تحليلات سياسيةسلايد

هل يكون نونيز مهندس المصالحة بين فرنسا والجزائز؟

بعد أشهر ثقيلة من البرود الدبلوماسي والتباعد السياسي بين فرنسا والجزائر، يعود الحديث من جديد عن احتمال فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية، وهذه المرة عبر بوابة وزارة الداخلية الفرنسية، ففي خطوة لافتة، أعلن وزير الداخلية لوران نونيز وجود احتمال “قوي جدًا” لقيامه بزيارة قريبة إلى الجزائر، في ما اعتبره مراقبون مؤشرًا على تحرّك فرنسي جديد لإعادة بناء الجسور مع الشريك المغاربي التاريخي، فهل يكون نونيز مهندس المصالحة بين البلدين؟

لم تكن تصريحات نونيز عابرة، بل جاءت ضمن خطاب سياسي محسوب، حمل إشارات واضحة إلى أن باريس بدأت تدرك محدودية سياسة الضغط والمواجهة التي اتبعتها خلال الأشهر الأخيرة تجاه الجزائر. فقد أكّد الوزير صراحة أن “استراتيجية المواجهة مع الجزائر غير فعّالة ولم تُجدِ نفعًا”، وهو تصريح يحمل اعترافًا نادرًا من مسؤول فرنسي رفيع بأن إدارة الأزمة كانت تحتاج إلى مقاربة مختلفة.

وفي المقابل أيضا فإنه رغم الخطاب الحاد الذي تبنّته الجزائر في الأشهر الماضية، يبدو أن قدرتها على الاستمرار في سياسة التصعيد الدبلوماسي تجاه باريس باتت محدودة للغاية، فالمشهد الأوروبي تغيّر، والاصطفافات الجديدة جعلت هامش المناورة الجزائرية أضيق من أي وقت مضى، خصوصاً مع تزايد الحديث داخل دوائر صنع القرار الأوروبية عن ضرورة إعادة تقييم العلاقات مع دول الجنوب المتوسطي على أساس البراغماتية والمصالح المشتركة.

وفي هذا السياق، يدرك صانع القرار في الجزائر أن الإصرار على نهج العناد والمكابرة مع القوة الاستعمارية السابقة قد يجرّ البلاد إلى عزلة أعمق داخل المحيط الأوروبي، ويهدد شراكات اقتصادية وأمنية لطالما مثّلت رئة حيوية للاقتصاد الجزائري.

وبين ضغوط الداخل الاقتصادية وتراجع هامش الحلفاء الخارجيين، تبدو الجزائر مجبرة أكثر من أي وقت مضى على إعادة ضبط الإيقاع الدبلوماسي وتفادي أي مسار صدامي طويل قد يفوّت فرص الانفتاح ويزيد من تعقيد موقعها الإقليمي والدولي.

والتحول الأول الذي التقطه نونيز كان إفراج السلطات الجزائرية عن الكاتب بوعلام صنصال، الذي قضى عامًا في السجن بعدما أدين في الاستئناف بخمس سنوات بتهمة “المساس بالوحدة الوطنية”. وقد وصف الوزير الفرنسي الخطوة بأنها “بادرة إنسانية من الرئيس عبد المجيد تبون”، وهو توصيف لم يأتِ اعتباطًا، إذ أرادت باريس من خلاله إبراز هذه الخطوة كإشارة انفتاح يمكن البناء عليها لاستعادة الحوار المفقود.

ويرى خبراء في العلاقات الفرنسية-الجزائرية أن ملف صنصال أصبح رمزًا لحدة التوتر بين البلدين، لا سيما في ظل التصعيد الإعلامي والسياسي الذي رافق القضية في فرنسا. ومن ثم، فإن الإفراج عنه، وإن كان قرارًا سياديًا جزائريًا في الدرجة الأولى، أمّن فرصة دبلوماسية لخفض مستوى الاحتقان وإعادة فتح قنوات التواصل.

ومن بين النقاط الأكثر إثارة في تصريحات نونيز، إشادته بالدور الألماني واعتباره “طرفًا ثالثًا موثوقًا به” في جهود تخفيف التوتر، فالحديث عن وساطة ألمانية بين الجزائر وفرنسا ليس مألوفًا في سياق العلاقات بين البلدين اللذين يتقاطعان تاريخيًا وثقافيًا أكثر مما يجمعهما مع برلين.

لكن ما جرى خلال الأشهر الماضية يكشف أن ألمانيا استغلت موقعها كطرف غير معني مباشرة بالإرث الاستعماري ولا بالتوترات المتكررة، لتقدم نفسها كجسر محتمل للحوار. وقد أشار نونيز إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استفاد من اجتماعات سمحت له بالتحدث إلى نظيره الجزائري عبدالمجيد تبون وإلى الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، في إطار اتصالات ساهمت في تهدئة الأجواء.

ومكن وجود وسيط أوروبي محايد الطرفين من تقليل حدة الخطاب وتجنب التصعيد، خصوصًا في مرحلة شهدت تجميد زيارات رسمية وتراجعًا في التعاون الأمني والهجرة والاقتصاد.

في قراءة دلالات هذا الحراك الجديد، يرى محللون أن زيارة لوران نونيز – إن تمت – ستكون أول زيارة رفيعة المستوى يقوم بها مسؤول فرنسي إلى الجزائر منذ اندلاع الأزمة الأخيرة. وهذا وحده يمنح الزيارة بعدًا رمزيًا كبيرًا، خصوصًا أن وزارة الداخلية تشكل القناة الأكثر حساسية في الملفات المشتركة، وعلى رأسها:

الهجرة غير النظامية

التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب

إدارة الجالية الجزائرية في فرنسا

ملفات التأشيرات

قضايا الذاكرة والتاريخ (ولو بصورة غير مباشرة)

وقال نونيز نفسه إن الزيارة “قد تفتح صفحة جديدة من الحوار”، وهو تعبير يعكس رغبة في الانتقال من مرحلة التشنج إلى مرحلة “ترميم الثقة”، بعد أن “بلغ مستوى التدهور في العلاقات الثنائية حدًا غير مقبول”، على حد تعبيره. وهذا التوصيف القاسي من وزير الداخلية يشير إلى إدراك عميق بأن التوتر تجاوز الحدود الدبلوماسية إلى تعطيل مصالح مشتركة لطالما شكّلت العمود الفقري للعلاقة بين البلدين.

والأسئلة المطروحة اليوم كثيرة: هل ينجح نونيز في لعب دور “مهندس المصالحة” الجديدة؟ وهل تخطو باريس والجزائر نحو تسوية تُنهي أشهرًا طويلة من التوتر أم أن كل ما يجري مجرد اختبار للنوايا؟

وتتوقف الإجابة على إرادة الطرفين وقدرتهما على تجاوز تراكمات السنوات الأخيرة. فالرئيس ماكرون، رغم محاولات متكررة لإعادة صياغة العلاقة مع الجزائر على أساس “شراكة شجاعة وصريحة”، وجد نفسه أكثر من مرة أمام صدمات سياسية وإعلامية أعادت العلاقات إلى نقطة الصفر. أما الرئيس تبون، فقد شدد في أكثر من مناسبة على أن الجزائر “لا تقبل التدخل في شؤونها الداخلية”، وهو مبدأ يتمسك به بعيدًا عن أي ضغوط.

لكن المؤشرات الحالية توحي بانفراج حذر، خصوصا مع وجود ملفّات يجب معالجتها قبل أي تطبيع كامل، من ملفات الهجرة إلى التعاون الأمني وصولًا إلى الذاكرة التاريخية.

وبناءً على المعطيات المتاحة، تبدو زيارة وزير الداخلية الفرنسي – إن تحققت – خطوة ضرورية لإعادة ضبط العلاقات، لكنها في الوقت نفسه اختبار لقدرة الطرفين على الانتقال من “التهدئة الإعلامية” إلى “المصالحة الفعلية”. وفي حال نجح لوران نونيز في خلق أرضية مشتركة لعودة الحوار واستئناف التعاون، فقد يتحول فعلاً إلى مهندس المرحلة الجديدة بين باريس والجزائر. أما إذا بقيت المبادرات محصورة في الرمزية من دون ترجمة عملية، فإن الأزمة مرشحة للعودة في أي لحظة.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى