هيكل…ذاكرة عصر

“…ويظل في يقيني أننا، في هذه المرحلة في حياتنا، أمة تحتاج إلى أن تفكر، وأن تفكر، وأن تفكر”

هيكل ـ حرب الخليج
__________________________________________

” لا يحتاج العالم العربي إلى رجل مثل “بريجنييف”…يحفظه بالتحنيط.

ولا إلى رجل مثل “غوربانشوف”…يضيعه بالتفريط.

ولا إلى رجل مثل “يلتسين”…يشده إلى المغامرة مع المجهول دون تخطيط”.

مقطع من حسنين هيكل عن حرب الخليج. وكان هيكل يردد عبارته الشهيرة: “عندما تتوقف جيوش الحرب…تزحف جيوش النهب”.

بموت هيكل سيغلق ملف طويل من الأحداث والتعليق عليها، بقلم الصحفي الذي كان يعوم على المعلومات، ويستقي من النبع، ويعرض ما هو شاهد عليه في الغرف السرية. ومن النادر أن يكون هناك صحفي على هذا القدر المنظم من الفضول تجاه عالم مضطرب لم يهدأ لحظة واحدة… الفضول الذي تحول إلى معرفة، والمعرفة إلى قوة الفكرة. والأمل بتحقيقها.

ربما كان هيكل أحد الأشخاص المحظوظين لأنه عاش في ظل النمو العاصف للتجربة الناصرية، التي أيقظت عرباً ناموا طوال قرون. وهو، في الوقت نفسه، أحد الأشخاص الذين تنطبق عليهم هذه الجملة الصينية ـ الصلاة الصينية: “ألعنك … وأدعو عليك أن تعيش في عصر هام”.ولقد عاش هيكل في عصور هامه ، من مراسل حربي في الحرب العالمية الثانية ، إلى عصرالكبار… عبد الناصرالذي عاش معه صعود الآمال، وعاش إلى جانبه السقوط المدوي للمشروع التحرري القومي بهزيمة عام 1967 .

في المرات القليلة التي أخطأ فيها هيكل، فصار مسؤولاً مرة أيام عبد الناصر، ومرة أيام السادات…ولكنه الصحفي الاستاذ القادر على تصحيح الخطأ . فلا استقلال لصحفي وهو وزير، ولا حرية لقلم وهو مسؤول سياسي، ولا صوت يصدقه الناس إن لم يكن خارجاً من حناجرهم.

وذات يوم قال لوزير إعلام سوري (أحمد اسكندر أحمد) : “عزيزي أنت من صحافة الحزب، وأنا من حزب الصحافة”، وأن أكبر منصب يصل إليه الصحفي هو…صحفي.

الشيء الذي لا ينسى في تجربة هيكل هو وفرة المعلومات ومصداقيتها في قصة الأحداث الكبرى في الشرق الأوسط. والشيء الي يثير فضول القارىء هو رؤية الحدث من عدة زوايا. والتعرف إلى أبطال ومراحل من حياة الشخصيات المؤثرة بالحدث عبر الرسم الدقيق لملامح هذه الشخصيات وإضاءتها، وشرح خلفياتها.ازمنة الصعود وازمنة السقوط.

وبالطبع كل ذلك لا يجعل من صحفي مملكة للقراءة الضرورية…بل لا بد من توفر العامل الأكثر أهمية وهو التشويق، وأسلوب الاحتفاظ بفضول القارىء وتغذية هذا الفضول ، من فصل إلى فصل، ومن كتاب إلى كتاب، بل ومن عصر إلى عصر.

هيكل ليس اعلاميا ومؤرخ عصره السياسي وحسب ، انما كان رجل ثقافة يحترم رجال الثقافة والفكر والابداع في زمنه … لقد خصص احد طوابق جريدة الاهرام لكل كتاب مصر في تلك الايام .؟..من نجيب محفوظ الى توفيق الحكيم وما بينهما.

هيكل …أكبر مما يبدو عليه. وأهم مما نعرفه عنه، واوسع انتشارا ممانعلم. وأعتقد أنه مضى، وهو مفتوح الفم كأنه يقول “مازال لدي ما أقوله لكم”. في السنوات الأخيرة سنوات الثورة والثورة المضادة…سنوات اضطراب الهوية القطرية، والعربية، والشخصية…كان هيكل أحد الذين حاولوا، دون توفيق كبير، شرح ما يجري.

وأعتقد أن ذلك ليس ناجماً عن عجز وتقدم في السن… بل عن فداحة خروج النص عن المألوف واضطراب فكرة الحاكم عن الرعية، والمحكوم عن الطاغية، والطاغية عن المجرم… لقد اختلط المسرح الدموي بكمية هائلة من الارتجال الكارثي ، ومن استسهال الجريمة.

مات هيكل، وأعتقد أن الرجل قد أدى واجبه المهني، والسياسي، والأكاديمي، والتأريخي، ولم يتزحزح قيد شعرة واحدة عن أمرين اثنين: شخصية مصر (عبقرية المكان) ورؤية إسرائيل كعدو تاريخي كبير وغريب في المنطقة.

هيكل… كانت قراءة كتبه ممتعة، والاستماع إليه ممتع أيضاً. وسيظل للرجل المكان الرحب في ذاكرة الناس…خصوماً وأصدقاء. ذلك لأنه أحد الذين بحثوا عن الحقيقة من خلال ما تراكم فوقها من أورام. من خلال نرجسية عظماء تلك الأيام، ومن خلال الظلال الكثيفة التي غطت على الحقيقة طوال تلك الأيام.

يجب ان يقرأ هيكل دائما، وبعد رحيله يجب ان ننحني على كتبه لقراءتها مرة اخرى.

سأعود لقراءة كتب هيكل، وفاء لرحلة جيلنا معه طوال هذه السنوات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى