اختبرتها كلينتون منذ نعومة أظافرها غوصاً في عُمق السياسات الخشنة.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى