وقود الزمن
” النار متعجرفة…لانها تستطيع حرق الكتب “
منذ اندلاع الحرب في سورية 2011 كنت أعرف ، كمنجّم ، أو كغراب البين ، أن هذه الحرب سوف تلتهم سورية بكل أنواع الأنياب والأضراس ، وأدوات الفتك ببلد قديم ولم يعد قِدَمه يشفع له بشيء.
لدي مكتبة بدأت أشفق عليها من الإهمال. رفوف مكدسة ومكسورة من ثقل الكتب التي رتبتها صفين صفين في كل رف. غبار لا سبيل إلى إزالته، لصعوبة تفاصيل التنظيف. كتب من كل عائلات المعرفة ، ومن كل أصناف الكتابة ، ومن كل أنواع القياسات والسماكات والقِدَم.
أحياناً كنت أقول: سأنظفها.
أحياناً كنت أقرر: سأرتبها.
أحياناً كنت أنوي: أن أفهرسها.
وأحياناً كنت أقول سأفرز غثها من ثمينها للتخلص مما لم يعد ينفع في شيء.
وفي كل الأحيان كنت أنظر بعاطفة غريبة للعناوين والأشخاص والكتّاب، وأقرأ بحنين مؤلم إهداءات أصدقائي الشعراء والكتّاب على صفحة كتبهم …الكتاب الأول والثاني والعاشر. ومعظم هذه الإهداءات تروّج لفكرة مضيئة ، ولزمن قادم ، وأحياناً تؤشر إلى الهاويات السحيقة التي في انتظارنا نحن وما نكتب.
وبمفعول هذا الحنين… كنت أصرف النظر عن ترتيب وتنظيف وفرزوفهرسة هذه المكتبة.
مضت السنوات…
ثمة كتب اقتنيتها قبل خمسين عاماً. ثمة كتب عانت الرطوبة والتمزق، وهي تمضي معي من بيت في حي الفحامة إلى ملحق في المجتهد إلى سطح في القصاع إلى مساكن برزة…. إلى أخيراً، مشروع دمر، حيث رفعت كرتونات الكتب بالحبال إلى الشقة على الهيكل في الطابق السابع، ثم بعد شهرأغلقت الباب ومضيت إلى خارج البلد، ولم أفتح الكراتين إلا بعد عشر سنوات… حينما انتهت “الخدمة الاختيارية ” للمنفى .
بعد عدة سنوات، تقرر في مجلس العائلة أن تكون المكتبة أكثر ترتيباً ونظافة وقابلية الاستخدام… وحاولوا إقناعي بخطوة واحدة: وهي : رمي ما ليس نافعاً أو قابلاً للاستعمال.
كنت أعلم أن الانترنت وغوغل قد أزاحت الموسوعات ووضعت عالم المعرفة في متناول الجميع، وكذلك كل أنواع الإبداع في كل شيء ، مع الاعراض الجانبية التي لخصها ” بيل غيتس “بهذه الجملة : “وفرة المعلومات …أدت إلى ندرة الانتباه”.
قلت لهم: كل هذا الورق ضروري. ليس لأنه يحتوي على الكلام. بل لأنه ينطوي على النار.
كنت أفكر، بذلك اليوم الذي سنحتاج فيه إلى التدفئة بالمجلدات، التي علمتنا . وإلى الطبخ بالكتب التي كانت غذاء أروحنا . وإلى الإضاءة في ممرات الليل القديم البهيم ، قبل اختراع الكهرباء.
كل ما كنت أرجوه هو ألا أضطر، ذات يوم ، إلى التدفئة بمجلدات مختاراتي العزيزة… والى بيع كتب أصدقائي الراحلين.