
السّاعة الآن الثالثة صباحاً، رافقتُ المريضة إلى باب الإسعاف بعد أن قدّمتُ لها العلاج اللازم، كانت تلهجُ بعبارات الامتنان كأغلب مرضايَ المُترعين باللطافة، يبدو أنّ فوضى المكان قد استسلمت لنومٍ ثقيل بعد أن تخرّج جميع المرضى، وبدأ هدوءٌ شفيف يدقّ أوتاد خيمته الظليلة فوق كل الأشياء الموجودة في الجوار دون أن يصدر صوتاً.
شعرتُ بأنّ شيئاً ما يقرعُ جرساً في رأسي ويدعوني للتفكير في جميع الوجوه التي شاهدتها ذلك اليوم، وجوه كثيرة بألوان وأشكال مختلفة لا يسعني تذكّر تفاصيلها جميعاً، منها المتطاول والمدوّر، الممتلئ والنحيل، الفاتح والداكن، المليء بالتجاعيد والمصقول كالحجارة، لكلّ وجه حكايته الفريدة التي كتبها بحبر عمره، لكلّ وجه عيوبه وآلامه وأحزانه، لكلّ وجه أعراسهُ ومسرّاته ومواطن المعنى في أيامه، وبالطّبع لكلّ وجه عيناه المختلفتان اللتان يرى بهما العالم بطريقته الخاصّة.
مع كلّ تلك الوجوه التي تعبرُ يومي قد يظنّ البعض بأنّ التعامل معها سيصبح آليّاً مرّة بعد مرّة، إلّا أنني عندما أتذكّر اللحظات التي تغادرني فيها تلك الوجوه وعلى محيّاها ذرّاتٌ من ذلك الأمل الرقيق الممتنّ؛ أوقن تماماً بأنني لم أكن لأحظى بكل تلك النظرات فيما لو أنني تعاملتُ معهم كمجرد أعداد جامدة في دفتر الإسعاف الكبير.
إنّ غالبية الناس اليوم بحاجة إلى عيون تُشعرهم بأنّها ستتسع لكي تراهم، بحاجة لمَن يخبرهم بأنّهم مرئيّون رغم كلّ ضباب العالم الذي يمحي فردانيّتهم، وبحاجة لأنّ يروا انعكاسهم في مرآةِ إنسان آخر لا يجدُ الأمرَ مُتعباً فيما لو قال لهم: تكلّموا، أنا مُصغٍ إليكم.
إنني أحاول دوماً أن أمنح كل منهم الطمأنة اللازمة ليشعر بأنّهُ ليس مجرّد حالة مرضيّة تمرّ لعشرات المرات على قسم الإسعاف خلال اليوم الواحد، قد يبدو الأمر صعباً إلّا أنّهُ لا يتطلب أَكثر من أن أنظر في عيونهم، أتفاعل مع كلماتهم، أتفهّم ظروفهم، أمازحهم في بعض الأحيان وألوذ بالصمت في حضرةِ أحزانهم أحياناً أخرى.
كل ذلك يمكن أن يُلخَّص في فكرة أنني أحاول بكل ما لديّ أن أعطيهم بعضاً من مشاعر التعاطف والاهتمام الصادقة وغير المُعلّبة حتى تكون ذكرياتهم عن هذا المكان خفيفةً، ناعمةً، بلا حواف مسنّنة تُدمي قلوبهم يوماً.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة



