هواجس متبادلة: مستقبل العلاقة بين الجيش والحكومة التركية بعد عزل مرسي (محمد عبد القادر خليل)
محمد عبد القادر خليل*
أدت المؤسسة العسكرية أدوارا أساسية في الحياة السياسية التركية على مدى العقود الثمانية الماضية، سواء من خلال اضطلاعها بالدور الرئيسي في تأسيس الجمهورية التركية المعاصرة عام 1923، بمقتضى اتفاقية لوزان، أو عبر قيامها بأربعة انقلابات على الحكومات السياسية، جاءت في لحظات مفصلية، حيث بدا من وجهة نظرها أن الدولة يتهدد أمنها بسبب عدم الاستقرار السياسي جراء الائتلافات الحكومية الهشة، أو بسبب ما رأته بمثابة انتهاك صارخ لمبادئ الجمهورية الأتاتوركية الستة، والتي يأتي على رأسها علمانية الدولة.
وعلى الرغم من السيطرة شبه الكاملة لحكومة حزب العدالة والتنمية على أغلب مؤسسات الدولة، ومن ضمنها المؤسسة العسكرية، فإن اضطلاع الجيش المصري بدور أساسي في عزل الرئيس السابق محمد مرسي، نتيجة انحيازه للإرادة الشعبية، قد أعاد طرح تساؤلات تتعلق بأنماط العلاقات بين الجيش والحكومة المدنية بتركيا، لا سيما بعد إقدام الجمعية الوطنية المسيطر عليها من قبل حزب العدالة والتنمية على تغيير قانون الخدمة الداخلية، والمعروف باسم القانون 35 لعام 1961، والذي أناط بالجيش مسئولية حماية الدولة في مواجهة أعدائها الداخليين والخارجيين على حدا سواء.
وقد أفضى ذلك إلى تأكيد أن مهام الجيش أضحت تتعلق فحسب بحماية الجمهورية التركية من التهديدات والمخاطر الخارجية، والقيام بالمهام التي يحددها البرلمان، وذلك في انعكاس واضح لطبيعة المخاوف التركية مما سماه وزير الخارجية التركي "الدومينو السلبي". وقد تم هذا التعديل بدعم من أحزاب المعارضة باستثناء حزب العمل القومي، الذي رأى أن التعديل من شأنه أن يعيق مهمة الجيش في مكافحة "التمرد التركي".
الدور التاريخي للجيش التركي
على الرغم من أن الدور الأبرز للجيش التركي في الحياة السياسية يرتبط بعقود ما بعد تأسيس الجمهورية التركية الحديثة، فإن هذا الدور تجذر في واقع الأمر بالمجتمع التركي حتى مرحلة ما قبل إعلان الجمهورية الأتاتوركية الحديثة، فقد لعبت المؤسسة العسكرية، إبان الدولة العثمانية، دورا ملموسا في تحديد طبيعة مخرجات وهوية القائمين على الحياة السياسية. ففي عام 1978 ، نفذ الجيش انقلابا على السلطان عبد العزيز، وحل محله السلطان عبد الحميد الثاني. ومع ما رآه البعض من مظاهر استبداد من قبل هذا الأخير، نفذ ضباط "جمعية الاتحاد والترقي" بقيادة مصطفى كمال (1881-1938) انقلاب عام 1909.
ومع انهيار السلطنة العثمانية، بعد مرور سنوات قليلة على تنفيذ ذلك الانقلاب، تولى أتاتورك قيادة البلاد، ولم تكن سلطته ببعيدة عن سلطة العسكر، بل كانت تجسيدا لها من خلال سيطرته هو ورفاق من العسكر على الحياة السياسية بعد تأسيسهم لحزب الشعب الجمهوري، ليتحول أتاتورك من القائد العسكري الأبرز إلى الزعيم السياسي الملهم. ومع التحول الديمقراطي في عام 1946، لعب العسكر دورا أساسيا في الحفاظ على سلامة واستقرار الدولة ضد الأخطار الداخلية، بما دفعهم إلى الانقلاب على الحكومات المنتخبة في 27 مايو 1960 ، و2 مارس 1971 ، و12 سبتمبر 1980، هذا بالإضافة إلى انقلاب "ما بعد الحداثة" ضد حكومة الراحل نجم الدين أربكان في 28 فبراير 1997.
وقد ارتبط تدخل الجيش طيلة هذه العقود بعسكرة مجلس الأمن القومي (أو ما يعرف بمجموعة عمل الغرب) الذي أنشئ بعد انقلاب عام 1960، ولعب دورا أساسيا في الحياة السياسية التركية، من خلال توصياته التي رغم ما تتسم به من استشارية، فإنها تمتعت بصبغة إلزامية لكافة الحكومات المنتخبة، بما جعل النخب غير المنتخبة في كثير من الأحيان تبدو قادرة على صنع السياسة، مقارنة بالنخب المنتخبة، ليعبر ذلك عن تصدر القوات المسلحة مركز الصدارة في الحفاظ على التوجه التغريبي (أو ما سموه تأسيس الحضارة المتماشية مع الزمن)، وإبعاد أي مظهر من مظاهر الأسلمة عن الحكم والحياة العامة، بحيث تصبح تركيا على قدم مساواة مع جيرانها الأوروبيين.
وقد استخدم الجيش التركي هذا الشعور لتبرير التدخل السياسي، لا سيما عند تصاعد حدة الاستقطاب المجتمعي، وتدهور الأوضاع السياسية، وشلل النظام السياسي في البلاد. ففي عام 1959 ، قاطعت المعارضة البرلمان التركي، وهددت باللجوء للشارع لمواجهة ما سمته أسلمة المجتمع، والتضييق على حرية التجمع والصحافة. وفي أبريل، اتسعت احتجاجات الطلبة، وازداد نطاق التوتر بين الحزب الديمقراطي الحاكم، بقيادة عدنان مندريس، وأحزاب المعارضة، بما دفع الجيش، من خلال حركة "صغار الضباط"، للتدخل لاستعادة السلم الاجتماعي، بقيادة الجنرال جمال غورسيل.
ورغم ما صاحب ذلك من انتهاكات صارخة من قبل الجيش، فإنه عاد وكرر التجربة ذاتها عام 1971، حينما اتسع نطاق المواجهات الدامية بين اليسار المتشدد واليمين القومي بين عامي 1965 و1969، لتنخفض قيمة العملة، ويرتفع العجز في ميزان المدفوعات، وتتضاعف معدلات التضخم، بالتوازي مع تصاعد أعمال العنف، واستهداف المؤسسات العامة، وعجز رئيس الوزراء الراحل، سليمان ديميريل، عن الحفاظ على النظام العام، بما جعل التدخل، من وجهة نظر الجيش، وسيلة الحفاظ الوحيدة على سلامة الدولة.
وبين عامي 1971 و1980 ، كانت هناك إحدى عشرة حكومة ائتلافية، أفضت إلى مشكلات اقتصادية تفاقمت بسبب حظر تصدير النفط بسبب حرب أكتوبر عام 1973. وفي 12 سبتمبر 1980، قام الجيش بإنهاء العملية السياسية، واعتقل نحو 138 ألف شخص، وفرض قوانين تقيد حرية التظاهر، وتم إنشاء مجلس الأمن القومي، وأخضع المجتمع بالكامل لسلطة الجيش الذي فرض رقابة صارمة على الإعلام والمؤسسات التعليمية. ورغم فوز حزب الرفاه (RP Partisi) عام 1996 بنحو 21 في المائة من أصوات الناخبين ليحصل على نحو 158 من أصل 550 مقعدا، بما دفعه إلى التحالف مع حزب الطريق القومي (Dogru Partisi) بقيادة تانسو تشيلر، فإن سياساته المحلية والخارجية دفعت الجيش للتدخل لدفعه إلى الاستقالة.
ومع أن تدخل الجيش في الحياة السياسية مثل إحدى أهم إشكاليات الاستقرار السياسي، وإحدى أكبر نواقص العملية الديمقراطية في تركيا، على النحو الذي كانت له تداعيات سلبية عديدة، سواء على الأحزاب، أوقياداتها الحاكمة التي كان يحظر عليها ممارسة السياسة، فإن المؤسسة العسكرية كانت المؤسسة الوحيدة الكفيلة بمواجهة النزاعات الاستبدادية من قبل الحكام المدينين. وقد أثبت الجيش التركي التزامه بالدستور والقانون، من خلال اعتبار أن التدخل العسكري يمثل الملاذ الأخير للحفاظ على سلامة البلاد، كما أنه التزم بتسليم مقاليد الحكم بعد ذلك إلى السلطة السياسية المنتخبة.
"العدالة" والجيش
انطلاقا من تعرض رجب طيب أردوغان لعقوبة السجن، جراء إلقائه قصيدة للشعر رآها القضاء التركي تمثل تهديدا للسلم الاجتماعي في تركيا، إضافة إلى قيام الجيش والقضاء بلعب دور أساسي في حظر العديد من الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية، فإنه قد رأى، حينما بلغ سدة السلطة عام 2002، أن التحدي الأساسي الذي يواجهه يتمثل في تفكيك كافة البنى التقليدية التي تسيطر على السلطة فيما يطلق عليها "الدولة العميقة"، واستغل في ذلك الرغبة الجامحة من قبل مؤسسات الدولة، وقطاعات شعبية واسعة للالتحاق بالاتحاد الأوروبي، فأخذ على عاتقه إجراء الإصلاحات القانونية والدستورية لتقليم "أظافر العسكر"، ولتأكيد أن النخب العسكرية ليست بديلا عن النخب السياسية.
ارتبط ذلك بمجموعات أو حزم الإصلاحات القانونية التي تصدت لها الجمعية الوطنية التركية على مدى العامين 2003 و2004، والتي أسهمت في الحد من سلطات الجيش، بعد تحويل مجلس الأمن القومي من الصبغة العسكرية إلى الصيغة المدنية، أي تحويل "مجموعة عمل الغرب" إلى "مجموعة عمل الجمهورية". كما تم تعيين أول مدني أمينا عاما للمجلس في أغسطس 2004، وهو الدبلوماسي محمد يغيت، وقد تم إخضاع بعض بنود نفقات الجيش لتدقيق "ديوان المحاسبة".
وعلى الرغم من ذلك، فقد مثل عام 2007 العام المفصلي في طبيعة العلاقة بين الجيش والحكومة التركية، وذلك لسببين، أولاهما ارتبط بقدرة الحزب على تعزيز شعبيته، ونجاحه في امتحان المواجهة الذي اندلع في العام ذاته، حينما حاول الجيش توجيه إنذار للحكومة، أفشلته انتخابات يوليو 2007، التي عززت شعبيته من 43 في المائة إلى 47 في المائة.
ثانيهما تمثل في إقدام رئيس الأركان وقادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة التركية على الاستقالة في 29 يوليو 2007، وذلك بعد اعتقال نحو 250 من القادة العسكريين المتقاعدين، بمن في ذلك العشرات من الجنرالات والأدميرالات، فضلا عن اتهام عدد كبير من الجنود رفيعي المستوى، وذلك نتيجة اتهامهم بالتورط فيما سمى "تنظيم أرغنيكون"، أو "المطرقة الحديدية"، والذي استهدف الانقلاب على حزب العدالة والتنمية. ولم تنقطع سلسلة الملاحقات على مدى السنوات الست الماضية، ليصبح بالنهاية واحد من كل خمسة جنرالات معتقلا داخل السجون التركية، هذا بالإضافة إلى استقالة المئات من القادة والضباط جراء سياسة الاعتقال الممنهج التي اتبعتها الحكومة حيال الجيش التركي.
وقد أفضى ذلك، على جانب آخر، إلى خلل هيكلي داخل صفوف المؤسسة العسكرية، حيث باتت تعاني غياب الجسم الصلب للعديد من الرتب العسكرية، على النحو الذي جعل القوات البحرية التركية، على سبيل المثال، تعاني عدم توافر قيادة مناسبة تستطيع تولي المسئولية عنها، بعد استقالة الأدميرال نصرت غونر، الذي كان يعد الرجل الثاني في القوات البحرية، وذلك بعد استقالة قائد هذه القوات في أغسطس 2012.
وقد تفاعلت هذه القضية، ولا تزال، ليستغلها حزب العدالة للقضاء على كل خصومه داخل الجيش. ففي سبتمبر الماضي، أصدر القضاء التركي أحكاما قاسية بحق نحو 300 ضابط في أول حكم ضمن سلسلة محاكمات مثيرة للجدل، انتقدتها المعارضة، ورأتها اضطهادا سياسيا، وحكمت محكمة سيليفري (50 كم غرب اسطنبول) بالسجن عشرين عاما على القائد السابق، جتين دوغان، العقل المدبر لـ"تنظيم المطرقة"، وإبراهيم فرتينا، القائد السابق لسلاح الجو، وأوزدن أورنيك، القائد السابق لسلاح البحرية. كما حكم على 78 ضابطا بالسجن 18 سنة، و246 آخرين بالسجن 16 عاما، فيما خفف حكم 28 منهم إلى 12 سنة لحسن سيرتهم، وقد أدينوا جميعا على مستويات مختلفة بمحاولة استخدام القوة لتعطيل عمل الحكومة، وهى جريمة يعاقب عليها بالسجن "مدى الحياة"، غير أن المحكمة أعلنت تخفيف الحكم، لأن الجريمة لم ترتكب، بالرغم من إرادة المتهمين، ليسيطر بذلك تماما على القوات المسلحة التركية، لا سيما بعد أن كان الحزب قد قام في 12 سبتمبر من عام 2010 بإجراء تعديلات دستورية تستهدف إخضاع الجيش للمحاكمة أمام المحاكم المدنية، حتى ولو كان في الخدمة الفعلية، كما تتيح محاكمة قادة انقلاب 1980.
الجيش والاحتجاجات الشعبية
على الرغم من سيطرة أردوغان على كل مقاليد السلطة في تركيا، وارتفاع شعبيته، فإنه لا يمكنه إغفال الدور السياسي لجنرالات تركيا، خصوصا بعد اندلاع موجة المظاهرات الأخيرة في المدن التركية المختلفة ضد سياسات حزب العدالة والتنمية، وتبلور ما يمكن أن نطلق عليه حركات احتجاجية شبابية جديدة، تعترض على نزعة أردوغان السلطوية، وممارساته الأبوية، هذا بالإضافة إلى تحول ساحة تقسيم باسطنبول إلى رمز للاحتجاج ومعارضة السلطة الحاكمة، وذلك على غرار ميدان التحرير في مصر.
وعلى الرغم من نجاح الحكومة التركية في مواجهة حركة التظاهر، والتقليل من شدتها، وتحجيم نطاقها، فإن المتظاهرين بدورهم باتوا يطورون أشكالا جديدة للاحتجاج كالتظاهر الصامت على مقربة من ساحة تقسيم دون الدخول إلى الساحة ذاتها لتجنب المواجهة مع قوات الأمن، والتظاهر بالتزامن مع بعض الأحداث العامة، كالتظاهرات التي رفعت الأعلام التركية أمام مقر رئاسة الأركان التركية للمرة الأولى في تاريخ تركيا، احتجاجا على عدم تدخله في الأمور الجارية في البلاد. ويأتي في هذا النطاق أيضا التظاهر بالتزامن مع موعد بدء الجلسة الأولى لمحكمة التمييز في يوليو 2013، في "قضية المطرقة" التي صدرت فيها أحكام بحق الجنود والجنرالات المتهمين.
هذه التطورات، سواء على الساحة المحلية في أنقرة، أو الإقليمية، خصوصا في القاهرة، تجعل القيادة السياسية تخشى من تكرار تجربة 30 يونيو في مصر. فالرئيس المصري المعزول كان قد عين الفريق أول عبد الفتاح السياسي، بعد إقالة المشير محمد حسين طنطاوي، وهو الأمر الذي تكرر في تركيا، وأفضى إلي قيام أردوغان في يوليو بتعيين الجنرال نجدت أوزال رئيسا للأركان، خلفا للجنرال إيلكر باشبوغ الذي أجبر على الأستقالة.
يدفع ذلك إلى قيام حزب العدالة والتنمية، وخوفا من مواجهة مصير حزب الحرية والعدالة في مصر، بالتصعيد وتعبئة المناصرين ضد قيام الجيش المصري بعزل مرسي، وتأكيد رفض التعامل مع القيادات المصرية الجديدة، كونها قيادات غير منتخبة، أو "قيادات انقلابية"، وهى رسائل بقدر ما تعكس القلق التركي من تطورات منطقة الشرق الأوسط، وتأثيراتها على المعادلة السياسية السائدة، فإنها تكشف، على جانب آخر، عن أن حزب العدالة بات يقلق، ولا يضمن ولاء الجيش، حال تفاقم الوضع السياسي، وساد الاضطراب الاجتماعي، واتسعت حركة التظاهر مرة أخرى في ميادين تركيا المختلفة.
*باحث بوحدة العلاقات العربية والإقليمية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتجية، متخصص في شئون تركيا والمشرق العربي، وله العديد من الدراسات والمقالات باللغة الإنجليزية والتركية.
مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)