هل يدلي الفاتيكان بصوته إلى جانب دعاة التفاهم؟ (رغيد الصلح)
رغيد الصلح
كثيراً ما يتذكر المتابعون لنشاط الفاتيكان الدولي الحوار الذي دار في بداية الأربعينات بين ونستون تشرشل، رئيس الحكومة البريطانية آنذاك، وجوزيف ستالين، زعيم الاتحاد السوفييتي السابق، عن مكانة البابا ودوره في السياسة الدولية . ففي أحد المؤتمرات التي عقدها الزعيمان ومعهما الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت للتداول في عالم ما بعد الحرب، اقترح تشرشل دعوة البابا لحضور المؤتمرات المقبلة، فردّ ستالين بعصبية على هذا الاقتراح بقوله: كم دبابة يملك البابا حتى يجلس معنا ويبحث في مصير العالم؟ يردد الكثيرون هذه الرواية في معرض الإشارة إلى تراجع أهمية الفاتيكان ورمزية دور البابا في العلاقات الدولية . ولكن هذه الرواية تدلنا على العقلية الستالينية الفجة والمبتذلة وتخلّفها عن إدراك دور الدين في السياسية أكثر ما تدلنا على مكانة الفاتيكان الدولية . ولعله من المستحسن أن نتذكر هنا، أن الرواية لم تنته بصرف النظر عن إشراك البابا في قمم الحلفاء . ولَئن أراد الفاتيكان الاقتصاص من ستالين بسبب موقفه من زعيم الكنيسة الكاثوليكية، فقد حقق في هذا المضمار نجاحاً كبيراً بعدما انتهت الحرب العالمية الثانية وسكتت المدافع، لكي تتكلم أقلام الاقتراع ونتائج الانتخابات العامة التي جرت في دول أوروبا الغربية . ففي ذلك الامتحان التاريخي الكبير، صب الفاتيكان كل قوته واستخدم كافة “الأسلحة” المعيارية والقيمية ضد الأحزاب الشيوعية، فكان لموقفه هذا الأثر الكبير في فشل الأحزاب الشيوعية في الوصول إلى السلطة في إيطاليا وفرنسا . وكان لهذا الفشل أثره الكبير على مستقبل الشيوعية في أوروبا، إذ إن الحزبين الإيطالي والفرنسي كانا من أكبر وأهم الأحزاب الشيوعية في العالم، وربما أكثر أهمية من العديد من الأحزاب الشيوعية التي وصلت إلى الحكم في أوروبا الشرقية بدعم مباشر من دبابات الزعيم السوفييتي .
حريّ بنا أن نتذكر هذه الرواية عندما نتابع اليوم وقائع الزيارة التي يقوم بها البابا بينيديكتوس السادس عشر إلى لبنان . فهذه الزيارة تتم بعد تحضيرات واسعة وأبحاث معمقة تتم عادة في إطار ما يدعى بمجلس كنائس الشرق الأوسط الذي يجمع “العائلات” المسيحية الشرقية الآتية: الكاثوليكية، الأرثوذكسية (بشقيها اليوناني والشرقي) والبروتستانتية . كذلك شملت التحضيرات مؤتمرات واجتماعات عقدتها الجمعية الخاصة من أجل الشرق الأوسط التي شكلتها الكنيسة الكاثوليكية . وفي هذه الاجتماعات واللقاءات التحضيرية، جرى التطرق إلى قضايا مهمة تمحورت إلى حد بعيد على أوضاع المسيحيين في المشرق العربي والعلاقات مع أتباع الأديان السماوية الأخرى في المنطقة، فأسفرت عن الإرشاد الرسولي الذي يوقعه البابا خلال زيارته إلى لبنان .
يؤكد الإرشاد الرسولي أهمية ثبات المسيحيين في بلادهم والصمود في وجه الضغوط الهائلة التي يتعرضون لها . بل يذهب الإرشاد الرسولي في معرض الحرص على تأكيد الانتماء المشرقي والعربي لمسيحيي المنطقة، إلى ضرورة مساهمتهم في النهوض بالمجتمعات العربية و”إقامة مجتمع أكثر عدالة وتضامناً وإنسانية” ويكمل هذا النهج الدور التاريخي الذي اضطلع به المسيحيون في المنطقة “كرواد نهضة الأمة العربية”، كما جاء في الخطوط العريضة للإرشاد الرسولي .
إن تجديد هذا الدور يتطلب مواقف حازمة، صريحة وفعالة من قبل الحركات والقوى العربية التي تؤمن بأهمية التنوع والتعددية في المجتمعات العربية . والحزم المطلوب هو في وجه الحركات الإرهابية والتكفيرية التي تستهدف المسيحيين العرب والمسيحية العربية وتعدّها هدفاً سهلاً ومناسباً لأعمال العنف التي تمارسها هذه الحركات . تقوم هذه المنظمات والحركات بهذه الأعمال في سياق التنافس مع غيرها من المنظمات والأحزاب الدينية، وإذا ترك لهذه الحركات أن تستمر في هذا النهج، وأن تفتح مزاداً مع الأحزاب الدينية الأخرى على حساب اللحم الحي للمسيحيين العرب، فإنها سوف تلحق أعظم الأضرار لا بالمسيحية العربية فحسب، وإنما بالعرب وبالمجتمع الدولي عموماً .
وسعياً إلى كبح جماح هذه الحركات الهوجاء، فإن الأحزاب الإسلامية المعتدلة التي وصل بعضها إلى الحكم في الدول العربية، مطالبة بأن تضطلع بالدور الأكبر، بحكم نفوذها كأحزاب حاكمة وانتشار التأييد لها في الأوساط الشعبية، في مكافحة جماعات التعصب الديني وإنزال العقاب المناسب بها إذا ما مارست العنف ضد أبناء الأديان الأخرى . ولا ريب أن الأحزاب الإسلامية الممثلة في الحكم في أكثر من بلد عربي، تدرك أن منطق العنف والإجرام لا يميز بين الأديان وبين الطوائف، ولا بين الصديق والحليف، وبين المنافس والمخالف، إذ إنه سوف يُوَجَّه إلى الجميع متى استفحل واستبدّ .
فضلاً عن المسؤولية الملقاء على عاتق الفاعلين العرب الرسميين وغير الرسميين في حماية المسيحية العربية والمسيحيين العرب من حركات الإرهاب ومنتجات مصانع التكفير والتهجير، فإن الفاتيكان يستطيع أن يؤدي دوراً مهماً في تعزيز الصلات بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس المسيحية عموماً وبين المجتمعات العربية . إن زعماء الكنيسة الكاثوليكية يعرفون مشاعر الألم والأسى التي تتفاعل في المنطقة العربية بسبب مظاهر “الآرابوفوبيا” المتصاعدة في الغرب . وهناك مروحة واسعة من هذه الممارسات تشمل تنافس أحزاب الغرب على استرضاء “إسرائيل” وأنصارها على حساب المصالح والحقوق العربية، كما حدث في المؤتمر الأخير للحزب الديمقراطي الذي اعترف بالقدس عاصمة ل”إسرائيل” خلافاً للقرارات الدولية .
وكذلك تشمل هذه الممارسات والظواهر نشوء وصعود أحزاب في الحياة العامة وخاصة في أوروبا تتخذ من معاداة العرب والتحريض عليهم وعلى حضارتهم مسوغاً لوجودها . وفيما تتغذى هذه الأحزاب والجماعات من النزعة العنصرية الكامنة في بعض المجتمعات الغربية، فإنها تسعى بدورها إلى تغذية هذه النزعة وتقويتها
يدرك العرب أن تصاعد موجة الآرابوفوبيا من شأنه أن يسبب أعمق الأضرار للعرب وللمجتمعات الأطلسية معاً، ويعرف العرب أيضاً أن “إسرائيل” والمنظمات المؤازرة لها في الغرب، تلعب دوراً مباشراً وكبيراً في تغذية هذه الموجة دون مراعاة لآثارها في التكوين الفكري والثقافي للمجتمعات الغربية، وفي العلاقات الغربية العربية . ويعرف العرب أيضاً أن “إسرائيل” والجماعات المعاضدة لها في الغرب، لم تكفّ يوماً عن التحريض على الكنيسة الكاثوليكية بتهمة أنها هادنت النازيين يوم وقّع البابا اتفاقية مع هتلر، وببث بعض الاتهامات الأخرى . ولا ريب أن أرباب الكنيسة الكاثوليكية هم على بيّنة بأخطار “الآرابوفوبيا” على العالمين العربي والمسيحي، وعلى معرفة كافية بالوسائل والطرق التي تكفل الحد من آثار هذه النزعة الضارة . . فهل تكون زيارة البابا إلى لبنان مناسبة للتفاهم على تنقية أجواء العلاقات الأوروبية العربية والأطلسية العربية من عقائد الحقد وسياسات العدوان والحروب؟ هل تلقي الكنيسة بوزنها في المناسبات الانتخابية إلى جانب الذين يلتزمون المبادئ الإنسانية وعلاقات السلام والتفاهم بين العرب والأوروبيين، كما فعلت يوم ألقت بثقلها إلى جانب المتلتزمين بالمبادئ الديمقراطية؟
صحيفة الخليج الإماراتية