فن و ثقافة

وليد إخلاصي وهو يحمل هموم البشرية

(كل ما أحب يبتعد عني

وكل ما أبغض يقترب مني)

ولكن, لا الموت ولا الغياب, ولا الفراق ولا الإهمال ولا النسيان يمكنهم تغييب الكبير وليد إخلاصي الذي وضع مشروع حياته لا بل أمضى حياته كلها, شاهراً قلمه من أجل الانسان… وبناء عالم الانسان- حالماً ومناضلاً من أجل وطن حر وشعب سعيد.

شهور مضت على التحاق الكبير وليد إخلاصي بالرفيق الأعلى, لكن صورته مازالت وستبقى مشعّة في أذهان القراء والنقاد والزملاء والأصدقاء.

نُحيِّي ذاكراه اليوم . والحق أقول أننا نحيي ذكراه كل يوم, مادامت كتبه الكثيرة بمضامينها الكبيرة الغنية من قصص وروايات ومسرحيات ومقالات ودراسات بين أيدينا وما زالت تنير المكتبات الكثيرة في أرجاء الوطن العربي من المحيط الى الخليج.

وفي يقيني إن حياة الانسان لا تقاس بعدد السنين التي عاشها, بل تقاس بامتلائها, بخصبها, بنضجها, بعطائها, تقاس بما تركه الانسان, وبما أنجزه من جليل الأعمال. والكبير وليد اخلاصي ترك إرثاً ابداعياً أدبياً ثقافياً غنياً رائعاً ضخماً أغنى المكتبة الثقافية والأدبية العربية.

والجدير بالذكر, إن حياة المبدع وليد إخلاصي بعمله وعلمه وفكره وإبداعه, وكيانه, ووجدانه كان في قلب العصر, وكان شاهداً على هذا العصر, بكل أحواله وظروفه, منذ انطلاقته الأولى في مطلع ستينيات القرن الماضي, ومجموعته “قصص” الصادرة عن مجلة شعر في بيروت, التي بشّرت بولادة أديب واعد ومجدد, وتلتها رواية” شتاء البحر اليابس” لتبشّر أيضاً بروائي شاب جدّد في الشكل والمضمون.

قدّم رواية د.عبد السلام العجيلي. وكتب عنها إدوار البستاني قائلاً: “ميّزة إخلاصي أنه كالساحر الحاذق الذي يختلف عن الرجل العادي, يُتعب القارئ ويرهقه, ويهزّه هزات عنيفة تخرجه من عالمه الأليف ومن ثيابه أيضاً.

آمن وليد إخلاصي بمقولة ” الموضوع يختار شكله” وقد ردّد هذه المقولة, وعمل بها . لهذا نجد في منجزه الإبداعي القصة والرواية والمسرحية والمقالة والدراسة بالإضافة الى منجزه هذا كتب دراساتغاية في الأهمية, مثل: المتعة الأخيرة, والسيف والترس, في الثقافة والحداثة, والمربع والدائرة, فضلاً عن مئات الزوايا الصحفية.

تشتهر حلب بأبوابها الثمانية: باب الأربعين,باب النصر, باب الجنان, باب أنطاكية, باب قنسرين, باب السرّ, باب العراق, وباب الفرج. أما الباب التاسع- باب الجمر فهو من اكتشاف وليد إخلاصي, الذي أرسل أبطاله الطيّبين يبحثون عن سرّ باب الجمر, وجلس يكتب روايته التي سماها باب الجمر. في هذه الرواية صور وليد عالمين: عالم الفقر المدقع وعالم التخمة, رسم القصر والكوخ, فضح مجتمع الخبثاء, مقابل جموع الطيبين, وفي الوقت نفسه عرّى التجار والسماسرة… مبرهناً أن الفقراء هم مصدر المحبة, والطيبة والتسامح والخير. في بحثه عن سرّ باب الجمر, كان وليد يبحث عن القيم الأخلاقية, ويحارب الجشع. أما موضوع روايته (زهرة الصندل) ومضمونها فهو- محبة الوطن هي العزاء الأكبر الوحيد. وكانت رحلة (الحنظل الأليف) هي البحث عن الحرية. وجسّد في (بيت الخلد) الحلم الضائع المنكسر. وتبرز (دار المتعة) كواحدة من أهم الروايات العربية, فدار المتعة هي الحياة ذاتها, ودور الانسان فيها. وكانت أحزان الرماد تنبيهاً مبكراً لإحباط الشباب.

أما روايته (ملحمة القتل الصغرى)فهي تشكل ملمحاً هاماً وعلامة فارقة في مسيرة وليد الإبداعية على صعيد الشكل والمضمون. عند هذه الرواية يجب التوقف والـتأمل طويلاً, إذ يفضح الأستاذ وليد فيها (تأليه) المال … وفي الوقت نفسه الكشف عن الغرائز القبيحة الكامنة في النفس البشرية, أهمها غريزة القتل, ولا أخطئ إن قلت: كانت هذه الرواية قراءة ونبوءة وجرس إنذار قبيل التراجيديا السورية, إذ رسمت الخراب القادم في حلب, وما جرى في حلب خير دليل وبرهان.

ابن حلب هو وليد ترعرع وعاش وعمل وكتب فيها. حقاً كان يسكنها ولا أبالغ إن قلت أو هي تسكنه, وقد أحبّها, وانقلب حبه لها هاجساً من هواجسه, فلا يكاد عمل فني من أعماله يخلو من ذكر حلب, سيقع القارئ حتماً, على ذكر شارع من شوارعها, أو حي من أحيائها, أو ساحة من ساحاتها, أو مقام من مقاماتها, أو خان من خاناتها, أو سوق من أسواقها, أما قلعتها الأثرية المشهورة فهي المعشوقة أبداً, بها يتغنى ولها ينشد, ويغدو هو العاشق الصوفي الذي يصلي في محرابها. فهو يرى فيها ومن خلالها : تاريخاً, حضارة, وشاهداً معمارياً, أثرياً, عريقاً, وحصناً عربياً منيعاً صدّ هجمات الروم, ومنبراً عالياً ألقى من عليه أبو الطيب المتنبي أجمل أشعاره … والحق أقول: إن حبّه هذا لحلب وقلعتها, ليس حب العاشق الذي لا يعرف لماذا يحب, بل حلب والقلعة عنده- هما رمز الوطن الأم, الذي يجب أن نتغنى به وله ننشد والذي يجب الحفاظ عليه مثل بؤبؤ العين.

وكما اكتشف الأستاذ وليد باب الجمر, فقد أضاف خاناً جديداً على خاناتها الكثيرة, لقد بنى خان الورد وجسّده تصويراً رائعاً, اذ استخدم ألوان رسام, وإزميل نحات بارع, وألحان موسيقى مغرم عاشق.

خان الورد- صرخة, دعوة, نداء, للحفاظ على الآثار القديمة والأوابد  التاريخية في مدينة حلب التي هي من أقدم مدن الدنيا والتي كانت حاضرة ثقافية وما زالت, ويجب أن تبقى.

من يتذكر قصته “نبتة الفريز” التي فضح فيها وليد إخلاصي تمدّد الفئة الطفيلية, وتغلغل المتسللين ومن ثم المتسلقين, وكيف عششوا في المجتمع, ثم عاثوا فساداً”

من يتذكر قصة “الأستاذة فاطمة” التي هي صرخة+ حشرجة وهي من القصص الاجتماعية الإنسانية الانتقادية- انها قصة “ذو العقل يشقى” وقد برع الأستاذ وليد في وصف معاناة الانسان المثقف, وجّسّد من خلال الأستاذة فاطمة معنى: الكفاءة, النزاهة, الشرف.

بقي أن أقول: لقد كتب وليد إخلاصي أكثر من خمسين مسرحية. فمن لا يتذكر سهرة ديموقراطية على الخشبة. وعن قتل العصافير.

ومقام إبراهيم وصفية, والصراط, كيف تصعد دون أن تقع وغيرها, وغيرها من المسرحيات الهامة.

إن وليد اخلاصي- المبدع, الكاتب, القاص, الروائي المسرحي, الأديب, الفنان, كان صاحب عقل نير مستنير وهو من الكتاب الطليعيين, فقد كان مؤمناً بالتطور والحداثة, والتقدم, والتجديد.

أن نقرأ وليد إخلاصي نشعر بأننا أمام انسان يحمل هموم البشرية, مدفوعاً بروح وطنية.

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى