هندسة التناقضات

أسرار المدن…أسوارها

وذاكرة المدن…عشاقها

……………………………………………………………………..

في الذاكرة … عربة يجرّها حصان، استأجرناها للنزهة في شوارع اللاذقية في الخمسينات الماضية من القرن العشرين ، مايزال صوت عجلاتها على بلاط الشارع يتأرجح في سمعي .

الآن … لا خيول ، لا عربات، ولا أسف أيضاً. ذلك لأن كل الاحتمالات واردة: لن يكون ثمة مكان ـ بعد فترة قصيرة ـ لأرجل الناس… لقد رخّصت الصناعات الحديثةـ من إيران والصين إلى أمريكا وأوروبا، سعر الدواليب على هيكل اسمه الحركي القاتل: سيارة!

لا مكان… إن هذا الازدحام المدمر للأعصاب يذكّرني أنا بالأشجار، وبذلك الغَسَق الموسيقي البعيد في مدينتنا الساحلية… حين كنا نتمشى إلى جوار البحر، ووجوه الناس ودودة بقدر ما تستطيع في التجاور واللقاء والبشاشة الدائمة، وحين كانت أعدادنا القليلة حاملة لأحلامنا العديدة.

لقد تلاشى كل ذلك، لقد حدث شيء ما، منذ مدة طويلة، شيء يشبه التدمير الحربي لبيئة السعادة. للهدوء بجرعته المسائية المبتسمة. للبحر وقد سدت روافع مينائه الجديد أرصفة النزهة ومقاهي البشر.

ثمة الآن مراث جاهزة لـ “إرميا” العهد الراهن، التي دمرها أبناؤها.

إرميا الإسمنت، ومباريات الفناء لشاهديتها وشاهقيتها.

انظر إلى هؤلاء، أشقاء السكن في وطن نازح، انظر كيف يسيرون مطأطأة رؤوسهم، إنهم ليسوا ذاهبين إلى أي مكان… بل يمشون كأنما ذاهبون إلى حتفهم، عابسون. يسيل عرقهم، مطرقون ومستعجلون وبطيؤون، وأصواتهم، عندما تعلو كأنها صرخة في كابوس. حتى وهم يعلنون عن سطل حليبهم، أو قفص دجاجهم، يصرخون في استغاثة كأنما هو الصوت الأخير في حنجرة البلاد.

إنهم كأنما يعلنون يوم كساد الإنسان !

وأنا غارق في لغة إرميا التي تخصني ، ذات الأجراس على شاطىء البحر، قلت سوف أذهب إلى شجرتي القديمة، زميلة عصرعربات الخيول . الشجرة التي رثيت موتها الافتراضي ، عندما كنت بعيدا عنها آلاف الاميال :

إذا أتيت من منفاك يوماً، إلى مدينتك التي أحببت،
بعد غياب عسير… ابتسم للشوارع،
فلربما تذكّرك الرصيف الذي عليه مشيت.

إذا أتى بك الحنين يوماً… إلى الشجرة التي في ظلالها لعبت،
ولم تجدها…
انحن قليلاً إلى الأسفل
قليلاً أكثر…
إلى آثار ندبتها في التراب
انحن أكثر…
كمصلٍّ مبتدىء.
انحن حتى جبينك يسامحه الغياب الطويل،
وانتظر مدة دمعتين…
ولسوف، فجأة،
الشجرة التي في ظلالها لعبت…
تورق بين الأنقاض.”

……………………..

ياللهول!!

كما في الفرضيات الآتية من التوقع، حينما يكون لديك نسق معياري للقياس، والتنبؤ… رأيت شجرتي وقد قُطعت. أزيلت ، وبقي سطح جذعها الأسطوري المئوي كشيء زائد في المكان، إلى جوارها آلات حفر، وجرف، وصرف، وثمة مهندس معماري يوجه الروافع إلى طريقها نحو… إسمنت السماء. لم أستطع الاقتراب من الشجرة. لم أستطع ذرف دمعتين. ولم أقل لها ثقتي بأن تورق بين الأنقاض. كان لعريها البدني، ولشكل جراحها الناشفة، وخطوط عمرها فيما تبقى من خذلانها… صورة المفتوك به، المصلوب اليائس، المعذّب ، والصامت !

هذه هي حروب الازدحام…!

وأنا لم أستطع، بكامل حزني، بكامل طفولتنا في تلك المدينة، أن أذرف دمعتين، لا لأن الشجرة العزيزة بعيدة عن وصف الخسارة، بل لأنني لم أعد أحزن. وما تبقى من لغتي لا يكفي، أبداً، لوصف ما حدث لاحقاً، ما يحدث اليوم، ما سيحدث غداً.

أنا الذي خلفي هذا الإرث من الخسائر، منذ المراثي القديمة، حتى يومنا هذا، حيث صار التفجع عزلة الكائن الخاسر… أنا وجدت عزائي بما فعلته في هذه الجملة الايمانية العذبه :

“الإنسان أجمل ازدهارات الطبيعة”

لقد أضفت لها نفيها بـ “ليس“، معتذراً من صاحب الجملة، مهندس التناقضات، الفيلسوف الألماني … هيغل !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى