«واحة الغروب» بين تاريخ مصر وجغرافيتها الساحرة

كثيراً ما يحدث اختلاف قسراً أو عمداً، بين الرواية المكتوبة والوسيط المرئي، سواء أكان فيلماً سينمائياً أو مسلسلاً تلفزيونياً. وغالباً ما يكون ذلك نتيجة الإضافة أو الحذف أو التعديل، إذ يندر وجود عمل مرئي لا يستثني بعض الشخصيات أو يضيف إلى الرواية الأصلية تفاصيل تجعلها أكثر درامية أو جاذبية. وهذا حال مسلسل «واحة الغروب» الذي عُرض طوال شهر رمضان الماضي على عدد من الفضائيات العربية، وحقق نجاحاً لافتاً على الصعيد الجماهيري والنقدي والفني. والمسلسل مأخوذ عن رواية للأديب بهاء طاهر، كتبها بين القاهرة وجنيف على مدار أربع سنوات، قبل أن تصدر في أيار (مايو) 2007 عن دار الشروق، وفازت بجائزة «البوكر» العربية في دورتها الأولى.

المسلسل من بطولة خالد النبوي ومنة شلبي وسيد رجب وأحمد كمال وناهد رشدي ورجاء حسين ورشدي الشامي ومحمود مسعود وأحمد مجدي وكارول الحاج وايفا، والأردنية ركين سعد في أول مشاركة لها في الدراما المصرية، وكتبت السيناريو والحوار للحلقات الخمس عشرة الأولى مريم نعوم، والخمس عشرة الأخرى هالة الزغندي، وأخرجته كاملة أبو ذكري. وظهرت جلياً مقدرة المخرجة وعشقها لعملها الفني عامةً ولممثليها في شكل خاص، بحيث بدا الاهتمام والحب واضحين على كل شخصيات العمل بمساحاتها المختلفة ولهجاتها المتنوعة بين القاهرية والسيوية والبدوية والأجنبية في لكنة عربية.

وإن أردنا الحديث عن الممثلينن علينا أن نبدأ أولاً بالممثل خالد النبوي الذي روّض جهازه العصبي والحركي في صورة رائعة وبأداء أقرب إلى السهل الممتنع، ليتماهى مع الشخصية التي جسدها عن عسكري يتصارع في داخله الخير والشر، ويتمزق نفسياً بعدما يفقد جاريته «نعمة» التي اكتشف لاحقاً أنه لم يحبّ غيرها. ومن ثم انصياعه لتنفيذ قرار تعيينه كأول مأمور مصري لواحة «سيوة» التي اشتهرت بقتل كل من سبقوه في منصبه من الأجانب، وقراره الزواج من الباحثة الإرلندية «كاثرين» بحثاً عن الاستقرار فقط من دون حب حقيقي، وتعاطفه مع أهالي الواحة وظروفهم الصعبة، وهو المطالب بتحصيل الضرائب من أهلها ولو من طريق القوة، وتوصيلها إلى رؤسائه في مصر المحروسة.

محمود عبدالظاهر، ضابط عاصر البطل والزعيم أحمد عرابي الذي تمت خيانته، وشاهد كيف تحولت البلاد من أيدي الخونة إلى يد الوطنيين، ثم هزيمة عرابي، وعودتها إلى أيدي الاحتلال مع الخونة، وتعامله مع الوضع الجديد، ثم نقله كعقاب له بعدما شكّت السلطات في تعاطفه مع الأفكار الثورية لجمال الدين الأفغاني والزعيم أحمد عرابي.

وعلى رغم أن الرواية تتعلق بفترة تاريخية حساسة في تاريخ مصر، غاصت في تحليل نفسية المواطن المصري في صورة جميلة، تشبه إلى حد كبير شخصية المواطن الحالي الذي لا يهتم إلا بنفسه، ويعلي مصلحته الشخصية على مصلحة بلده. وجاءت الشخصيات الأخرى متفرقة ومتنوعة، ومنها شخصية «كاثرين» التي كتبت بحرفية شديدة، وساهم أداء منة شلبي في توصيلها بدرجة عالية من الصدقية، علماً أن نيللي كريم كانت المرشحة الأولى لهذا الدور قبل أن تعتذر عنه لارتباطها بعمل آخر. وجاء البناء النفسي لها منطقياً، فهي إرلندية في بلد تحتله بريطانيا، أي أنها تشبه مصر، ما ساهم في تقارب وجهة نظرها مع الضابط، وكرههما معاً للاحتلال، وشغفها بالآثار المصرية ومكان مقبرة الإسكندر الذي أوصى أن تكون في سيوة، ولكنها دفنت في الإسكندرية، ثم اختفت، وهي ترجح أن محبيه ومريديه نقلوها إلى سيوة تنفيذاً لوصيته، لتصبح محاولات بحثها عن المقبرة سبباً في تنغيص حياتها وتحويلها إلى جحيم في ما بعد.

ويمكن القول إنّ الممثلة منّة شلبي قدمت في «واحة الغروب» شخصية جديدة تماماً، عبر إطلالة كلاسيكية ولون شعر أحمر ولكنة أجنبية. وقد أجاد أحمد كمال تجسيد شخصية عاقل الواحة «الشيخ يحيى»، وهو صاحب الصوت الناصح والرأي السديد للمشكلات الاجتماعية، ورشدي الشامي «الشيخ صابر» وهو قائد الأجواد الذي يسعى إلى انتزاع لقب «العمدة»، وهو بمثابة ثعبان الواحة، حيث يستغل كل شيء لمصالحه. وبرعت الفنانة الشابة ركين سعد في تجسيد شخصية الفتاة «مليكة» المولعة هي الأخرى بالآثار، والتي تتزوج حبيبها وابن خالها الذي يموت بعد أيام قليلة من الزواج، ويتم اختيارها لتتزوج شخصاً في سن والدها، في محاولة لرأب الصدع بين الأجواد الشرقيين والغربيين من طريق علاقات النسب والمصاهرة، بعد عقود من الصراع والقتل. لكنها تتمرد عليه وتهرب منه، وتلقي مصيرها، بعدما أصبحت نذير شؤم أو «غولة» وفقاً لمعتقدات أهل الواحة، قتلاً على يد شقيقتها ووأداً للفتنة في الواحة.

المسلسل كان أشبه بعملية بحث أقرب منه إلى سيناريو متعارف عليه، وهي الطريقة التي يفضلها طاهر في قصصه ورواياته، بحيث يركز على طرح أسئلة عدة، ثم الإجابة عنها في ما بعد. ومثلما كانت الرواية التي دارت أحداثها في نهايات القرن التاسع عشر- مع بداية الاحتلال البريطاني لمصر- بمثابة تجربة جديدة عن تجاربه السابقة. وعلى رغم وجود ثوابت يحاول تعميقها أو تطويرها أو الإضافة اليها، كان المسلسل أميناً في نقله أجواء الرواية، بحيث تم التصوير غالباً خارج جدران البلاتوات، وأفسح المجال لمنطقة جديدة على الصورة التلفزيونية المتعارف عليها، وهي منطقة الواحات في صحراء مصر الغربية.

الصورة السينمائية الجيدة وتنوّع الكادرات وجمالية اللقطات من الأشياء التي برعت فيها المخرجة وميزت العمل، إضافة طبعاً الى عناصر الإنتاج السخي لشركة الإنتاج «العدل غروب»، وهو ما انعكس إيجاباً على التصوير والإضاءة والديكور والموسيقى والتوليف والمكساج وغيرها، لكنّ العمل أصيب في المقابل بالمط والتطويل، إذ أسهبت المخرجة في تصوير رحلة القافلة التي أقلت المأمور وزوجته إلى الواحة، فحرصت مثلاً على تصوير الرحلة والصعوبات التي واجهتها نهاراً وليلاً وشروقاً وغروباً، وكذلك رحلات المأمور وزوجته على الخيل والحمير لفترات طويلة في أرجاء الواحة، وبدا أنها وقعت في مأزق ضرورة إكمال المسلسل إلى ثلاثين حلقة بغية ملء الشاشة على طوال أيام شهر رمضان الكريم، نزولاً عند رغبات شركات الإنتاج والتسويق.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى