واشنطن وطهران: السياسي يتقدم على النووي

الاتفاق بين «الشيطان» صانع الشر، و»محوره» ليس بالأمر المألوف، خصوصا بعد النجاح في احتواء الشياطين الكامنة في التفاصيل. الاتفاق النووي هو بالدرجة الأولى ثنائي الطابع بين واشنطن وطهران. فبعد تاريخ حافل بأسوأ ما يمكن أن تكون عليه العلاقات بين دولتَين في زمن السلم، فإن وظيفة الاتفاق الأولى تطبيع العلاقات بالحد الأدنى بعد 36 سنة من القطيعة الكاملة في البر والبحر والجو. أما علاقات الدول الكبرى الأخرى وألمانيا مع إيران فلم تنقطع حتى في زمن العقوبات المتشددة.

الواقع أن المسألة نووية في الشكل، سياسية في المضمون. أهمية الاتفاق، السياسية والرمزية، توازي وربما تفوق حاجته لأغراض سلمية أو عسكرية. فإذا التزمت إيران بالاستخدام السلمي للنووي فستكون الرابح الأول، سياسيا واقتصاديا. أما في المجال العسكري، فما من دولة تملك سلاحا نوويا قادرة على أن تستعمله. الحالة الأكثر دلالة هي إسرائيل التي لديها سلاح نووي منذ الخمسينيات وخاضت حروبا مصيرية ولم تلجأ إلى النووي. الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، صاحبا الترسانة النووية الكبرى في العالم، خاضا حروبا طاحنة في كوبا وفيتنام، وكان الردع النووي حافزا لإنهاء هذه الحروب وتوقيع اتفاقية الحد من الصواريخ البالستية. وفي سياق آخر، مَنْ مِنَ الجارَين النوويَّين، الهند وباكستان، اللذين خاضا مواجهات عسكرية منذ 1947 حول منطقة كشمير، يجرؤ على استعمال السلاح النووي لحسم النزاع القائم؟ السلاح النووي أداة ردع فاعلة، لكن غالبا ما يكّبل أصحابه إلا إذا اختاروا سلوك طريق الانتحار الجماعي. أما في الشأن السياسي فالتنافس مشروع والخلافات لا تنتهي بمعزل عن القدرات النووية لأي طرف.

في المنطقة مسائل ونزاعات تهمّ أهلها ولا تهمّ الدول الكبرى بالقدر ذاته. أميركا دولة عظمى ورئيسها باراك أوباما يريد أن يترك أثرا (Legacy) في مسار التحولات الكبرى، وفي السياسة الخارجية تحديدا. فبعد تطبيع العلاقات مع كوبا، رمز التحدي السوفياتي لأميركا في الحرب الباردة، ها هو ينهي النزاع مع إيران، الدولة المؤثرة في المنطقة بقدراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية. فبالنسبة إلى إيران اليوم أو إيران الشاه، الملف النووي غايته الأساسية تثبيت المكانة والاعتبار على الساحة الدولية. كما ان لقدرات إيران حدودا، بمعزل عن الاتفاق النووي. وعلى رغم تشديدها على إسلامية توجهاتها، فإن سياسة إيران بنظر الخصوم مذهبية المنبت والأهداف.

من منظار المتلقي للنفوذ الإيراني في المنطقة، خصوصا دول الخليج، تطبيع علاقات إيران مع العالم باقة شوك بلا ورد. وستبقى العلاقات بين طهران وشركائها الجدد متوترة في أحسن الأحوال ومأزومة في أسوئها. فالمتضررون كثر، لا سيما في واشنطن حيث ستكون للكونغرس كلمته ومعه الحليف المدلّل، إسرائيل، وهي أكثر المتضررين من الاتفاق النووي وتحديدا رئيس حكومتها نتنياهو. إيران دولة شرق أوسطية ونطاق حركتها العالم العربي، الأقرب جغرافيًّا وتاريخيًّا. في العقود الثلاثة الماضية، تمدد نفوذ إيران الإقليمي حصل بالوسائل التقليدية وليس بالقدرات النووية. فلا ترسانة نووية بيد «حزب الله» ولا كاريزما أمينه العام السيد حسن نصرالله ومواقفه مرتبطة بالشأن النووي. والعلاقات التي نسجتها إيران في العالم العربي وأفغانستان ودول أخرى كانت بوسائل النفوذ التقليدية، وهي متاحة للأطراف جميعها.

في مرحلة ما بعد الاتفاق، ثمة تراتبية في أهمية التحديات الإقليمية وفي أولويات الأطراف المعنية بها. التصدي للإرهاب يتصدر اللائحة، خصوصا في العراق وسوريا، تتبعه محاولة إيجاد تسوية للأزمة اليمنية وللأزمة السورية الأكثر تعقيدا. إلا أن الارتدادات المباشرة لإيران النووية تكمن في توسع انتشار النووي في المنطقة، والطامحون المعلنون لدخول النادي النووي كثر، أبرزهم تركيا، السعودية، الأردن ومصر. كما ان احتمال الصدام العسكري بين إسرائيل وإيران يصبح واردا في حال تصدّع العلاقات بين طهران والدول الكبرى لا سيما بعد البدء بتنفيذ الاتفاق. إلا أن العلاقات الأكثر توترا تظل بين إيران والسعودية التي بدأت بالانفتاح على روسيا وتتحرك حاليا في لحظة غضب عابرة من الحليف الأميركي.

أما الرابط بين الاتفاق النووي ولبنان فهو موجود في مخيلة بعض اللبنانيين الذين غالبا ما يتوهمون أن الشأن السياسي الداخلي مرتبط بقضايا العالم الكبرى. في الماضي أبدت الدول الكبرى اهتماما خاصا بلبنان عندما كان ساحة لحروب المنطقة، فأتى موفدوها لإيجاد حلول لأزمات مرتبطة بالوضع الإقليمي. أما الأزمة الراهنة في لبنان «فحمضها النووي» أقل شأنا وأهمية بالنسبة إلى الدول الكبرى بالمقارنة مع الطوفان الجارف في المحيط الإقليمي. فما على اللبنانيين سوى الاتكال على «الردع السياسي» الداخلي بدل الغرق في أوهام لا تعني سوى أصحابها.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى