ومضات ليلية عن الموسيقا و الفن
ما هي الموسيقا ؟ طرحت على نفسي هذا السؤال و انا أصغي في الليل وإلى موسيقا بعيدة مبهمة كنت وحدي جالسا في شرفة اطل على منظر عريض للسهول و الوديان و الجبال و الافاق النائية و الاضواء القليلة التي تمنحنا إياها القرى المرمية على السفوح و نجوم السماء.
خيل لي وأنا اصغي أن هذه الاصوات المبهمة هي موسيقا و إنني لو اغمضت عيني و استمتعت إليها في مكان أخر إذن لشعرت بأنني في الليل وحدي من جديد !… ماهي الموسيقا إذن؟
الموسيقا أصوات مجرد أصوات تتردد حسب نظام معين و إيقاع محدد توحي بشئ ما يمكن أن نلمسه أو نشمه أو نبصره أو نفكر فيه أو نشعر به ومن دون ذلك فالأصوات لا تشكل أكثر من ضجة لا معنى لها ولا تشعر معها إلا بالرغبة الشديدة في الهروب منها إلى ملاذ صامت يخطر على البال عندئذ هذا السؤال : ماهي الموسيقا التي تعبرعن الصمت ؟ كيف نؤلف أصواتا على الأجهزة الموسيقية من كمان و بيانو و عود أو قانون و الآت نفخ مختلفة كيف نعبر بهذه الادوات عن الصمت تمام ؟ هل يمكن إذن أن نعبر بالصوت عن عالم صامت تماما كالعالم الذي أراقبه الأن و أنا جالس في ظلام صامت و نسمي عملنا ها بأنه موسيقا؟…
الراوية أو القصيدة أو اللوحة أو أي عمل فني أخر هل أسمي هذا العمل فنا اذا لم يؤثر في كياني و يدفعني الى شعور ممتع أو إلى فكر عميق مثير؟… أقرأ تشيخوف فأراني مندفعا الى حب الناس البسطاء ثم أقرأ دوستويفسكي فأشعر مثلا بالرعب أو بعالم نفسي طافح بالمشاعر و الأفكار العميقة المتداخلة و المتضاربة ، و أقرأ المتنبي فأكاد أنهض للمطالبة بحقي في أن أفضح الفاسدين و المفسدين من رعية و حكام و أقرأ أبا نواس فأمد ساقي في جلسة إسترخاء و أنا أبتسم أو أضحك ، و أسمع أحيانا مقطوعة موسيقية سخيفة فأشعر بالرغبة في رفع دعوى ضد الملحن سعيا لاستصدار قرار بمنعه عن إزعاج الناس..
إذا لم نستطع أن نحد من أذى الكتاب و الفنانين الأدعياء التافهين و المضرين بالناشئة فما العمل ؟.. و حين لا أملك جوابا مقنعا أدخل إلى غرفتي التي تشبه المكتبة ، فأنزل من على رف قديم كتابا قديما قرأته منذ سنوات و ما زلت أحبه فأعاود قراءته أو أضع في جهاز الجراموفون أسطوانه لأغنية ” في الليل لما خلي” لمحمد عبد الوهاب أو” ليه يا بنفسج” لصالح عبد الحي .. ثم أغلق باب الغرفة على نفسي .. وأرحل بعيدا مع الغناء الشجي الذي إختفى و الألحان المطربة حقا و التي لم تعد مسموعة في هذه الأيام التعيسة …