ويليام آر كيلر: شارل ديغول الذي أرّق أميركا

 

الجنرال شارل ديغول شخصية فذّة مارست دوراً رئيساً في صياغة فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية. فهو الذي قاد المقاومة ضد الاحتلال بإعلانه قيام فرنسا الحرة بعد فضيحة الاستسلام عام 1940، وهو الذي تمكّن من فرض الاعتراف بفرنسا عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، وقاد بلاده لتكون قوة نووية مستقلة وغير ذلك من الإنجازات المهمة الأخرى.

والرئيس ديغول انتشل بلاده من فضيحة الهزيمة المنكرة التي لحقت بها عندما سقطت باريس أمام الجيش الألماني من دون مقاومة، مع أنها هي الطرف الذي أعلن، مع بريطانيا، الحرب على ألمانيا في عام 1939 وقامت قواتها باحتلال أراضي ألمانية من دون رد فعل من جانب برلين، ثم انسحبت منها بهدوء تام!

ديغول لم يكن سياسياً بل كان زعيماً قومياً فرنسياً فخوراً ببلاده وبفرنسيته، وهو ما كان يسبّب له متاعب مع حلفائه. نبدأ بمشاكله مع الرئيس الأميركي روزفلت المتحالف عضوياً مع بريطانيا، الذي كان يقاوم محاولات الرئيس ديغول استعادة بلاده مكانتها المرموقة في النظام العالمي الذي سبق الحرب. فروزفلت كان يريد أن تكون أوروبا بأكملها تابعة لواشنطن، أي مثل بريطانيا، كما كان يريدها أن تستنسخ النظام السياسي الأميركي، وهو ما رفضه ديغول.

صدام ديغول مع هنري ترومان ناتج ـــ وفق كتاب «شارل ديغول: شوكة في خاصرة ستة رؤساء أميركيين» (منشورات رومان أند ليتلفيلد ـ 2021) لويليام آر كيلر ـــ من المعوقات التي وضعها الأول أمام هيمنة واشنطن إبان الحرب البادرة. لكن الرئيس الأميركي كان منزعجاً أصلاً من الفرنسيين إبان زيارته بلادهم بعد الحرب العالمية الأولى، ورأيه بأنه وجدت مراقص ليلية كثيرة في فرنسا دوماً وفق المؤلف، طبعاً. انزعاج ترومان من ديغول جعله يستبعده من جلسات مؤتمر بوتسدام.

علاقة الجنرال ديغول بالجنرال دوايت آيزنهاور كانت عملية وناتجة من علاقة القائدين العسكريين إبان الحرب وتعاونهما فيها ضد العدو الألماني. وثمة سبب آخر لتلك العلاقة العملية هو تأييد الجنرال آيزنهاور لرغبة فرنسا الديغولية في امتلاك القدرات النووية القومية، وهذا ما اعترض عليه رئيس الوزراء البريطاني هَوَرْد مَكْمِلَن.

وجد الرؤساء دوايت آيزنهاور وجون كينيدي ولندن جنسن أن الرئيس ديغول يشكل تحدياً لقيادتهم للتحالف الغربي، رغم أنه لم يهدد أبداً بإحداث انفصال بين الحلفاء القدامى، إلا أنه كان يمثل عقبة دائمة أمام جهودهم لتعبئة العالم غير الشيوعي لمواجهة الاتحاد السوفياتي وحلفائه تحت القيادة المطلقة للولايات المتحدة. أثارت حملته المستمرة لفصل فرنسا عن تحالف شمال الأطلسي، الذي يهيمن عليه الأميركيون، احتمال تحوّل النظام الدولي الثنائي القطب بعد الحرب إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، مع ما كان يأمله بأن تكون أوروبا الغربية التي يهيمن عليها الفرنسيون وتؤكد استقلالها عن واشنطن. انتقاده اللاذع للمغامرة العسكرية الأميركية الإجرامية في فيتنام ودعوته لإجراء مفاوضات مع الحكومة الفيتنامية الشمالية، في عهد كينيدي أولاً، ثم في عهد جُنسُن، ولّدا ردود نوايا سيئة هائلة في واشنطن. لقد كان الحليف الوحيد لواشنطن في الناتو الذي انفصل علناً عن الولايات المتحدة بشأن هذه القضية. لقد سعى أولئك الرؤساء التنفيذيون الأميركيون الثلاثة إلى جذب فرنسا الديغولية للعودة إلى «الحظيرة»، وفشل كل منهم في القيام بذلك.

عندما دخل ريتشارد نيكسون، الرئيس الأميركي السادس الذي واجه ديغول، البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) عام 1969، أصبح الرئيس التنفيذي الأميركي الوحيد الذي يطور وجهة نظر محترمة وحتى مدح للرئيس الفرنسي. لكن هذا التحول الملحوظ توقف عندما استقال ديغول بعد أربعة أشهر.

ولا ننسَ، نحن العرب، مواقف الجنرال ديغول من الجزائر واعترافه بحقها في الاستقلال، إضافة إلى إدانته العدوان الإمبريالي-الصهيوني عام 67، ومواقف دولية علنية أخرى ميزت فرنسا عن حلفائها في الغرب، منها الاعتراف بالصين الشعبية وإقامة علاقات دبلوماسية معها، وإدانة العدوان الأميركي في فيتنام. كتاب مثير يذكّرنا بمحطات مهمة في العلاقات الدولية وعلاقات فرنسا بالمحيط العربي.

أخيراً، من المفيد التنويه إلى أن الكاتب أستاذ فخري في «كلية فريدريك باردي للدراسات العالمية» في جامعة بوسطن، وأن الحكومة الفرنسية منحته وسام فارس الاستحقاق الوطني، وشغل منصب رئيس «جمعية الدراسات التاريخية الفرنسية».

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى