وللأنثـــــى مثل حظّ الذّكـــــــر
وللأنثـــــى مثل حظّ الذّكـــــــر ! بمناسبة عيد المرأة في البلاد التونسيّة (في 13 آب/ أغسطس الفائت) اقترح الرئيس قائد السبسي مسألتَين على غاية كبيرة من الأهمّية في دولة يُشير دستورها إلى أنّ دينها الإسلام وأنّها مسؤولة عن رعاية الدّين ومُمارسة الشّعائر الدّينيّة ومُلتزِمة بحماية المقدّسات ومنْع النّيل منها. وهاتان المسألتان هما المساواة بين الرّجل والمرأة في الميراث وزواج المُسلمة بغير المُسلم. وقد قُرّ في الضّمير الجمْعيّ الإسلاميّ أنّ الأحكام الشرعيّة في هاتَين المسألتَين هي أحكام ثابتة غير قابلة للتبديل.
المُلاحظ أنّ بعض البلدان في العالَم العربيّ التي سعت بعد الاستقلال، في النصف الثاني من القرن العشرين، إلى تأسيس الدولة المدنيّة على المثال الغَربي المتقدّم، قد شهدت تراجُعاً مُخيفاً في بداية العشريّة الثانية من القرن الحادي والعشرين، أي بعدما طفا على السّطح ما يُسمّى بـ “الثورات” أو “الربيع العربي”. فقد نشأت أحزابٌ جديدة ذات مرجعيّات دينيّة متشدّدة، وتولّت أحزابٌ دينيّة أخرى تسيير شؤون الدولة في بعض البلدان (حزب النهضة في تونس، وحزب الإخوان المُسلمين في مصر)، ونشطت الحركات الجهاديّة، وقتلت وروَّعت ودمّرت بتواطؤ أحياناً مع بعض أجهزة الدولة.
وقد أثارت مُبادرة الرّئيس السبسي وللأنثـــــى مثل حظّ الذّكـــــــر جدلاً كثيراً في وسائل الإعلام المُختلفة، ولدى الشرائح المتنوّعة من الشعب التونسي، وعبّرت بعض الأطراف عن مواقف مُتباينة من المسألتَين، منها المؤيّد ومنها الرّافض والمُستنكِر.
وللأنثـــــى مثل حظّ الذّكـــــــر – المَواقف المؤيّدة
إنّ المواقف المؤيّدة مهمّة وإن كانت قليلة لأنّها صادرة عن مؤسّستَين دينيّتَين هما دار الافتاء في البلاد التونسيّة والجمعيّة التونسيّة للوعّاظ. وقد عبّر عن الموقف الأوّل الشيخ عثمان بطّيخ مفتي الجمهوريّة الذي يرى أنّ باب الاجتهاد في الدّين مفتوح وأنّ شرع الله في الشأن الاجتماعي والحياتي يمكن أن يتغيّر ويتطوّر، فيقول: ” إنّ الدّين فتح باب التّجديد والاجتهاد، والمساواة في الميراث، وزواج المسلمة بغَير المسلم من الأمور التي تدخل في باب التّجديد بما يتّفق مع مصلحة النّاس ومقاصد الشّريعة” (جريدة الشّروق، يوم الاثنين في 21 / 8 / 2017).
أمّا الجمعيّة التونسيّة للوعّاظ، فأكّدت أنّ المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة من مقاصد الشريعة حين تتوافر ظروفه. ونفى أعضاء الجمعيّة وجود نصّ يحرِّم زواج المسلمة بغير المسلم (الكِتابيّ). وقد علّلت مواقفها بتغيّر أحوال المرأة في الحاضر عمّا كانت عليه في الأزمنة الغابرة إذ “أصبحت المرأة تُسهِم في صنع الثّروة وفي الإنفاق، ولم يعُد من مجالٍ لانتقاصها في الميراث” (جريدة الشّروق، يوم الجمعة 25/ 8 / 2017). وأكّدت الجمعيّة أنّ المساواة في الإرث بين الذّكر والأنثى تندرج من ضمن العدل الإلهي، واستدلّت على ذلك بعددٍ من الآيات القرآنيّة وتعليلات الفقهاء القدامى والمحدثين القائلة بإمكان المُواءَمة بين النّصوص المتعلّقة بالميراث أو بزواج المسلِمة بغير المسلم وبين الواقع المَعيش.
يبدو أنّ أصحاب هذا الموقف استندوا إلى ثلاثة عوامل رئيسة: أوّلها مقاصد الشّريعة، ومن أهمّها إثبات العدل الإلهي، فقد وردت آياتٌ قرآنيّة تؤكّد العدل الإلهي، وجعلت العدل اسماً من الأسماء الحسنى لله، لذلك لا يُمكن لمَن يتّصف بهذه الصّفة ويدعو إلى العدل أن يكون ظالِماً، وفي التمييز بين الذكر والأنثى ظلمٌ واستنقاصٌ من كائنٍ خلقه الله ونفخ فيه من روحه.
ويتجلّى العامل الثاني في الاجتهاد في الدّين وأحكامه، وأصحاب هذا الموقف يعتقدون أنّ باب الاجتهاد مفتوح وأنّه ليس من الحكمة أن يظلّ علماء الدّين والفقهاء المحدثون والمعاصرون عالة على ما استنبطه القدامى من أحكامٍ مقلّدين لهم في كلّ شيء، والحكمة تقتضي أن يجتهدوا في ما يطرأ في زمانهم من قضايا ونوازل مثلما اجتهد السّابقون في استنباط الحلول المُلائمة للقضايا التي تطرأ في المجتمع.
أمّا العامل الثالث فيتمثّل في تبدّل الأحوال وتغيّر الواقع المادّي المعيش. فحالُ المرأة عند نزول آية الإرث “لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ” (النّساء 4/11 و176) لم يكُن مثل حالها في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. فقد كانت في جميع أحوالها تقريباً خاضعة لسلطة الرّجل، تابعة له، غير مستقلّة بنفسها عنه، وكانت تنهض بأعمالٍ لا تتجاوز عتبات البيت، وكان الرّجل قَوَّاماً عليها ومُفَضَّلاً بما كان ينفقُه من كسبه وماله، وقد جاءت الآية “الرِّجَالُ قَوَّامُون عَلَى الِنّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ” لتصف هذه الوضعيّة (النساء 4/34). وممّا جاء في تفسير الطّبري (ت 310 هـ) لهذه الآية: “يعني بما فضَّل الله به الرِّجال على أزواجهم من سوقهم إليهنّ مُهُورهُنَّ، وإنفاقِهِمْ عليهنّ أموالهم، وكفايتهم إيّاهنَّ مُهُورهُنَّ” (جامع البيان عن تأويل آي القرآن، المجلّد4، الجزء5). إنّ دَور المرأة كان في زمن نزول الآية محدوداً جدّاً ويكاد ينحصر في شؤون البيت، وهو ما جعلها عالة على الرّجل في إنتاج الثّروة والإنفاق. أمّا في زمننا فقد صارت تنافس الرجل في جميع الأعمال، وتنتج الثّروة، وتسهم في الإنفاق من مالها، بل إنّنا نجدها في حالات كثيرة المنفِقة على الأبناء والرّجل في آن، وتشغل المناصب التي كانت حكراً على الرجال (ملكة، وزيرة، رئيسة دولة، جنديّة، شرطيّة، رياضيّة، طبيبة، مُهندسة، معلّمة، أستاذة، إمرأة أعمال femme d’affaires… إلخ). لذا صارت المرأة تمثّل نصف المجتمع وأحد الجناحيْن اللّذَين بهما تطير الدّول وتزدهر. ولهذه الأسباب كُلّها يكون من باب المنطق والعدل الاجتماعي أن يكون حظّ المرأة من الميراث مساوياً لحظّ الّجل. وقد تبيّن لنا من تاريخ الحضارات أنّ الأُمم والشّعوب والدّول لا يمكن أن تتقدّم وتزدهر إذا كان أَحَدُ جناحَيها مُعطَّلاً.
وللأنثـــــى مثل حظّ الذّكـــــــر – المَواقف المُعارِضة
لقد كان طرح مثل هذه القضايا مستنكَراً ومثيراً لكثيرٍ من الجدل لدى المنتمين إلى حزب النّهضة وقياديّيها، وممّن خاض في هذا الموضوع القياديّ عبد اللّطيف المكّي الذي نفهم أنّ موقفه من هذا الطّرح هو الرّفض، وقد علّل ذلك بأنّ رئيس الجمهوريّة “طَرَح موضوعاً خاطئاً في الوقت الخاطئ”، فالأمر الشرعيّ في المسألة بيِّنٌ، ومَوقف حزب النّهضة واضحٌ، وهذا المَطلب لا يمثِّل مشغلاً من مشاغل الشعب التونسي، فيقول: “بخصوص ما دعا إليه رئيس الجمهوريّة لا أقدّر أنّه يمثّل مشغلاً من مَشاغل الشعب التونسي، فليس هناك ضجرٌ اجتماعيّ من أحكام الميراث في تونس أو مطالبات سوى إثارات قليلة جدّاً. وموقف حركة النهضة على غاية الوضوح، مرجعيّتنا إسلاميّة، والدّستور ينصّ على ضرورة أن يحْتَرَمَ الدّين الإسلاميّ ومبادؤه في التّشريع، فنحن إذن مع الاجتهاد في النّصوص التي تحتمل التّأويل، غير أنّ هناك نصوصاً واضحة لا جدال فيها ولا تتطلّب كنسيّة في الإسلام أو كثيراً من العِلم لأنّها استقرّت في كيان الشّعب” (جريدة الشروق، يوم الخميس في 17 / 8/ 2017).
ولا يختلف موقف بعض المؤسّسات الدينيّة الرسميّة حيال مبادرة رئيس الجمهوريّة وللأنثـــــى مثل حظّ الذّكـــــــر عن موقف القيادي في حزب النّهضة عبد اللّطيف المكّي، ونذكر من هذه المؤسّسات جامعة الزيتونة التي أصدر مجلسها بياناً رفض فيه أعضاؤه مقترح رئيس الجمهوريّة باعتباره مُخالفاً للدستور ولتعاليم الإسلام، ونبّهوا الرئيس إلى ضرورة استشارة أهل الاختصاص في هذا الموضوع تفعيلاً لوظيفة المؤسّسات الدينيّة والعِلميّة في البلاد المُمثَّلة – بحسب رأيهم- في وزارة الشؤون الدينيّة وجامعة الزيتونة والمجلس الإسلامي الأعلى ودار الإفتاء. وطالَب أعضاء المجلس من المفتي في البلاد التونسيّة أن يبيِّن الحكم الشرعيّ الموصول بالمسألتَين المطروحتَين.
وأصدر عددٌ من علماء جامع الزيتونة وشيوخه وأساتذةٌ جامعيّون مختصّون في علوم الشّريعة بَياناً اعتبروا فيه ما دعا إليه رئيس الجمهوريّة طعناً صريحاً “لثوابت دينيّة لا مجال لتبديلها”، لذلك دعوه إلى التّراجع فيها باعتبارها مبادرة خطيرة (جريدة الشروق، يوم الأربعاء 23 /8 / 2017).
أمّا موقف بعض المنخرطين في حزب النّهضة، فيمكن أن نتبيّنه من خلال الرسالة التي وجّهها إمام جامع اللّخمي في مدينة صفاقس رضا الجوّادي إلى الشيح عبد الفتّاح مورو يطالبه فيها بمراجَعة موقفه من مُبادرة رئيس الجمهوريّة، وقد جاء فيها: ” الحمد لله وحده، بعد إعلانك في وسائل الإعلام عن موقف صادم من خطاب السبسي الأخير حول زواج المُسلمة بغير المُسلم، اسمح لي أن أوجّه إليك هذه الرّسالة تبياناً لما أراه حقّاً، والله أعلم، وأدعو الله أن يكون عَملنا جميعاً خالِصاً لوجهه الكريم”. في حين شنَّ محمّد الهاشمي الحامدي، رئيس حزب تيّار المحبّة، حرباً إعلاميّة شعواء في قناته التلفزيّة “المستقلّة” على القائد السبسي ومُبادرته.
إنّ هذه المَواقف بنَوعَيها، المؤيِّدة والرّافِضة لا تعدو أن تكون رجع صدى لما كان يُتداول بين المفكّرين التونسيّين في النّصف الأوّل من القرن العشرين في موضوع المرأة، ومن أشهر ما أُلّف في هذا الغرض كِتاب محمّد صالِح بن مراد “الحِدَاد على امرأة الحدّاد”(1931)، وقد تهجّم فيه صاحبُه على أفكار الحدّاد الدّاعية إلى تحرير المرأة ومساواتها بالرّجل، فطعن في دينه وأخلاقه. وقد ألّف الطّاهر الحدّاد كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” سنة 1930، ونادى فيه بتحرير المرأة وأكّد أنّ الإسلام لا يقف ضدّ تغيير وضعيّتها وذلك بالتّعليم والتّشغيل والمساواة مع الرّجل في الحقوق والواجبات والتمتّع بمَباهج الحياة.
وقد تدعّم رأي الحدّاد في حرّية المرأة ومساواتها بالرّجل بالقرار السياسي الذي أصدره الرّئيس الحبيب بورقيبة في مجلّة “الأحوال الشّخصيّة” سنة 1956.