وسائل التواصل الاجتماعي تُغَيِّر أشكال التعبير «الميديا» الراهنة: الجيل الجديد يكتشف تراثه (عناية جابر)

 

عناية جابر

لمواقع التواصل الاجتماعي عيوب كثيرة، ولا شك، يضعها العديد من المتشككين من العامة والخاصة على السواء. إنه وقت ضائع، يقول أعداء هذه المواقع. التعلق بها يجعل المستخدم مدمناً عليها بمعنى من المعاني، إذ يستطيع المرء من دون أن يدري أن يقبع أمام الشاشة متسمّراً لساعات طويلة، ينسى خلالها مشاغله وارتباطاته وجميع علاقاته الفعلية. وإذا كان من المستحيل ربما ردّ حجج المتشككين هؤلاء على هذا الصعيد، فإنه من السهل بالمقابل أن يواجههم بأهمية هذه المواقع في تعريف الجمهور، بكل أجياله، بالفنون والآداب والموسيقى والرسم وكل أنواع الخلق والإبداع.
وهنا على المرء أن يعترف بالدور الهام الذي تقوم به تلك المواقع، ومن دون أن تدري حتماً، في التعريف خصوصاً بألوان الموسيقى المختلفة الألوان والمصادر والحقبات. من حسن حظ هذا الجيل ربما أنه يجد الموسيقى على قارعة الطريق تقريباً. كانت الأجيال السابقة تتعرف على أغنية أو لحن موسيقيين من زمن ولّى عن طريق الصدفة والاكتشاف. وسوف يتفاجأ شباب اليوم، الذين يستطيعون بكبسة زر أن يستمعوا الى أي أغنية لأي مغنٍ، منذ بدأت عمليات تسجيل الأغاني والألحان، حين نقول لهم إن عصرنا شهد هواة متخصصين بجمع الأغاني والألحان القديمة «النادرة» والفريدة. نعم كانت الأغنية إذا ما قطعت بضع سنين من حياتها تصبح فريدة ونادرة. ولن أخبركم كم كان فخر الذين يملكونها عظيماً.
أضف الى الفخر نوعاً خاصاً من البخلِ المشوب بالحرص على الرزق النادر، فكنت لا تستطيع لا استعارتها ولا سماعها في أي وقت تريد. فقط عندما يقرر صاحبها، بفروسية مشبوهة ومتباهية، أن يدعوك الى جلسة يسمح لك فيها بمشاركته شرف سماع أغنية نادرة، أو لحن قديم، أو تسجيل خاص لأحد قدامى الفن الموسيقي. وكم يكون فرحك عظيماً عندما تنجح بوسيلة ما في الحصول على عمل نادر أيضاً، الأمر الذي يمنحك حظ الإعلان عن ذلك والتباهي به أولاً، ثم المفاوضة على مبادلة نسخة منه مقابل نسخة من عمل نادرٍ يحتكره صديق لك آخر كان يصر على احتكاره له.
قبل انتشار ظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي كانت العلاقة بالفن نخبوية تخص مجموعة من الهواة الأغنياء بشكل خاص او أصحاب الحظ السعيد بالصدفة. كانت العلاقة بالفن تشبه علاقة الأثرياء بالفن التشكيلي مثلاً. وهي علاقة طريفة بعداوتها لهدف الفن وإيصاله كما يقال. فكلما كان العمل ناجحاً كلما اختفى عن عيون الناس لتقتنيه قلة ثرية تعمل على إخفائه وعرضه على قلة من المعارف. وكان كلما ندر احتكاك الجمهور الواسع بفنه كلما زاد جهله به وبالتالي بغضه له. أما إذا تسنى له الاطلاع عليه فيستغربه ويشعر تجاهه بنوع من الغربة الذائقية الصريحة.
في علاقة القطيعة هذه ثمة جانب آخر أكثر خطورة. وهو الجانب المتعلق بالتراث الفني. فإذا كان من شبه المستحيل الوصول الى الفن الراقي المنتج حديثاً فما بالك بالوصول الى التراث الفني الأكثر قِدماً. قبل ظاهرة المواقع الاجتماعية كان من الأسهل على المرء أن يفوز بورقة الحظ من أن يصل إلى الفوز بدور «إنت فاهم قلبي تاني يرقلك» للكبير زكريا أحمد.
الصلة مع الفن صلة معقدة عادة من حيث المبدأ، تعترضها مجموعة من العوامل لها صلة بالمال والإمكانيات المادية أو الثقافية، والتوافر التجاري السهل والموقع الاجتماعي وما إليها. لكن الأمور تتعقد أكثر في هذه الصلة عندما تبرز إلى السطح مدارس جديدة وإبداعات تخرج على المألوف والسائد مما يستدعي جرعة من الثقافة والانفتاح والتعود ليست متوافرة للجمهور الواسع بسهولة، فتبقى حكماً محصورة في بعض الأوساط الضيقة.
والأمر ذاته يطرح في مسألة التعامل مع التراث الذي يبدو للجمهور الحالي الواسع غريباً لا بل متخلفاً في بعض الأحيان عما هو سائد. هناك مثلا أنماط من التفكير جعلت في فترة معينة من أسطورة الغناء والصوت والأداء، الراحلة أم كلثوم، صوتاً من المعيب سماعه لأسباب تزعم الحداثة والتطور. فكان البعض من المعارف يخرق هذه القواعد «المعرفية» سراً للاستمتاع بها وعلى نحو فردي. بينما يلفتك اليوم، ومع انتشار وسائط التواصل الاجتماعية الحديثة ظاهرة الاستماع الجماعي للأغاني التراثية التي يكتشفها الشباب حديثاً، فتراهم يتواعدون سوية على الموقع الاجتماعي، ويختارون أغنية من بينها ويروحون يتذوقونها جماعياً كل أمام شاشته وفي الوقت ذاته، مع إضافة تعليق مكتوب من وقت لآخر حول تفصيل لفته أو تعبير عن إعجابه بالأداء أو بالصوت أو بالجملة الموسيقية.

تشكيلة هائلة

على مواقع التواصل اليوم الكثير الكثير من الصفحات المتخصصة بكل أنواع الفنون، من موسيقى وفن تشكيلي وسينما ومسرح وغيرها. وتهتم هذه الصفحات بشرح خصائص الفنون والمدارس وتقدم تشكيلة هائلة من الأمثلة والنماذج مما ييسر على غير المطلع إمكان التعلم والتعود على فنون وفنانين من أجيال متعددة ومتنوعة. مع عصر التواصل الجديد حضر الفن إلينا بيسر وبساطة بعد أن كان من متاع الخاصة من القوم. صفحات «الفايسبوك» مثلا تعج بالأغاني واللوحات والفلسفة والأفكار والرقص وجميع انواع التعبير.
لم تعد فتحية أحمد سراً مغلقاً او ثروة دفينة، كما لم يعد محمد مرعي مغموراً لدى جمهور الشباب اليوم، فتراهم يترنمون بـ«لأ يا حلو لأ»، كما لو صدرت اليوم صباحاً. وبدأت عزيزة المصرية أو ماري جبران تداعبان آذان الشباب في «اوعا تكلمني» و«آمنت بالله». ولم يعد محمد عبد المطلب سجين جيل قديم يعتمر الطربوش، بل صار من حواضر بيت سهرات الجيل الجديد الذي يكتشف يوماً بعد يوم تراثه كما أغاني آبائه وأجداده.
وليس بمفاجئ أن تعود اليوم فتسمع أغاني الجيل القديم على لسان مغنين جدد شباب ولو بطريقة سريعة الإيقاع و«حديثة» كما يقولون. لكن اضطرارهم الغرف من الجذور ظاهرة يتزايد توسعها ودليل يعبرّ بدون أدنى شك عن قوة مواقع التواصل الاجتماعي في حمل التراث وجميع ما ينتج حديثاً الى الجيل الحالي والترويج لهما بنفس المستوى والحجم.
إذا كان صحيحاً القول إن هذه المواقع قد سهلت الى حد كبير إمكان الوصول الى الأعمال الفنية بقديمها وجديدها، وضيقت الدور المادي في الحصول عليها «افتراضياً بالطبع»، فإن من الصحيح أيضا القول إن ذلك الوصول دونه دائماً عقبات ثقافية وأُذُنية وأشكال سائدة بقوة الصورة التلفزيونية الحديثة هي أيضًا. لكن من الإنصاف كذلك الاعتراف بهذه الثورة التواصلية التي من غير الممكن ان تبقى بدون آثار على أشكال الخلق والإبداع ذاتهما. من غير الممكن أن تتيح هذه الوسائط تقصير الأزمنة كافة بين العمل الفني والجمهور من دون أن تقود إلى تغيير ما في أشكال التعبير ومحتواها. لكن ذلك موضوع آخر.
لم يمض وقت طويل بعدُ على الزمن الذي كان فيه الراديو أحد أهم الوسائط، لا بل الوحيد، الذي ينشر ويروج للأغنية في العالم ويحدد أشكال الموَض الذوقية والسماعية التي يجب أن تسود. كان هذا الاختراع العجيب يسمعنا ما يريد ويحجب عنا ما يريد ايضاً. وكان تبعاً لتكاثر الفنانين والمبدعين يوسع من المساحة المفردة لهم فتضيق بالنسبة ذاتها فسحة الأغاني التراثية او حتى السابقة فيغرقها بالنسيان.أما اليوم فلم يعد بإمكاننا القول مع السيد درويش «ضيعت مستقبل حياتي» بل «وازداد عليي اللوم وكتر البغددة». فتبغددوا.

صحيفة السفير اللبنانية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى