واقعية خشنة وسحرية ونقد هادئ للتجربة الصينية (فخري صالح)

فخري صالح

 

يتساءل الكاتب الصيني مو يان، الحاصل على جائزة نوبل للآداب هذه السنة، عن الأسباب التي جعلته يحلم بأن يكون كاتباً فيجيب بأنها تتمثل في الفقر والوحدة. أخبره أحد زملائه العمّال أنه يعرف كاتباً يستطيع أن يأكل الفطائر اللذيذة المصنوعة من لحم الخنزير ثلاث مرات في اليوم. ويضيف في تقديمه لمختارات قصصية صدرت له بالإنكليزية العام الماضي انه تمنى أن يصبح كاتباً لأنه أراد أن يملأ معدته الخاوية ويسلّي نفسه بالحكايات التي تجنّبه الوحدة التي كان يعانيها في طفولته التي قضاها راعياً للأغنام وحيداً في حقول قريته المغبرّة في ستينات القرن الماضي أثناء المجاعة التي اجتاحت الصين.
تقيم هذه الخلفية المعتمة من العوز والفقر الشديد والجوع والبرد والوحدة في جذر كتابة مو يان الذي ولد في بلدة غاومي في مقاطعة شاندونغ الواقعة شمال شرقي الصين عام 1955 لأبوين فقيرين اضطرا الى إخراجه من المدرسة ولم يكن قد أكمل سنته الخامسة في المدرسة بعد. لكن الطفل غوان مويي، الذي اتخذ له في ما بعد اسماً أدبياً هو مو يان، تعلم في تلك البيئة الفقيرة أن يكلم رؤوس الماشية القليلة التي يرعاها في الحقول، وأن يناجي النجوم البعيدة في السماء. كانت تلك تسليته الوحيدة لنسيان الجوع والوحدة والبرد، ما جعل والدته تخاف على عقله وتناشده الكفّ عن التكلم مع نفسه. لعل ذلك، كما يقول، هو السبب الذي جعله يطلق على نفسه اسم «مو يان» التي تعني بالصينية «لا تتكلم». لقد سمّى نفسه «الصامت» أو «الممتنع عن الكلام» لأنه أراد أن يرضي والدته التي خافت على عقله، وليذكّر نفسه، بسبب صراحته الشديدة، بأن عليه أن يصمت في مجتمع لا يتحمل الصراحة وينتصب في فضائه الكثير من الإشارات التحذيرية الحمراء.

الفضاء الريفي
يتحرك نثر مو يان القصصي والروائي في فضاء شاندونغ وعوالمها الريفية الفقيرة، التي تظهر شوارعها المتربة في أعماله الروائية والقصصية بفلاحيها وهم يمتطون الحمير وجمالها المثقلة بالأحمال في خمسينات القرن الماضي وستيناته، يطحنهم العوز ويزلزل البرد عظامهم.
ويوظف مو يان خبرته ومعاناته الشخصية في كتابة سرد يتأرجح بين الواقعية الخشنة المتجهمة وعوالم الهلوسة والفانتازيا والخيال المحلق الذي يقترب من حواف الواقعية السحريّة. لقد كانت مسيرة حياته شاقة لدرجة جعلته يؤمن بنظرية تشارلز داروين «البقاء للأصلح» لأن ظروف العيش القاسية التي شكلت المراحل التكوينية الأولى في حياته قوّت عوده، ولولا قدرته على التغلب على الفقر والجوع والبرد لكان نفق مع النافقين من الضعفاء في صين منتصف القرن الماضي.
لقد اشتغل عاملاً في مصنع للزيوت عام 1973 في الفترة التي أعلن فيها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ثورته الثقافية، ثم انخرط في جيش التحرير الشعبي الصيني عام 1976. وقد أتاح له ذلك الالتحاق في ما بعد بالأكاديمية الثقافية التابعة للجيش بين عامي 1984- 1986، وهي الفترة التي صقلت مواهبه الأدبية التي بدأت في التفتح في الأعوام الأولى من ثمانينات القرن الماضي حيث نشر مو يان عدداً من قصصه القصيرة التي لفتت الأنظار إليه في الدوائر الأدبية الصينية التي كانت قد بدأت في التخلص من شبح الزعيم الصيني ماو وثورته الثقافية. في تلك المرحلة التي شكلت انطلاقته الواثقة في عالم الأدب الصيني المعاصر، نشر مو يان عمله الروائي الأول «مطر هاطل في ليلة ربيعية» عام 1981، ثم مجموعته القصصية «انفجارات» عام 1986، كما نشر في الفترة نفسها قصته القصيرة التي جلبت له الكثير من الشهرة «الذرة الحلوة حمراء اللون»، والتي نشرت في ما بعد مع أربع قصص قصيرة أخرى في عنوان «عائلة الذرة الحلوة حمراء اللون» (1987).
وارتكزت شهرة مو يان خلال تلك الفترة على تلك القصة بسبب تحويلها إلى فيلم ذائع الصيت في العنوان نفسه بتوقيع المخرج الصيني اللامع جانغ ييمو عام 1988. تقوم الرواية على حكاية أبوين خلال فترة الحرب الصينية-اليابانية، وتبدأ أحداثها عام 1939، حيث نشهد الأب ووالده يركضان في الشوارع والحقول لينضما إلى قوات المقاومة الشعبية الصينية. الراوي هو الحفيد الذي يقطع سيرة الحرب في حياة والده وجدّه ليحكي توهماته عن لعبة الحرب التي كان يلعبها وهو طفل، محاولاً تخيل الأحداث التي يمكن أن تقع، مصطنعاً حوار الأب الصغير السن وهو يتخيل موته. بسبب هذه اللعبة التقنية التي تحدد شكل الرواية، يقوم الراوي بسرد سلسلة من الاسترجاعات، محركاً الأحداث إلى الوراء والأمام، مستعيداً في الوقت نفسه أحداث علاقة الحب التي تقوم بين الجد والجدة، وهو ما يوفر له فرصة تأمل معنى الحرب والحياة والموت.

بين الرعب والسخرية
نشر مو يان روايته «قصص شعرية عن الثوم» عام 1989، ثم أتبعها عام 1995 بأعماله القصصية المختارة التي ضمت واحداً من أعماله الكبيرة «جمهورية الخمر» (1992)، وهي رواية هجائية ساخرة تصور علاقة الشعب الصيني بالطعام والشراب، وتنتقد فساد السلطات الحكومية ونفاقها وتعفّنها وشراهتها.
ويتكون هذا العمل الساحر، المجدول بمهارة أسلوبية مدهشة وقدرة فائقة على تشويق القارئ وحبس أنفاسه وتهيئته للأحداث المركزية في الرواية، من خيطين سرديين، الأول منهما يتتبع حركة عميل سري أرسلته الحكومة إلى إحدى المقاطعات الريفية الصينية ليحقق في وجود أكلة لحوم بشر هناك (حيث يتم تقديم الأطفال الرضّع كأطباق طعام خاصة شهيّة).
أما الخيط السردي الثاني فيتكون من عدد من الرسائل المتبادلة بين مو يان وكاتب شاب طموح (يدعى لي ييدو) معجب بعمل الكاتب الشهير، إضافة إلى عدد من القصص القصيرة التي يفترض أن الأديب الشاب كتبها وأرسلها إلى مو يان (قصة قصيرة في عنوان «الكحول» كتبها بعد أن شاهد الفيلم المأخوذ عن قصة مو يان «الذرة الحلوة حمراء اللون»، وقصة عن طفل يبيعه أبوه ليقدم كطبق طعام شهي). كما تتضمن فصول الرواية ردود مو يان على رسائل الكاتب الشاب وقصصه.
ويتداخل هذان الخيطان السرديان في المشهد المرعب للطبق الذي يتربع فيه طفل رضيع كامل تتضوع رائحته الذكية على مائدة بيت مسؤول المقاطعة، فيفقد المحقق عقله ويبدأ في إطلاق النار عشوائياً، ما يدفع المسؤول إلى محاولة تهدئته بالقول إن الطبق ليس حقيقياً بل هو مجرد تشكيل فني على هيئة طفل رضيع. لكن المحقق يفقد وعيه بعد أن يشرب كمية هائلة من الكحول متخيلاً نفسه محمولاً على أيدي الفتيات اللواتي يقدمن الطعام والشراب إلى فندق في العالم السفلي حيث يقوم الشيطان الأحمر الصغير بانتزاع أعضائه واحداً بعد الآخر.
هكذا تنوعت المقاربات الأسلوبية لمو يان، الذي تتميز أعماله بقوة الخيال والبعد الإنساني والنزوعات العاطفية الفائرة والصور الباهرة القوية العنيفة، بدءاً من استخدام الأسطورة، إلى الأسلوب الواقعي، والهحائيات الساخرة، وصولاً إلى قصص الحب.

تأثير فوكنر وماركيز
يقرّ مو يان بأنه تأثر في أعماله بالروائي الأميركي وليام فوكنر، والروائيين اليابانيين: ميناكامي تسوتومو، ويوكيو ميشيما، وكينزابورو أوي، والروسي ميخائيل شولوخوف، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز. في هذه الأجواء من التأثيرات المتقاطعة يكتب الروائي الصيني روايته «الحياة والموت يسببان لي التعب» (2006)، التي أتمها خلال ثلاثة وأربعين يوماً بالصينية التقليدية مستخدماً فقط الحبر والفرشاة. أحداث الرواية تدور في بلدة غاومي، مسقط رأس مو يان، عام 1976 في اليوم الذي يموت فيه الزعيم الصيني، مطلق الثورة الثقافية، ماو تسي تونغ.
الحدث الرئيس يتركز حول موت الخنازير التي يربيها أهل البلدة بداء تسميه الرواية «الموت الأحمر» حيث تظهر على أجسام الخنازير بقع وردية وتموت مفتوحة الأعين، ولا ينفع علاج الهيئة الصحية الحكومية في إنقاذها من الموت بذلك باء، كما أن النار التي يشعلها موظفو الهيئة الصحية الآتون من المقاطعة القريبة في جثث الخنازير تملأ البلدة برائحة قوية كريهة. ينتهز أهل البلدة فرصة رحيل موظفي الصحة ليرموا جثث الخنازير في النهر فيجرفها الفيضان الذي يطيح بمزرعة الخنازير والمنازل والحاضر المزدهر! المفارقة التي ترسمها الرواية تتمثل في خبر موت ماو الذي تسمعه القرية المنقطعة عن العالم، والتي تغمرها المياه، من الراديو، حيث يتساءل الفلاحون: «كيف يموت الرئيس ماو؟ ألم يقل كل الناس إنه يمكن أن يعيش مئة وستة خمسين عاماً على الأقل؟».
تغطي هذه الرواية الفترة الزمنية ما بين 1950- 2000 من عمر الثورة الصينية، وصولاً إلى زمن التحولات التـــي بدأت في عهـــد الرئيـــس الصينـــي السابق دينغ زياوبينغ الذي يطلق عليه عهد الإصلاحات. وهي تصور مرحلة الإصلاح الزراعي التي أعقبت الحرب الأهلــيــة الصينية، وصولاً إلى زمن إعادة النظـــر في الاقتصاد الاشتراكي والتحول إلـــى ما يسمى «الرأسمالية المقيّدة»، أي الرأسمالية ذات الملامح الاشتراكية! فــي هذا السياق تقدم الرواية محاكاة ساخرة لقـــدر الصين المعاصرة وأزمنتها الحديثة، وللسيــاسة وهي تتحول إلى أعراض مرضية لمجتمع يتربى أبناؤه على الاشتراكية فيجدون أنفسهم في النهايـــة مهروسيـن بين فكي الرأسمالية.
أحداث الرواية صاخبة، والموت فيها غير متوقع وعنيف في معظم الأحيان. كما أن الحيوانات التي تروي تحكي عن الأحداث التراجيدية التي تقع في البلدة. الخنزير العائد إلى الحياة يروي عن موت أبناء جلدته من الخنازير.
كما يتدخل لان ليان في سرد الأحداث، وحتى الكاتب نفسه يظهر أحياناً في ثنايا الرواية ليتحدث بصوته، قائلاً إن علينا كقراء ألا نصدق مو يان الذي يروي: «إن مو يان لم يكن سوى فلاح. لربما كان موجوداً بجسمه في المزرعة، لكن عقله في المدينة. ولأنه ولد في بيئة متواضعة فقد حلم أن يصبح غنياً ومشهوراً… لقد سعى لصحبة الفتيات الجميلات… وصوّر نفسه كأستاذ جامعي واسع المعرفة». وهكذا ومع نهاية الرواية تتوضح لنا قسمات مو يان كشخصية رئيسة مستقلة واضحة المعالم في السرد، ففي بيته في زيئان يطلب ابن لان ليان الاختفاء مع عشيقته طوال خمس سنوات. يقول ابن لان ليان لمو يان الذي في الرواية، إنه لا يُكنّ أي ضغينة لماو تسي تونغ، أو للثورة الصينية، أو للشيوعية، ولكنه يريد أن يتركوه وشأنه يعيش حياته كما يهوى. وهذا هو الصوت الليبرالي الذي نسمعه في هذه الرواية العنيفة التي يتقاتل فيها كل شيء في صراع دامٍ مرير: البشر مع البشر، والحيوان مع الحيوان، والطبيعة العاصفة المجنونة التي تدمر البشر والحيوان.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى