واشنطن وطهران
منذ استئناف إيران برنامجها في تخصيب اليورانيوم في شهر آب 2005 ومنطقة الشرق الأوسط تعيش على وقع المجابهة بين «القطب الواحد للعالم» الذي أتى بقواته إلى بلاد الرافدين عام 2003 من أجل «إعادة صياغة المنطقة من جديد»، وفق تعبير وزير الخارجية الأميركية كولن باول، وبين «القوة الإقليمية العظمى»، وفق تعبير الجنرال رحيم صفوي القائد السابق للحرس الثوري عام 2013.
كانت هناك ترجمات غير مباشرة لتلك المجابهة في عموم المنطقة وكانت أولاها حرب تموز 2006 في لبنان التي أسمتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس «آلام مخاض ضرورية من أجل مشروع الشرق الأوسط الجديد». ولكنّ القابلة القانونية الإسرائيلية لم تستطع توليد ذلك الجنين الذي على الأرجح مات في تلك الحرب. وثانيتها في غزة 15 حزيران 2007 عندما سيطرت حركة «حماس» على القطاع، وثالثتها 7 أيار 2008 في بيروت، ورابعتها 21 سبتمبر 2014 عندما سيطر الحوثيون على صنعاء.
يمكن هنا الحديث عن ترجمات أخرى لتلك المجابهة إحداها ما يجري في الأزمة السورية منذ عام 2011 حيث واشنطن وطهران في موقعين متجابهين، وكذلك في لبنان ما بعد 17 تشرين الأول 2019، وإلى حد «ما» في عراق ما بعد الانسحاب العسكري الأميركي من هناك في اليوم الأخير من عام 2011.
بالمقابل، كانت هناك ترجمات لتوافق واشنطن وطهران الذي حصل في الاتفاق النووي بفيينا 14 تموز 2015، مثل اتفاقهما على مهمة محاربة «داعش» في العراق، ومثل جنوح سمير جعجع وسعد الحريري، بضغوط أميركية ولكن من دون رضى السعودية، نحو القبول بانتخاب ميشال عون رئيساً للبنان في عام 2016. أيضاً، كانت هناك سياسات مضادة لهذا التوافق، مثل التقارب الذي مارسته بعض دول الخليج مع إسرائيل حتى وصل إلى مستوى التطبيع مثل الإمارات والبحرين والذي لم يكن من دون ضوء أخضر من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، هذا التطبيع الذي حصل منذ 13 آب 2020 على وقع توقعات خليجية بفوز جو بايدن بانتخابات الرئاسة الأميركية بعد ثلاثة أشهر، وهو الذي أعلن صراحة ببرنامجه الانتخابي أنه يريد إحياء اتفاق فيينا الذي انسحب منه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عام 2018. في هذا الإطار، كان انسحاب ترامب من الاتفاق هو المظلة لضرب الحوثيين لمنشآت «أرامكو» النفطية السعودية في أيلول 2019 ولاغتيال واشنطن للجنرال قاسم سليماني في الأسبوع الأول من عام 2020 ولاغتيال إسرائيل للعالم النووي الإيراني فخري زاده في تشرين الثاني 2020، وأيضاً للتغطية الأميركية على اغتيال جمال خاشقجي في تشرين الأول 2018، حيث كان انسحاب ترامب من الاتفاق في 8 أيار 2018 بداية شهر عسل بين واشنطن والرياض انتهى بمجيء بايدن إلى البيت الأبيض.
هنا، كانت رغبة بايدن في إحياء الاتفاق النووي مع طهران بداية لتوتر مع دول الخليج وأولها السعودية، وكان من ترجمات هذه الرغبة رفع الحوثيين من قائمة الإرهاب الأميركية وهو ما تبعه أيضاً في الأسابيع الأولى لدخول بايدن للبيت الأبيض في 20 كانون الثاني 2021 نشر تقرير وكالة المخابرات المركزية الأميركية عن قضية خاشقجي الذي يحوي ضمناً تحميل ولي العهد السعودي مسؤولية «ما» عن الاغتيال والذي كان ترامب قد وضعه في الدرج.
يلاحظ أن مفاوضات فيينا كانت في عهد روحاني غيرها في عهد رئيسي، كما أن أجواء المفاوضات كانت مختلفة ومغايرة بين قبل وبعد نشوب الحرب الأوكرانية
في فيينا، بدأت مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني في نيسان 2021، وقد شملت تسع جولات حتى شهر آب 2022، وكانت هناك جولة منفصلة في العاصمة القطرية الدوحة في حزيران 2022. كانت المحادثات غير مباشرة بين الأميركيين والإيرانيين وكان الأوروبيون هم الوسيط الأساسي، مع اشتراك للروس والصينيين. يلاحظ هنا، أنه كانت هناك ست جولات حتى حزيران 2021 عندما تم انتخاب الرئيس الإيراني المحافظ إبراهيم رئيسي خلفاً للرئيس الإصلاحي حسن روحاني، وأن أجواء المفاوضات في الجولة الثامنة في آذار 2022 كان يسودها جو جديد مختلف أتت به الحرب الأوكرانية التي بدأت في الشهر السابق فيما حصلت الجولة التاسعة في العاصمة النمسَوية في آب عندما قدّم مفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي «نصّاً توفيقياً نهائياً» بدفع من الأميركيين رفضت طهران اعتباره نهائياً، وهو ما قاد إلى دفن غير رسمي لمفاوضات فيينا، إلى درجة أن المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأميركية نيد برايس قد أعلن في 6 آذار الحالي بأن «العودة إلى الاتفاق النووي ليست على جدول أعمالنا»، وهو ما تبعته بعد يومين أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، بقولها إن «إيران تقترب بشكل خطير من صنع قنبلة نووية».
في هذا الصدد، كان لافتاً تعيين علي باقري كبيراً للمفاوضين الإيرانيين في مفاوضات فيينا وهو الذي انتقد اتفاق 2015 الذي قام به الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف مع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري، وهو قريب بالمصاهرة من السيد علي الخامنئي عبر أخيه المتزوج من ابنة السيد الخامنئي. كما يلاحظ أن مفاوضات فيينا كانت في عهد روحاني غيرها في عهد رئيسي، كما أن أجواء المفاوضات كانت مختلفة ومغايرة بين قبل وبعد نشوب الحرب الأوكرانية في 24 شباط 2022. أيضاً، كانت لافتة محاولة الأميركيين والأوروبيين فرض نص أخير، طلب صاحبه جوزيب بوريل جواباً نهائياً عليه، في محاولة منهما لوضع طهران في الزاوية الضيقة وذلك بعد ستة أشهر من بدء الحرب الأوكرانية، التي جعلت مجال المناورة الإيرانية أوسع، وهو ما يفسّر إمّا بأن الأميركيين لم يعودوا يريدون الاتفاق في ظرف انشغالهم بالحرب غير المباشرة مع الروس في أوكرانيا، أو أنهم قرأوا أن طهران يمكن أن تستجيب للعرض تحت ضغط العقوبات الاقتصادية وهو ما يمكن أن يخلق شرخاً إيرانياً-روسياً. أتى الرفض الإيراني لعرض بوريل، وهو ما جعل مفاوضات فيينا في مرحلة الموات أو الموت الفعلي.
في عالم أو شرق أوسط ما بعد فيينا، هناك تعاون عسكري إيراني-روسي كبير، وتمتين للعلاقات الاقتصادية الإيرانية-الصينية، وبالمقابل هناك ترجمة أميركية لقول إن «العودة إلى الاتفاق النووي ليست على جدول أعمالنا» من خلال زيادة التنسيق العسكري الأميركي-الإسرائيلي ومن خلال زيادة العمليات السرية الإسرائيلية على الأرض الإيرانية ومن خلال زيادة الضربات العسكرية الجوية الإسرائيلية لإيران أو لقوات موالية لإيران على الأرض السورية. هناك، على ضوء التوتر الأميركي-الإيراني، تخفيف لتوتر كان قائماً بين واشنطن والرياض طوال سنتين من عهد بايدن. لا يمكن هنا قراءة تعطل انتخابات الرئاسة اللبنانية بمعزل عن التوتر الأميركي-الإيراني، وكذلك يمكن لهذا التوتر أن يكون أحد عوامل زيادة عمليات حركة «حماس» في فلسطين ضد إسرائيل.
على الأرجح أن عالم ما بعد فيينا سينتج حرباً في المنطقة، من خلال توتر الأجواء بين واشنطن وطهران وتقاربات موسكو وطهران، تماماً مثلما قادت تقاربات واشنطن وتل أبيب عام 1964، المترافقة مع مصالحة القاهرة وموسكو عام 1964 بعد ست سنوات من صدام عبد الناصر مع شيوعيي مصر وسوريا والعراق، إلى حرب حزيران1967.
صحيفة الأخبار اللبنانية