هل ينتظر العراق انقلاباً «أميركياً» في إطار العملية السياسية؟
حال الطلق التي يعيشها العراق منذ أشهر، على الأقل، من دون ولادة، ربما تواجه تدخلاً جراحياً بعملية قيصرية هي عبارة عن انقلاب ناعم يلغي البرلمان ويحول النظام الى رئاسي بعد تعطيل الدستور.
قد تبدو هذه الرؤية نوعاً من الخيال السياسي لكن خطواتها تتسارع، فمنذ شهور ظهرت المناداة بالإصلاح كمرهم سحري على لسان الجميع بمن فيهم قادة الفساد أنفسهم، وتعرّض البرلمان لاقتحام استطاع بعده ان يقضي على ثقة العراقيين بالتظاهر كسبيل ديموقراطي للتغيير، وواجهت المرجعية الدينية التي كانت تطالب بالاصلاح وتدعمه حرجاً حين دعمت مقتدى الصدر الذي قاد مشروع الاصلاح بطريقة أفقدته الاتجاه الصحيح.
ويبدو الاهتمام الأميركي بالعراق من جـــديد من خلال زيادة عدد القوات المشاركة في عمليات الفلوجة والموصل والخلاف الذي عبّر عنه الناطق باسم الحشد الشعبي بأن الحشد سيقف ضـــد تزايد الوجود العسكري الأميركي، بعدما تسرّب أن الأميركيين أبلغوا رئيس الوزراء حيدر العبــادي ان واشنطن لن تسمح بأمرين: إضعاف الجيش العراقي وحدوث مجاعة مرتقبة في العراق، خصوصاً بعد ان بدأت تركيا تنظر الى مياه دجلة والفرات على أنهما ليسا نهرين دوليين وإنما نهران عابران للحدود، فهي تتصرف بمياهما مثلما تتصرف أي دولة بنفـــطها. وأن الاميركيين ينوون في حال حدوث مجاعة العودة الى نظام البطاقة التموينية ولكن من خلال الأمم المتحدة وليس من خلال الحكومة العراقية.
ومنذ اسابيع طرح حزب الدعوة، ممثلاً بأبرز قيادييه اليوم، علي الأديب، وزير التعليم العالي السابق (٢٠١٠- ٢٠١٤) إلغاء مجانية التعليم، في بلد محطّم ومنهار مالياً، وتوجد فيه عشرات الجامعات الأهلية التي أصبحت جزءاً من الفساد إذ تُمنح الشهادات العليا من دون قيم أكاديمية. وقد شهدت وسائل التواصل الاجتماعي (المنبر الوحيد للعراقيين) موجات احتجاج من دون جــدوى كالعادة، بحيث أصبحت عمليات غسيــل الدماغ جزءاً حيوياً من السياسة في العراق، وبرر الأديب دعوته بأن الدولة تصرف على الطالب الجامعي 13 مليون دينار سنوياً (اي أقل من ١٠ آلاف دولار) في ظل الظروف الحالية لا يمكن ان يستمر التعليم بالمجان.
ثم ناقش البرلمان قانون امتيازات النواب ومنحهم غنائم جديدة وتعيين أقاربهم في مكاتب تابعة للبرلمان بدرجات تبدأ من درجة وزير الى درجة مدير عام، في وضع تتقشف فيه الحكومة بسبب تراجع اسعار النفط من جهة ونفقات الجهد العسكري ضد داعش من جهة أخرى، وكانت النتيجة أن الشعب العراقي الذي يعتمد في إبداء الرأي على «الفايسبوك» انتفض ضد مشروع القانون ودعمته المرجعية الدينية بنقد حاد من منابرها في كربلاء والنجف.
رجال داود أوغلو
وقبل أيام اشتعلت صفحات «الفايسبوك» بوزير الدفاع خالد العبيدي الذي دعي للاستجواب ولكنه فضح عدداً من البرلمانيين بمن فيهم رئيس البرلمان سليم الجبوري بأنهم يبتزونه في صفقات بليونية من صفقات الأسلحة إلى تموين الجيش العراقي ومنع استجوابه لقاء مليوني دولار.
كانت خطوة وزير الدفاع أقوى هجوم سنّي اذ وجّه اتهامات مباشرة بالفساد إلى رئيس البرلمان الذي اختاره رئيس الوزراء التركي السابق احمد داود أوغلو لرئاسة البرلمان ممثلاً للسنة حين زار وفد القوى السنية تركيا بعد انتخابات ٢٠١٤. وهو عضو في الحزب الإسلامي العراقي، اي «الاخوان المسلمون»، الذين كشف العبيدي انه تلقى تهديداً منهم مصدره سورية ومصر بقتله. وبعد هجوم وزير الدفاع ذهب الوزير لزيارة واحد من أهم المراقد الشيعية وهو الإمام الكاظم سابع ائمة الشيعة، في الكاظمية، كاسباً بذلك طرف الصراع الآخر الذي تغنى بخطوة الوزير. وكان مقتدى الصدر استقبل الوزير الذي أهداه بندقية أثير حول صفقتها الكثير من الشبهات.
من المحتمل أن خطوة وزير الدفاع تمت بالتنسيق مع السفارة الأميركية في بغداد لتحقيق خطوات عدة في هذه المرحلة، أولاها إظهار زعيم سني قوي وعسكري في الوقت نفسه، وثانيها تحجيم النفوذ الأردوغاني التركي في الأوساط السنية السياسية، وتقديم زعيم سني متوافق مع الشيعة، وثالثها «فضح» الفساد السني من قبل سني تمهيداً لـ «فضح» الفساد الشيعي سواء من شيعي، او من الوزير نفسه الذي لا يمكن اتهامه بالاستهداف الطائفي بعد ان استهدف كبار السياسيين السنّة، فضلاً عن انه وافق على دمج تنظيمات الحشد الشعبي بالجيش النظامي. وتأتي خطوة وزير الدفاع مع تسريبات أميركية عن مستقبل العراق بعد طرد داعش وإنهاء دور إيران، فهناك نية أميركية لإنشاء ثلاثة أقاليم اتحادية ترتبط بالعاصمة بغداد مع صلاحيات اقتصادية وسياسية واسعة، فضلاً عن ان العراق سيكون جزءاً اساسياً من الأمن القومي الأميركي، وأن جسراً جوياً أميركياً سيقام لمدة ستة أشهر لإعادة اعمار المناطق السنية التي احتلتها داعش، وأن دولاً عربية أبلغت بالخطة الأميركية. ومعنى ذلك ان وزير الدفاع يعد نفسه لرئاسة الإقليم السني مستقبلاً.
تحول وزير الدفاع من شخص متهم بالفساد في صفقة البندقية VZ الى بطل ضد الفساد. لكن ما هو أهم الأهداف من الخطوة قد يكون مرتبطاً بتحرير الموصل، فمعظم القوى السياسية السنّية ترفض او تعرقل أو تتحفّظ عن تحرير الموصل لأهداف مختلفة طائفية وسياسية ومالية. كما أن الدور التركي الذي يتزايد من طريق رئيس مجلس النواب السابق وشقيقه المحافظ السابق للموصل اثناء احتلالها من «داعش»، لإحياء الأطماع التركية فيها قد يكون أحد أهداف فضح الفساد الذي ينعم فيه قياديون في الحزب الإسلامي، اذ ذكر الوزير عدداً من الوزراء السنّة ايضاً، وهم معروفون حقاً بتحوّلهم الى أصحاب ملايين يملكون حتى محطات بث فضائية.
الأرقام الفلكية في العراق للفساد يتداولها عدد كبير من الطبقة السياسية في البرلمان وفي الحكومة. فقد أصبحت الدولة العراقية ميداناً للنصب والابتزاز ويمارس عدد كبير من البرلمانيين عقد الصفقات بحيث يصفهم العراقيون بالحيتان، وتحولت السلطة التشريعية الى سلطة عقود ومقاولات تنفيذية بمئات الملايين من الدولارات، وهي في الغالب عقود ومقاولات وهمية تشترك فيها جميع الكتل البرلمانية من دون استثناء.
منذ العام ٢٠٠٣ تغطى الفساد والصراع على المغانم واقتسام مال الدولة وعقاراتها بأغطية سياسية وطائفية. وكان المفتش العام للجيش الأميركي ستيوارت دبليو بووين أكد في كتابه «الدروس القاسية، تجربة إعادة الإعمار في العراق» انه فوجئ بتعطيل القانونين الأميركي والعراقي للمحاسبة والصرف، اذ كانت بلايين الدولارات تنقل وتصرف من دون إيصال بالاستلام أو بالدفع)، الأمر الذي أصبح «قانوناً» سائداً لإهدار أكثر من ٨٠٠ بليون دولار خلال الأعوام العشرة الماضية.
في المقابل تضمحل سلطة الدولة وتتفوق قوانين وأعراف العشيرة، خصوصاً في مناطق وسط العراق وجنوبه ويشمل ذلك كثيرين من أعضاء البرلمان العراقي الذين يتبادلون الاتهامات ثم يهدّدون بالمقاضاة عشائرياً في تناقض غريب بين سلطة التشريع المدني وسلطة القوانين العشائرية، حيث استكملت العشيرة الطوق على العلاقات السياسية وتحولت من وحدة اجتماعية الى وحدة سياسية وتجارية تسيطر على النشاط السياسي في مناطقها مدعومة بأعداد كبيرة من المسلحين الذين انضووا في تنظيمات سياسية وعسكرية معاً، وقد شهد العراق أخيراً معارك بين عشيرتين في جنوبه استُخدمت فيها اسلحة متوسطة من قاذفات وصواريخ.
انقسامات شيعية
وفي ما يخص الحديث عن الدستور فإنه معطل في ظل حيرة القوى الدينية الشيعية وانقسامها بين ولاية الفقيه وولاية الحسبة وولاية الأمة على نفسها. وعلى رغم ان المادة الثانية من الدستور تنص على ان الإسلام دين الدولة الرسمي وأنه لا يجوز سن أي تشريع يتعارض مع مبادئ الإسلام، إلا أن الفقرة الثالثة من المادة نفسها التي تنص على أنه لا يجوز سن أي تشريع يتعارض مع مبادئ الديموقراطية قد عطلت تماماً، حيث تدفع مشاريع قوانين كثيرة مقدمة الى البرلمان إلى التضييق على الحريات، مثل مسودة قانون جرائم النشر.
يساعد على ذلك رجال دين يعتبرون انفسهم مرجعيات دينية يشيعون الفتن الطائفية ويغوون عامة الناس بالخرافات التي يأخذ أكثرها شكلاً مضحكاً. وتتكاثر المنابر الطائفية في ظل الصراع الإيراني – الأميركي على جهاز الاستخبارات الذي انشأه الأميركيون عام ٢٠٠٣ وأعادوا إليه مئات الضباط السابقين، ثم «طُعّم» بضباط شيعة في عهد نوري المالكي، لكنه ظل جهازاً قليل المهنية يعاني من صراع للسيطرة عليه، كحال معظم الهيئات الأمنية والعسكرية والإدارية في العراق.
ما يحتاجه العراق الآن هو إعادة بناء سلطة الدولة وهذا لا يتم في ظل الحكومة الحالية. وقد تكون مطالبة الكتل السياسية الحاكمة بالدخول في مساومة تاريخية والتنازل عن امتيازاتها من أجل «الشعب» و «الوطن» وقبول تشكيل حكومة مستقلة تعيد النظر أولاً بقانون الانتخابات الذي يسمح للقوائم الانتخابية التلاعب بنتائج الانتخابات وتقديم نواب هواة وأمّيين، وكثيرون منهم بشهادات مزورة بعدما أصبح التزوير في العراق نشاطاً سياسياً واسع النطاق.
العراق الآن في مأزق في ظل عدم فعالية الدولة وانقسام الحكومة والبرلمان وتفاقم الفساد ووصول العملية السياسية الى طريق مسدود. فهل يبقى العراق قضية رأي عام على «الفايسبوك» أم يشهد تحولاً نحو مستقبل افضل؟
صحيفة الحياة اللندنية