تاريخ

هنري كيسنجر في عيده المئة: عن مجرم حرب وسلم

ظُلمَ هنري كيسنجر في العالم العربي وظُلم أكثر في لبنان. وهو ظُلم بالمعنى نفسه الذي ظلم فيه أرييل شارون في إسرائيل. الليبرالية الغربية والليبرالية الإسرائيلية أرادتا أن تحمّلا كل آثام الغرب وإسرائيل وجرائمهما إلى شخص واحد فقط. الشرّير هو الاستثناء، والخير هو القاعدة. كما أن الليبراليّة الأميركية أرادت أن تجعل من دونالد ترامب استثناءً لتاريخ أميركي طويل من التحالف مع الأنظمة الاستبدادية: لم تقلّ انحناءات بايدن لطغاة الخليج عن انحناءات ترامب. هنري كيسنجر كان أكثر شهرةً من بين كل وزراء الخارجية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، أو حتى قبلها. لكنه حتماً لم يكن استثناءً في السياسات المُخادعة والتحالفات الخبيثة والحروب العلنية والسرية لأميركا. كيسنجر أصبح مفيداً للدعاية الأميركية، وخصوصاً في جناحها الليبرالي، كما أن أرييل شارون كان مفيداً للدعاية الإسرائيلية. وهذا يسري أيضاً في أميركا بالنسبة إلى مؤسس «مكتب التحقيقات الفيدرالي»، جي إدغار هوفر، الذي تحول في السرديّة الأميركيّة الجديدة إلى رجل «فاتح على حسابه»، مع أن كل خروقات الحقوق المدنية للمواطنين والمواطنات في هذه البلاد جرت أيضاً عندما كان روبرت كندي الليبرالي وزيراً للعدل.

كيسنجر عنوان لمرحلة من السياسات الأميركيّة المتوحّشة، وهذه السياسات والحروب التي صاحبت حقبته كان ممكناً جداً أن تجري من دونه. هو عنوان مراوغ لأن البروباغندا الأميركيّة جعلت منه عبقريّاً ورجل دولة. فساد كيسنجر في الحكم لم يزل بعد خروجه من الحكم. عرف كيف يغرف من سمعته في العالم، فأصبح مستشاراً معتمداً للشركات المتعدّدة الجنسيّة، ليس بسبب خبرته في عالم الاقتصاد والمال، بل لأن وجوده في الوفود يفتح أبواب الحاكم. يكفي أن يصطحبه رئيس شركة «أميركان إكسبرس» أو «بيبسي» إلى الصين، كي يستقبله حاكم الصين. راكم ملايين من هذه الخبرة.

نتحدّث عن كيسنجر بمناسبة احتفاله قبل أسبوع بعيد ميلاده المئة. عمّرَ مجرم الحرب والسلم. في لبنان، ليس له سمعة عطرة، لا عند القوى اليمينيّة ولا عند قوى اليسار، وريمون إده جعلَ منه المُتحكِّم بمقدّرات البلد في كل سنوات الحرب. لكن جنبلاط تذكّره فجأة بعد اغتيال الحريري، يوم أسفر جنبلاط عن وجهه السياسي الحقيقي (أخيراً) واعترف بأن عقيدة بوش ألهمته وأنه يعوِّل على أرييل شارون ومحمود عبّاس لحلّ القضيّة الفلسطينيّة. يومها زار جنبلاط أميركا وجال يقدِّم الاعتذارات ذات اليمين وذات الشمال، محاولاً أن يخفي مرحلة خجل منها في رئاسة الحركة الوطنيّة. اعتذر عن خطب له وعن هجاء لبول وولفويتز. والطريف أنه طلب من السفارة الأميركيّة تدبير اجتماع له مع هنري كيسنجر. استقبله الأخير لبعض دقائق، وقال جنبلاط إنه سأله عن انطباعاته عن أبيه (لم يعرفه). كأن كيسنجر يعرف من هو وليد جنبلاط ومن هو إلياس الهراوي ومن هو فؤاد شبقلو.

هنري كيسنجر كان مؤثراً في السياسة الخارجية الأميركية منذ أوائل الستينيات. ارتبط هنري كيسنجر منذ سنواته طالباً في الدراسات العليا في جامعة هارفرد بما يسمى في العلاقات الدولية بـ«السياسة الواقعية»، أي تلك التي تعتبر أن السعي لنيل القوة، والحفاظ وتعظيم القوة، هو أساس مسعى الدول، كل الدول. مصلحة الدولة تعلو على أي أهداف أو قيم سامية. لا يعترف كيسنجر بالقيم السامية، وحتماً لا يعترف بالأخلاقيّات. وفي كتابه الأول عن «الأسلحة النووية والسياسة الخارجية الأميركية»، زرع كيسنجر فكرة «واقعية» (في مصطلح نظريّات السياسة الدوليّة) عن صوابيّة وجواز شنّ «حرب نووية صغيرة»، أي الحرب التي يمكن فيها استعمال أسلحة نووية تكتيكية (ذات القدرة التدميرية الأقلّ من الأسلحة النووية الأكبر).

هنري كيسنجر لم يكن راضياً عن صراع بين الجبارين لا يُستسهل فيه استعمال السلاح النووي. يريد أن يكون استعمال السلاح النووي مدرجاً من قبل فرق عسكرية صغيرة في الميدان. وهذا المفهوم وهذا النقاش الذي بدأ في أواخر الخمسينيات واستمرّ في الدوائر العليا في أميركا يختلف جذرياً عن التفكير السوفياتي في السياسة الدوليّة نحو الحرب الباردة. الاتحاد السوفياتي كان بالفعل يسعى نحو السلام العالمي، بالرغم مما لحق من هذا الشعار من تشويه وتسخيف من قبل أجهزة البروباغاندا الأميركية (وظهر ذلك جلياً في أدواتها في العالم العربي). واحد من أسباب فوز أميركا على الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة أنها لم تكن تمانع البتّة في تعريض السلم العالمي للخطر لزيادة نفوذها والحفاظ على تفوّقها العسكري في العالم. أميركا لم تكن تخشى لعبة حافة الهاوية، وتلك لعبة لم تكن واردة في حسابات القيادة السوفياتيّة المحافظة والمتحفظة. (حتى بعد نهاية الحرب الباردة، استسهلت أميركا النظر في خيار استعمال الحرب الباردة، وجيمس بيكر، في اجتماعه الشهير مع طارق عزيز شباط ١٩٩١، هدّده رسميّاً باسم الحكومة بالسلاح النووي إذا ما استعملت القوّات العراقيّة سلاحاً كيمائياً – لم تكن تمتلكه أصلاً).

هنري كيسنجر سعى إلى السلطة، أو إلى التقرب من سلطة القرار، منذ عهد جون كينيدي الديموقراطي. وكان في أوائل الثلاثينيات من عمره. وإذا كان الحكم في الستينيات ديموقراطياً، فلا ضير في أن يكون هنري كيسنجر ديموقراطيّاً. هو على الصعيد الشخصي، يمارس ما روَّجَ له في نظريّات العلاقات الدولية (من دون اعتبار للأخلاقيّات)، وسعى نحو التقرّب من السلطة بهدف المشاركة في صنع القرار. وانتخابات ١٩٦٨ كانت حاسمة، لا بل محرجة بالنسبة إليه. هل هو يجنح نحو المرشح الديموقراطي، هيوبرت همفري، أم هو يجنح نحو المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون آنذاك؟ وجد كيسنجر الحل المألوف بالنسبة إليه، أي الحلّ الذي لا يعتمد على معايير أخلاقية أو أيديولوجية تعيق تقدّمه في السعي للاقتراب من مركز القرار. وكان أن عمل مستشاراً للحملتيْن المتصارعتيْن: يمدّ حملة نيكسون بالمشورة كما يمد حملة همفري بالمشورة، ومثل لعبة النرد، ينتظر كيف يقع. وكان أن فاز ريتشارد نيكسون بالرئاسة وأصبح هنري كيسنجر مستشاره لشؤون الأمن القومي (كان كيسنجر يتوقّع أن يتولّى مسؤوليّة أقلّ مرتبة بكثير). ومنذ أن تولّى المنصب، سعى هنري كيسنجر إلى الاقتراب أكثر فأكثر من مركز القرار، وكان يجيد عصر المنصب للحصول على أكبر قدر من النفوذ ولو ضايق ذلك زملاءه في المسؤوليّة. صحيح أن المستشار لشؤون الأمن القومي للرئاسة يتميز عن وزير الخارجية بأنه يرى الرئيس بصورة يومية، ومكتبه ملاصق للمكتب البيضاوي في البيت الأبيض. إلا أن السمعة والهيبة تكونان من حصة وزير الخارجية لا من حصة مستشار الأمن القومي الذي يُطلب منه عادة الابتعاد عن الأضواء. ولعب هنري كيسنجر لعبة السلطة بمهارة فائقة، وكان يعرف كيف يحارب خصومه في داخل الإدارة وكيف يسرق من صلاحيّات وزير الخارجية وكيف يجري اجتماعات ولقاءات من دون المرور في الأقنية الديبلوماسية الرسمية. كان يطلب من السفير السوفياتي في واشنطن، أناتولي دوبرينين، الدخول من الباب الخلفي للبيت الأبيض كي لا يكون للزيارة خبرٌ في الإعلام، ما قد يغيظ وزير الخارجية المُنافس. وعانى وزير الخارجية، ويليام روجرز (الذي طبع اسمه مشروع روجرز، السيئ الذكر) من ممارسات كيسنجر إلى أن ضاق ذرعاً واستقال وكانت الاستقالة طريقاً لتسجيل سابقة: يوم كان رجلٌ واحدٌ يتولّى في آن منصب مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية. وعلّق كيسنجر بعدها بالقول إنه لم يسبق أن توافقَ مستشار الأمن القومي مع وزير الخارجية في التاريخ المعاصر إلا عندما جمعَ المنصبيْن في شخصه.

إنّ الجرائم التي تُنسب إلى كيسنجر صحيحة، لكنها جرائم إدارات أميركية متعاقبة. لم يكن الرجل مصاباً بلوثة عقلية دفعته إلى ارتكاب جرائم هنا وهناك، بل كان منظّراً لسياسة إمبريالية تستمرّ مع تعاقب الإدارات

لا أنظر ببراءة إلى السرديّات التي تعظّم من شأن هنري كيسنجر وتجعله وحده مسؤولاً عن سياسات وحروب، كما أنني لا أنظر ببراءة إلى السرديّات التي تجعل من أرييل شارون مسؤولاً عن سياسات وحروب عبر العقود. إنّ المسؤولية عن السياسات الأميركية وعن الحروب والغزوات هي من صنع نخبة حاكمة تضم في صفوفها جمهوريّين وديموقراطيين، كما تضم ليبراليّين ومحافظين. إنّ الاقتحام الأوروبي من قبل حلف شمال الأطلسي الدائر اليوم يحظى بدعم من كل قيادة الحزب الديموقراطي وحتى من أعضاء الكونغرس اليساريين، بمن فيهم عصبة الأربعة (في إشارة إلى أربعة نواب نساء من الحزب الديموقراطي اللواتي عُرفن بمواقفهنّ اليسارية المتطرفة بالاعتبار الأميركي).

كتب كريستوفر هيتشنز كتاباً (محاكمة هنري كيسنجر) بات معروفاً بفضحه وتفصيله لجرائم حرب كان كيسنجر مسؤولاً عنها، لكن كتابه لا يتطرّق إلى منطقة الشرق الأوسط بتاتاً. والتحولات التي أصابت عقيدة هيتشنز في سنواته الأخيرة، أي التحول من أقصى اليسار إلى اليمين الإمبريالي، مسؤولة ربما عن إغفاله لإدراج منطقة الشرق الأوسط في كتاب يتحدث عن جرائم كيسنجر. لا، ترك هنري كيسنجر بصماته على عدد من ملفات الشرق الأوسط. هو وغيره في الإدارة. هو ووزير الدفاع الأميركي ووزير الطاقة، قرّروا في حينه أن الحكومة الأميركية يجب أن تعدَّ خططاً من أجل الاستيلاء على مصادر النفط في الشرق الأوسط مهما كان إذا ما تعرّض إمداد النفط لحظر من قبل حكومات العرب. وليس صحيحاً أنه كان مهووساً بالملف اللبناني على ما صوّر سليمان فرنجية أو ريمون إده. لا، كيسنجر كان جزءاً من فريق ربط السياسات الأميركية بالميليشيات الانعزالية في مرحلة التحضير للحرب ومرحلة إشعال الحرب ومرحلة الإشراف على تدخل الجيش السوري في لبنان لمصلحة تلك الميليشيات. لم يكن كيسنجر يوماً خبيراً أو ضليعاً بشؤون الشرق الأوسط. كل ما كان يحتاج إليه كان يجده في تعاطيه المباشر مع حكام العرب وأقام علاقات شخصية مع حافظ الأسد ومع الملك فيصل ومع الملك حسين، وطبعاً، قبل كل شيء مع أنور السادات (الذي كان يناديه بـ«العزيز هنري». ومحمد حسنين هيكل، الذي كان قريباً من السادات في تلك الفترة، زها بكتاباته بمعرفته بكيسنجر). ما فعله كيسنجر بنجاح، وبموافقة الأنظمة التي تعاطى معها، أنه شرذمَ التفاوض العربي عن فلسطين. قبل ١٩٧٠، رسّخَ جمال عبد الناصر مبدأ الحل الشامل والعادل. والحل الشامل كان يحرِّم إقدام أي طرف عربي على التفاوض المنفرد لحلّ منفرد مع إسرائيل، من دون إدراج هذا التفاوض من ضمن حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية الأم (طبعاً، حتى التفاوض ومشروع روجرز كان خطأً وهو أدّى إلى فتح أبواب «مسيرة السلام» التي لم تكن أكثر من خديعة كبرى للعرب). كيسنجر، وخصوصاً في علاقاته مع أنور السادات، فصلَ شؤون المفاوضات العربية مع إسرائيل عبر أميركا عن شؤون المفاوضات حول القضية الفلسطينية. أصبحت القضية الفلسطينية مذّاك تبحث عن رعاية عربيّة رسمية فلا تجدها. ياسر عرفات ساهم في خطة كيسنجر من خلال رفعه للشعار الفارغ عن «استقلالية القرار الفلسطيني»، ولم يكن يعني به غير حقه في التنازل والمساومة عن الحق الفلسطيني من دون تلقّي أي نقد عربي لموقفه (كان عرفات يريد من رفع الشعار الحصول على حق التخاطب مباشرة مع أميركا). ياسر عرفات مثّل النموذج الفلسطيني لِما أراده كيسنجر من خلال شرذمة الصفّ العربي. كيسنجر كان وراء تحريم وتجريم أي نوع من التعامل والتعاطي مع منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن ترضخ بالكامل لشروط إسرائيل، بما فيها نبذ وإدانة الكفاح المسلح، بلغة إسرائيل في محاربة الشعب الفلسطيني. ولم يحظَ عرفات بشرف التخاطب المباشر مع أميركا إلا بعدما رضخَ مستسلماً لشروط هنري كيسنجر. اتفاق سيناء في صيف ١٩٧٥ بين مصر وإسرائيل كان تماماً ما قيل عنه في أدبيات اليسار في تلك المرحلة، وإن كان اليسار لم يعدّ العدة لمواجهة مضاعفات وتداعيات هذا الاتفاق الذي وضع مصر في صف العدو الإسرائيلي (كمال جنبلاط أيّد اتفاق سيناء وموقف السادات ونال تقريعاً من «جبهة الرفض» حول موقفه). ومصر كانت تتدخل في الشأن الفلسطيني منذ ذلك الحين، وفي عهود متعاقبة (من السادات حتى السيسي بما فيها مرحلة الإخوان المسلمين القصيرة) حصراً بطلب من إسرائيل لمصلحة إسرائيل. لم يكن يعني لبنان لهنري كيسنجر والإدارة الأميركية إلا الساحة التي يمكن فيها استعمال الجيش اللبناني للقضاء على المقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني المتمركز. وسياسة دعم الميليشيات اليمينية لم تبدأ على يد هنري كيسنجر ولم تنتهِ به. المرحلة الذهبية في تلك العلاقة كانت في عهد رونالد ريغان حيث لم يكن لكيسنجر أي دور رسمي باستثناء مهمات كان يوكله بها في أميركا اللاتينية وغيرها. زيارة شارل مالك في عهد ريتشارد نيكسون في مطلع السبعينيات لطلب المزيد من السلاح لمصلحة الميليشيات كانت سياسة تلاقٍ بين مصالح اليمين اللبناني الانعزالي الطائفي وبين مصلحة إسرائيل وأميركا.

هل صحيح أن كيسنجر أعدَّ خطة لتقسيم لبنان؟ ليس من دليل على ذلك في الوثائق الأميركية المنشورة. على العكس، كان إصرار بشير الجميل واليمين في مطلع الحرب على إنشاء كانتون طائفي يميني رجعي يثيرُ حفيظة واشنطن. واشنطن كانت تؤمن بالحفاظ على لبنان موحداً لأن تقسيمه كان يعني اعترافاً بشرعية كيان لبناني مُقابل يخضع لسيطرة منظمة التحرير واليسار اللبناني. أميركا كانت تريد أن يستمرّ الحكم الطائفي الرجعي اليميني في لبنان حتى مع تقديم بعض التنازلات إلى الطرف الإسلامي (وليس إلى الطرف اليساري). مشروع التقسيم تعارض مع مصلحة أميركا في فرض نفوذها على كل لبنان وتعارضَ أيضاً مع مصلحة إسرائيل في فرض نفوذها على كل لبنان. وهنا كان تأثير صعود «الليكود» في ١٩٧٧ من حيث رعاية مشروع بشير الجميل. وليس شعار 10452 كيلومتراً مربّعاً إلا عنواناً لإصرار إسرائيل على فرض هيمنتها على كل لبنان، بما فيها تلك المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة منظمة التحرير والنظام السوري.

إنّ الجرائم التي تُنسب إلى كيسنجر صحيحة، لكنها جرائم إدارات أميركية متعاقبة. لم يكن الرجل مصاباً بلوثة عقلية دفعته إلى ارتكاب جرائم هنا وهناك، بل كان منظّراً لسياسة إمبريالية تستمرّ مع تعاقب الإدارات. وها هي إدارة بايدن تمعنُ في الشرور وفي تفجير الصراعات والحروب وتوتير الساحة الدولية أكثر بكثير من إدارة ترامب التي كان يقال عنها بأنها ستؤدي إلى الجنون على الصعيد العالمي. وكينسجر في مقابلته الطويلة (جداً) مع «إيكونومست» قبل أسابيع بدا أقلّ تهوّراً وجموحاً من بايدن. وفي تلك السياسة التي لا يزال يُقال عنها إنها تختصر عبقرية كيسنجر، أي اختراق المثلّث العالمي، الصيني – السوفياتي-الأميركي، عبر تشكيل حلف خلفي صيني – أميركي وذلك لعزل الاتحاد السوفياتي على الساحة الدولية، لم يكن من بنات أفكاره بل من اجتراح نيكسون الذي كان قبل سنوات قد كتب مقالة في هذا الصدد في مجلة «فورن أفيرز»، مُعاكساً فيها تاريخاً طويلاً له في معاداة للشيوعيّة.

كيسنجر معروفٌ في كل أنحاء العالم لأنه كان الوجه غير اللطيف للسياسة والحروب الأميركية على مدى إدارتيْن أو أكثر قليلاً، بحكم تعاقده مع إدارات ديموقراطية قبل قبل عهد ريتشارد نيكسون. هذا رجلٌ كان يؤمن بصوابيّة القصف المجنون على كمبوديا أو غيرها من دون وجود أهداف عسكرية وذلك لتحقيق نقاط سياسية في مفاوضات كانت تجري في باريس. لكن هذا ليس جديداً في أميركاً. ماذا نسمّي حرق الأحياء، مربعاً مربّعاً، من قبل القاذفات الأميركية فوق طوكيو في الحرب العالمية الثانية، حتى قبل رمي القنابل النووية؟ أما الانقلاب على الحكم الديموقراطي في تشيلي واغتيال سلفادور الليندي فهذا ما كانت أميركا تفعله قبل كيسنجر وبعده، ولا تزال تفعله إلى الآن. أميركا قتلت الحاكم الليبي معمر القذافي لأنها كانت تفضّل أداة أكثر مطواعية منه. أميركا شنقت الحاكم العراقي صدام حسين لأنها أرادت ترميز سطوتها وجبروتها أمام الرأي العام العربي ولكسب تعاطف طائفي من قبل شيعة العراق. كان كيسنجر يستسهل، على طريقة فؤاد السنيورة وأحمد فتفت، الكذب حول ما كانت تفعله الإدارة الأميركية. هو يلوم الاتحاد السوفياتي على تقسيم قبرص من أجل زعزعة حكم ماكاريوس الشجاع. أميركا كانت في عهده، وبعده، تفضّل حكم جنرالات الاستبداد التركي على الحكم الديموقراطي هناك.

لم يكن هنري كيسنجر أول من رأى فوائد التحالف مع الحكم العنصري في جنوب أفريقيا، لكنه أول مسؤول أميركي يؤمن بعقيدة تفوّق العنصر الأبيض (وكان أوّل وزير خارجيّة يزور جنوب أفريقيا العنصريّة بعد سنوات من الامتناع). إنّ كتاب سيمور هيرش «ثمن السلطة» يتضمن الكثير عن العقلية العنصرية البغيضة لنخبة الحكم في أميركا في عهد ريتشارد نيكسون. عليك أن ترى الصورة، هنري كيسنجر مع رئيس وزراء جنوب أفريقيا في ذلك الحين، كي يظهر أمامك وبوضوح شديد زيف كل الادعاءات الأميركية عن الحريات وعن الديموقراطية وعن القيم السامية في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفياتي. وكان كيسنجر متفوّقاً في الصغائر وكان نيكسون يعاقبه بحظر دعوته إلى المآدب الرسميّة في البيت الأبيض.

هناك مفارقة حزينة في أن يحتفل غيرنا بعيد ميلاد هنري كيسنجر. هذه المناسبة قد تستدعي التجديف عند البعض في السؤال عن تلك العدالة الإلهية التي تسمح بأن يموت غسان كنفاني في سن السادسة والثلاثين وأن يعمِّر كيسنجر حتى سن المئة. ما هي الرسالة التي يمكن استخلاصها من أن يمشي هنري كيسنجر على وجه الأرض كل هذه السنوات والعقود وأن لا يواجه عقوبة على جرائمه في كل أماكن الأرض؟ نحن في العالم العربي لنا الشرف في معارضته بشدّة قبل أن يصبح ذلك موضة في العالم، وقبل انكشاف الكثير من المستور عن جرائمه. لكن الحرب اللبنانيّة لم تكن خطة مقرونة باسمه، بل كانت مؤامرة كبيرة شاركت فيها بحماسة، أحزاب لبنانيّة يمينيّة، وبالتوافق مع أميركا وإسرائيل (قبل عهد كيسنجر وبعده).

 

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى