
في الآونة الأخيرة شغلني مفهوم الوزن كثيراً وخلصتُ إلى نتيجة مفادها بأنّ كلَّ شيء من حولنا لهُ وزنه الخاصّ؛ لا أقصدُ هنا الوزنَ الماديّ وإنّما الوزن غير المرئي لكلّ ما يحيط بنا ونُحيط به. وزنُ المشاعر، التصرّفات، الألفاظ وحتّى النّظرات وتعابير الوجوه؛ تلك الأوزان التي تتأرجحُ ما بين الثّقل والخفّة على اختلاف الموازين التي تُقاس من خلالها.
الأمر الذي جعلني أفكّر بهذا الأمر هو أنّني صحوتُ على كفّتَي ميزاني وهما تتقلّبان بشكل سريع جداً دون أن أعلم إن كانت المشكلة في الميزان نفسه أم في الأرضيّة الموضوع عليها.
أجدُ نفسي أزِنُ ضحكة طفل من فوق كتف أمّهِ مع فراشة؛ فأجدُ الفراشة أثقل منها. كما وأزنُ حديثاً عفويّاً صادقاً إلى غريبٍ في الشارع مع ريشة؛ فأجدُ الرّيشة أثقل منه. وعلى هذا المنوال أشعر بالخفّة مع كلّ كلمة أو تصرّف أو مشهد ينثر عطراً زكيّاً كالفرح أو الحبّ أو الصدق أو الرّأفة، إنّ كلّ ذلك يجعلني أشعر بقلبي خفيفاً كخفّة عصفورٍ يودّ لو يُفتَح لهُ باب القفص لثوانٍ لكي يهرب ويطير.
إلّا أنني في ذات الوقت ومع كلّ تلك الخفّة التي تُشعرني بها تلك الأمور مهما كانت المواقف التي تتأتّى من خلالها بسيطة؛ أجدُ بأنّ قلبي يصبحُ مرساةً ثقيلةً تشدّني نحو الأسفل وتُريني ظلمةَ الأعماق عندما أزِنُ الأمور التي أعلمُ مُسبقاً بأنّ محاولة حملها مستحيلة، كما هو الحال عندما أرى اليأس يُخمِدَ بريقَ عينَين حالمتَين، أو عندما أسمعُ أنيناً خافتاً من مريضٍ لا أستطيعُ أن أحدّثه عن الشّفاء، أو عندما أرى طفلاً من وراء الشّاشات ينهشُ الجوعُ أضلاعه. لكن وعلى الرّغم من استحالة حمل تلك الأوزان إلّا أنّني أشعر على الدوام بواجبي في أن أضعها في ميزاني وأزِنَها كأقلّ الممكن.
عندما أُغمضُ عينيّ وأفكّرُ فيما هو أثقل ما في الحياة في الزّمن الحالي لا أستطيع أن أجد أثقل من فكرة اعتياد موازين الناس على ثِقَل المشاهد والأحداث والكوارث من حولهم لدرجة أنّهم لم يعودوا يشعرون بالحاجة إلى وزنها!
إلى متى يا ترى سيظلّ وحيداً ذلك الإنسان الذي يرزح تحت ثقل تلك الأحمال ويكابد العناء في رفعها إلى ميزانه منفرداً؟!
تذكّرتُ تلك المرأة السبعينيّة التي جلست القرفصاء أمام منزلها المحاصر بالنيران وهي ترفضُ المغادرة عنه بينما تراقب بعينيها المحاطَتَين بالتجاعيد ألسنةَ اللهب وهي تقترب. لم أرَ موقفها مجرّد تمسّكٍ بالمكان الذي تعيش فيه، كان في نظرتها إدراكٌ عميق لوزن الأشياء على حقيقتها. كانت تعلم بأن وزن رماد الشجرة التي نعمت بفَيئها ودفئها، بورقها وبثمرها، بجمالها وبتغيّرات ألوانها؛ هو أثقل بكثير من وزنها فيما لو قُطّعَت ووُزنت. وبالمثل كان وزن بيتها المحترق أثقل بكثير من وزنه وهو سليم، كانت تعلم بأنّ للذكريات وزن أثقل بكثير من وزن الجدارن، وزنٌ أثقل من الحديد، إنه وزنُ طفولتها وشبابها وشيخوختها، وزنُ أهلها وأجدادها، وزنُ أولادها وأحفادها ووزنُ كلّ حياتها.
كانت تعلمُ ذلك جيّداً لذا جلست وحيدةً تشيّعُ الخفّة التي عاشتها وتتهيّأُ لاستقبال أثقل أحمالها، تماماً كما يجلسُ كلّ مَن يعرف الوزن الحقيقي لما حوله.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة